Tahawolat

سيأتي يوم قد لا يجد الغرب فيه ذريعة لمعاركة الاعلامية والثقافية مع العرب والمسلمين سوى شعاره المستحدث «الحرب على الإرهاب».
ذلك يشير الى أن الفكر السلطوي في الغرب، استنفد أكثر مخزونه المعرفي في سياق إجراءات الهيمنة التي شغلته على امتداد الأحقاب الكولونيالية المنصرمة.
صورة الشرق، كما يراها الغرب ويشتغل عليها، هي صورة تكتظ بمفردات العنف. بينما يعكف جهازه الدعائي على قلب هذه الصورة ليجعل من الجغرافيا العربية والإسلامية حقلاً خصيباً لاستنبات ألوان جديدة من المباغتات الفكرية...
لقد لاحظ عدد من الباحثين في فلسفة "الميديا" المعاصرة أن لا شيء أكثر مدعاة لغواية التدخل المتجدد في المجتمعات العربية والاسلامية من ذريعة الحملة على الإرهاب والقضاء عليه. ولقد أفلحت الصناعة الاعلامية الغربية في إنجاز مساحة وازنة من عمليات توظيف ثقافة العنف على مدى عقود متواصلة.
المفارقة التي تظهر عند هؤلاء هي أن الإرهاب لم يعد مجرد مفردة وافدة من خارج، بل هي ستغدو مقولة تُسوَّق ويعاد إنتاجها بشغف نادر من جانب النخب المحلية. ولو كان لنا ان نمضي في استبيان القضية المطروحة لقلنا إن المشكلة لا تمكث في المبدأ الأخلاقي للموقف الذي يدين العنف الأعمى، فهذا من بديهيات الفطرة الإنسانية انَّى كانت انتماءاتها وهوياتها القومية والدينية والحضارية، وإنما في سياق الغزو الثقافي الشامل الذي يلعب فيه الإعلام دوراً حاسماً.
المشكلة – كما يقولون -  تكمن في السياق الذي تندرج فيه مقولة الإرهاب بوصفها مقولة صنعها العقل الغربي ومهَّد لها ارض المشرق العربي ومغربه. ثم مضى بها الى الحد الذي وجدت من يحملها عن ظهر قلب من المثقفين والخطباء والمفكرين. فلو نظرنا قليلاً الى (شريط الإخبار) من أوله، لَحَقَّ القولُ إن الحرب المفتوحة على الإرهاب، هي حرب الغرب على منتج صنعه الغرب نفسه بإتقان، ليجد له سبيلاً إلى استباحة المنطقة وتحويلها إلى ما هو ادنى الى مستوطنات تنوء بالحذر والقلق والعنف الأعمى.
قرأنا للصحافي البريطاني روبرت فيسك مقالاً في صحيفة «الانديبندنت»، حدّثنا فيه عما أسماه "دين الغرب الجديد" وفيه يتساءل: "لماذا لا يتوقف الغرب عن نشر القنابل وقذائف اليورانيوم المخصب على شعوب الشرق الأوسط، ولماذا لا يتوقف عن إرسال جيوشه لإحتلال أراضي المسلمين، وعن رشوة القادة العرب لسحق شعوبهم. ثم يضيف: ان العدالة لا تُصنع من المياه المالحة حيث لا يزال قادة الغرب يرغبون في أن يحكموا العالم وهم يخاطرون بأوضاعهم وسمعتهم ومستقبلهم السياسي وحياتهم. وكل ذلك بذريعة تسييل هذا المفهوم الغريب الذي يسمونه الحرب على الإرهاب، وهو في الحقيقة دينهم الجديد"...
لسنا نريد من اقتباس هذه الخلاصة من مقالة روبرت فيسك، إلا لنتبيَّن مبلغ نقد الغرب لنفسه حيال مقولة راحت تستحل البيئات الثقافية العربية وتترسخ في اعماقها. أما دلالة الأمر، فهي تتعدى البيان الإعلامي ذلك بأن سمي بـ "دين الغرب الجديد" المثقل بذرائعيته، هو ثقافة مستحدثة آخذة في التحول إلى نظرية معرفة لدى نخب واسعة جداً في عالمنا العربي والإسلامي، ثم لتتحول إلى فِتَنٍ شريدة في طول الارض العربية وعرضها.
من مفارقات هذا الفاصل الرمادي الذي تعبره المنطقة، ان «الانتلجنسيا العربية - الاسلامية» لم تستيقظ من غفلتها حتى وهي ترى وتقرأ ظاهرة النقد الذاتي التي يمارسها العقل الغربي لسلوك حكامه. وهذا لو دلَّ على أمر، فعلى مدى الاستباحة التي تضرب أعماق الثقافة السياسية في مجتمعاتنا.
ولنا أن نستقرئ بعض ما في الصورة لنرى الآتي:
لو قيل - وإن من باب التوصيف - إن ما يجري هو احتلال معرفي وغزو ثقافي، بلغ مراتبه القصوى مع ربيع العرب المدوي، لقيل للقائلين: ما جئتمونا بجديد. والكلام على الغزو الثقافي ما هو إلا توصيف رتيب لا يقبله عقل ولا يسِّوغُه منطق...
ثم انك لو جاريت هذا القول، ‌وسلَّمت جدلاً بما فيه، وسألت القائل عما لديه من تقدير للأحوال، أعرض عن كل جواب مقنع، او أنه، في احسن الاحوال، أتاك بجرعة زائدة من الغموض.
تلك على أي حال «مزية تفكيرية» أَلِفَتْها البيئات العربية على امتداد العهود الكولونيالية المتعاقبة، وهي غالباً ما تطفو على بساط الأحداث خصوصاً في المراحل التي تشهد الانتقال بين زمنين. كما هو حالنا اليوم . حيث زمن المنطقة اليوم، بتحولاتها، وثوراتها وحروبها الاهلية هو زمن الاحتمالات والظنون وانعدام اليقين. وهو بعبارات مقتضبة ذلك الزمن المفتوح على الانفعال والتلقي، والتنازع الاهلي. ولهذا فإن اكثر ما في المشهد الرمادي، سوف يحملنا على الملاحظة بأننا نقيم الآن في عصر المجتمعات المفتوحة على ضروب الاستباحة. بل لنقل إننا في طور متجدد من الغزو المركب. طور تتضافر فيه رغبات الخارج بقابليات الداخل واستعداداته، ثم ليعود الغرب ليستأنف فوضاه العمياء في بلاد لم تعد بالنسبة ‌اليه سوى حقول اختبار لأفكار وحروب من كل صنف ولون.
مثل هذا التضافر الذي ألمحنا اليه، هو عين ما يرمي اليه «دين الغرب المستحدث». أي الى حيث ينصرف الوعي السياسي في البلاد العربية والاسلامية عما هو حقيقي وواقعي الى ما هو متخيِّل وموهوم. بمعنى محدد وبيَّن: الاّ يغيب عن إدراك «النخب العربية والاسلامية». حقيقة أن الغرب لن يفلح في ممارسة ثقافة التفكيك ما لم يكن من اهل البلاد ومقرِّري ثقافاتها واستراتيجياتها من يشاطره الوظيفة والدور.
مثل هذا التوصيف ليس رأياً ينتظر الوقت ليُحكم عليه بالخطأ والصواب. ذلك بأن ما جرى ويجري في ساحات العرب وميادينهم سحابة الأعوام القليلة المنقضية يجعل من صُوَر التشظي والانتحار الذاتي امراً مرئياً رأي العين وواقعاً لا تشوب كارثيتَه شائبة.
لكن الغريب في الصورة، أن المعادلة باتت مقلوبة ومضطربة وقلقة الى درجة ان الشارع بغرائزه ولاعقلانيته هو الذي يقود النخب ويوجهها. حتى اننا لو عاينَّا حاصل الصورة لوجدنا كيف تنبري النخب لتعقلن جنون شوارعها الفالتة من كل عقال.
 
 
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية
 


 - محمود حيدر – عقيدة الغرب المستحدثة – البيان – دبي 26/4/2014.

 - روبرت فيسك "دين الغرب الجديد" – "الاندبندت" لندن – 15/4/2014.



آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net