Tahawolat
لو أن من استنتاج معرفي وجبت ملاحظته في ساحات الاحتدام العربي ,فسيكون في الكيفية التي استطاع فيها الايديولوجيون احتواء الشارع,و تحويل فعالياته الى طريق سريع لوصولهم الى السلطة.
دلّت التجربة المصرية , ولا سيما بعد وصول الأخوان المسلمين الى رئاسة الدولة , على أصالة الايديولوجيا ومكانتها في الواقع السياسي . ما يعني في الحصيلة المنطقية, أن  ميدان التحرير كان أشبه بجواز مرور فعلي مكّنهم - بما يمتلكونه من ميراث فكري وتنظيمي ذي جذور تاريخية ضاربة - أن يعبروا من خلاله الى فردوس الحكم.
كل ما قيل عن شارع مليوني تحركه تقنيات الانترنت  لها مالها من وزن في تحويل الحدث الجماهيري الى «خطب جلل»,لا يتوقف عند هذا الحد. فالذي يحرك الحشود ويضبط مشاعرها هو ذاك  الذي يقدر على أن يصنع لها الكلمات والمواقف ويرسم لغضبها العارم خطوط النهاية. وهذا هو الشيء الذي بيّنته النتائج على الإجمال... حيث وجدنا كيف استكان الشارع لضراوة الفاعل الإيديولوجي  واطمأن الى سحر خطابه. المثل التونسي أيضاً سيفتح الطريق على حالة عيانية  مشابهة كانت فاتحتها البطولة التراجيدية لمحمد بوعزيزي .الحالة التي لم تفتأ حتى نبّهت العقل الايديولوجي لحركة النهضة أن الساعة أذنت له للقبض على ناصية الحكم. وكما سيطر الأخوان في مصر , سيقدّر  لحركة النهضة ,  وهي سليلة الفضاء الايديولوجي نفسه, أن تحقق ما كان بالنسبة إليها ولزعيمها راشد الغنوشي  حلماً بعيد المنال .
سوف لن نجد كثير مشقة لنتعرف الى المغزى الذي آلت فيه حركة الشارع الى حصنها الايديولوجي.  ذلك على الرغم من شجاعة شباب الثورة الذين كسروا الخوف وواصلوا الزحف ببراعة نادرة .
 لكن القضية لا تتوقف عند حدود البطولة المسددة بتكنولوجيا التواصل والحث على ملء الساحات بأصداء الحناجر.  فلقد بدا كما لو أن الشارع يجري وراء الايديولوجيا ليملأ بواسطتها فراغاً لم يفلح بملئه طليعيو الشارع الأوائل . أولئك الذي دأبوا على إظهار شغفهم بالتغيير من خلال عوالم افتراضية لم تفتأ حتى تحوّلت مع سوء اهمال حقائق دامغة . الجدير بالملاحظة أن الكل كان يعمل ضمن ساحة مفتوحة على الاحتمالات . فما من أحد كان يتصور مشهد النهاية الذي سوف ترسو على حركة الشارع . لا شباب الثورة, ولا الجهاز الايديولوجي  لتيار الأخوان, لكن كل شيء كان يجري مجرى العقل الصارم , على الرغم مما ظهرت فيه الصورة وكأنها انعكاس  لانفعالات الجماهير وعواطفها.
من هذا الوجه لم يكن كل منخرط في المواجهات أيّاً كانت هويته الاجتماعية والسياسية , غافلاً عن الأهداف التي تحيّز لها. فالذي اختار الميدان مسرحاً للعبة الحرية على خطورتها كان يعي ويدرك ما يصنع. وكان العقل حاضراً بقوة لديه لكي يحقق الغاية التي من أجلها خاطر بالمنازلة . فالمسألة في حساباته لا تتعلق بمدى واقعية تلك الغاية أو إمكان تحققها.. المهم بالنسبة الى المتحيّز  - سواء كان منتمياً الى حزب أو جماعة أو كان فرداً غير منتمٍ لإطار تنظيمي أو تيار ايديولوجي - أنه يقوم باختباراته وهو في تمام وعيه . لذلك فلا ضير عنده أن يضفي المعقولية على ما لا يعتبر معقولاً في حسابات الخسارة والربح. فالمعقول عنده هو ما يفكر فيه ويرنو إليه بوصف كونه سبيلاً لخلاصه السياسي.
في وقائع التحولات , ما يؤكد أن السياسة , هي مركز الجاذبية لكل فاعل ايديولوجي.ذاك ان مقاصد الايديولوجيا كامنة  بالأساس في العناية المطلقة بالشأن السياسي الذي لا يعادله شأن آخر.  اي للغاية الفعلية  التي يسعى اليها المتحيّز في نضاله السياسي وهي: الحضور الفعال في خارطة التوازنات ,وصولاً الى  المشاركة في السلطة او السيطرة عليها. ولأن الايديولوجيا ذات طبيعة عملية, فإن فكرها هو من سليل هذه الطبيعة  بما يعني أن هذا الفكر يمثل في مقام التطبيق التجلي الفعلي للبراغماتية السياسية .وبهذا المعنى فهو «فكر لا يبحث أولياً عن الحقيقة المجردة في كمال ذاتها , وإنما عن الفكرة النافعة». فقد تكون الفكرة النافعة حقيقة أو نصف حقيقة , أو ظناً أو تشويهاً أو تشكيكاً , أو تمويهاً أو ضلالاً من الضلالات أو وهماً من الأوهام. و لكن النافع في السياسة هو في الدرجة الأولى ما يساعد على الوصول الى الحكم أو على المحافظة عليه. وكل تفكير ايديولوجي في السياسة هو تفكير انتفاعي, وليس ذلك سوى نتيجة لطبيعة السياسة نفسها.
لا نسوق هذه التغطية النظرية لطبائع الايديولوجيا وممارستها , إلاّ لنبيّن الكيفية التي آل إليها التحوّل الثوري في  عدد من البلاد العربية . فلقد ظهر في التجربة، والمصرية منها على الخصوص، قدرة الفعاليات المحصّنة بالفكر الايديولوجي على الإحاطة بالشروط الداخلية للحراك، ومن ثم احتواؤه على نحو متدرّج.
الحادث العربي الإجمالي لا يفارق سقف هذا التنظير .فإن خلاصته تشير الى قدرة الجهاز الايديولوجي على التهام كل ما هو أدنى حيلة منه, ولا سيما لجهة قصوره عن تفجير البؤر الكامنة في الوجدان العام . ونقصد به عموم البيئة الليبرالية التي وجدت ضالتها في منظمات المجتمع المدني.. ولو أن هذه الأخيرةتستعمل العناوين نفسها التي تشكل الارضية الاساسية للجهاز المذكور.مع ذلك فهذه البيئة لم تغادر الايديولوجيا بالمطلق، وكان ذلك واضحاً في شعاراتها ذات الطابع الرومانسي الثوري التي ملأت صفحات المواقع الالكترونية و مرايا الاثير اللامتناهي... ولذا فما كان  ينطبق على الأحزاب ذات السيرة الايديولوجية العريقة, (قومية واشتراكية واسلامية) ينطبق ايضاً ومن أوجه كثيرة على «شباب الثورة» وغيرهم ممن ينتمون الى «جيل الفايسبوك» و «التويتر» , وسائر تقنيات التواصل السياسي و  الإجتماعي، و ذلك على الرغم من أن أبناء هذا الجيل لا يمتلكون ملامح ايديولوجية واضحة في مبادراتهم الثورية .
الجدير ملاحظته في عالم هؤلاء أنهم وهم يميزون أنفسهم عن القوى السياسية والايديولوجية التقليدية بادروا الى الاحتجاج وملأوا الساحات والميادين وأفلحوا في اجتياز خرائط التحالفات والتوازنات التقليدية, حيث فشل الآخرون . بل ان جيل الفايسبوك  سيسهم في تحطيم جُدُرِ الخوف ويمهّد السبيل للكتلة الايديولوجية التقليدية (الأخوان المسلمون أساساً ) ان تتوغّل في أعماق المسار الثوري وتتحكّم بإيقاعاته ووقائعه.
في ميدان التحرير على سبيل المثال كان «الممهدون» ينفذون الجانب العملي من مهمة الايديولوجيا.و بهذه الطريقة كانوا يمارسون ضرباً من ايديولوجية مخصوصة من أهم خواصّها أولويةالعمل  الدؤوب على سحر الخطاب..
لقد أنجز شباب الثورة  في ميدان التحريرما كان ينبغي على الجهاز الايديولوجي والتنظيمي للأخوان أن ينجزه حتى يتسنّى له إدارة الانتقال المعقد من الشارع الملتهب الى القصر الرئاسي.و عند هذه النقطة من زحف الايديولوجيا المدوّي  سوف نسلّم بأن المهمة  كانت تاريخية ومعقّدة وشاقّة، ولكنها تتمتّع بقدرات إضافية على المناورة. ذلك أن «حركة الأخوان» لما حطّت الرحال في مقام الرئاسة لم تغادر الشارع , ولم تقطع معه صلات الوصل . فهو معها يؤازرها ويسدّد أفعالها , وستعود إليه وقت الضرورة عندما تستشعر خطراً قد يأتيها من الشارع نفسه.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net