Tahawolat

ما كان لفكرة أن تنال حظها الأوفى من التداول، كفكرة الديموقراطية . فلقد اتّخذت لنفسها مقاماً صار يُرى إليها كشريعة سياسية مفتوحة على الأبدية. حتى إذا بلغت، في مكان ما، وزمان ما، ما يُشتبه أنه نهاية الكلام في شأنها، تفتـّحت أبوابٌ جديدةٌ على كلام مستأنف. كأنما قدرنا أن نمضي و سؤال الديموقراطية إلى اللاّ متناهي، أو إلى الاستحالة. حيث سيجد كل متسائل عن احوالها، كما لو كان بإزاء فكرة زئبقية، سرعان ما تتفلَّت من ميادين اشتغالات الفكر، منذ اللحظة التي يتوهم فيها ذاك الفكر، أنه ممسك بها، أو أنه قابض على سرّها المستحيل.
لا تكتفي الديموقراطية بوجه واحد، فهي في كل حين تظهر بوجه. ثم تتعدد وجوهها تبعاً لتعدد أحوالها، وتنوع أفهام المشتغلين في حقولها. فإنها كأي ظاهرة، حمّالة وجوه. يروح الناس يُخضِعونها للتأويل، بحسب أهوائهم وتبدل أحوالهم. كأنما هي لصيقة الهوى والرغبة والمصلحة.  وقد تكون كذلك ما دامت غواية الجماعات والاحزاب، والأفراد، والدول. جلُّ ما في الأمر أن يؤلف الداعون اليها، ومن خلالها، عصبهم وسلطانهم وحجَّتهم البالغة.
هل نريد من هذا، اننا لن نعثر  على الديموقراطية في الأمكنة المستحيلة؟
تساؤل جائز ما دام البحث عنها يجري داخل الزمان والمكان. غير أن العثور عليها مستحيل على ما يبدو في المكان العام، خصوصاً لدى الجماعة التي استوطنت نظام الكثرة وجعلته نظاماً تخضع له، ثمّ لا تلبث حتى تنصرف عنه لتخضع الآخرين لسلطانه. فلسوف يشق عليك ان تعثر على ضالّتك وسط كتلة هائلة‌ من الناس حلت الحالَّة بأمان داخل سيرْيّة صارمة، وحياة مضبوطة بقوة على نصاب القوانين. وعلى ما تظهره المعاينة، فإن سَيْرِيـَّةً كالتي نحن بصددها، تـُفضي في النهاية لتنشئ سلطة الجماعة التي تمنع السؤال وتحجبه. فالسلطة، أنَّى كان لونُها وسمتُها وسجاياها، تبقى أمينةً على سيرتها الأولى. فإنها لن تنجو من غريزة الاقصاء، ولو استمسك اصحابها بأذيال الفضيلة. ذاك أن السلطة، تمكث وراء حجاب يخفي أسراراً لا تسبر اغوارها بيسر. والاحتجاب على ما نعلم، هو سر السلطة وسلاحها الأبدي. وظيفته ان تنهض عليه لتستمر وتدوم، ثم لتبعث نفسها من جديد، من قبل أن يغزوها الذبول والفناء.
الديموقراطية في حدود خطبتها المجردة هي مادة مثالية للتأويل. فإنها ضمن هذه الحدود تكتظ بالغموض. بل هي ادنى الى الشغف المملوء بضباب الشك. فإنها لا تكشف عن نفسها الاَّ حين يختبرها الناس، وينقشع الضباب، وتضحى شعوراً عارماً برخاء الامكنة ومعانيها. نعني بذلك، إستشعار الحرية من جانب الفرد  الذي يمتلئ بها ويسير معها سيّد نفسه؛ والفرد داخل هذا المحل المعرفي هو الشرط القياسي للحريّة ، وهو جوهرها ودليل حضورها في اللحظة التي ينكشف فيها ذلك الحضور. فما دُمْتَ لا تشعر بالحرية الممتدة إلى اللا متناهي، فإن الديموقراطية المزعومة لا تعدو كونها برودة موهومة في صحراء قائظة. كل ما تؤتيه اليك أنها تمنحك عارضاً من الانبساط، تظن معه أنك صرت حراً. فأنت في واقع أمرك لا تفتأ سجين خيالاتك وأوهامك، أو انك حبيس ظنِّك بأنك بُتَّ في جنة الحرية الفسيحة. فأنت لدى أول اختبار لحريِّتك و لآرائك المخالفة لمسالك الحشد، سوف تتنبّه من فورك إلى انك قد رفعت السِّتر عن سرّك، أو عما كنت تضمره في نفسك لما ينبغي و ما لا ينبغي . و في هذه اللحظة بالذات، سيكون عليك أن تتهيأ للدخول في المخاطرة. وأن مخاطرةً كالتي طرقت بابها سوف تصَّاعد وتائرها كلما علا صوتـُك بالاحتجاج. فها هنا سيتولى نظام السلطة الجائرة حجب حجَّتِكَ عن الملأ؛ ثم منعها من الصدور متى دعت الضرورة، ثم حملِكَ على الصمت، فلا تعود معه تسمع حتى صوتك الذي ترسله همساً. ثم لتغدو كما لو كنت تصغي إلى سؤالك الخاص بعدما حلّ عليه الخوف و الهلع . فلكي تكون حراً على نحو ما يقتضيه حضورك وكرامتك , عليك أن تشعر بالحرية. سوى أنك لن تشعر بها إلا إذا غادرت نظام الكثرة وسلطانه. ولعلك لن تستأمن ما أنت عليه، حتى تصبح الحرية وجوداً سارياً يمتلىء بها قلبك وعقلك ومشاعرك...
تبتدئ الحرية بما انت عليه بالفعل. وشرطها في هذا الحال ان تولد حريتك من حياضك وسيادتك على نفسك وما تؤمن أنه خيرٌ للناس على الجملة. أي من قبل أن تتولاها ثقافة السلطة، فتحيلها إلى ما يشبه الغبار الثقيل. وهكذا، فلا احد سواك، ولا احد قبلك، بقادر على ان يمنحها التسامي على الوهن والنقصان. بشغفك بها وشغفها بك تكون الحرية حرية. فأنت شرطُها وهي شرطُك. وبهذا المقام، يحق لك أن تتهيَّأ لتكون لك هذه الحرية أدنى إلى فردوسك الأخير .
حين تولد الحرية من حياض الفرد، لا يعني هذا، أن تختصم فرديتُك مع صخب الحشد. فليس حكم الضرورة ان تقوم الكثرة دائماً، على نصاب الاستبداد. يمكن ان تجد بينك وبينها مساحة اشتراك. ولأن ما تبتغيه من حريتك آيل في حصاده إلى الوعاء الأعظم حيث تتشارك مع الكثرة حقوله الواسعة. فلن يكون عليك حالئذٍ الا ان تبتني لنفسك سبيلاً قائماً لا هو بسبيل تذوب فيه، فلا يعود لك اسم، ولا رسم، ولا لغة؛ ولا هو انقطاع وتعطيل تفارق فيه مسرح اشتغالك على افكار آمنتَ بها، واعتقدتَ بصوابها. وهذا السبيل هو اشبه بقانون جاذبية من نوع مخصوص. وذلك ما نسميه بـ «سبيل الاعتدال». يعني ان تكون نفسك ويكون الحشد في موازاتك من غير ان يسلبك ما أنت فيه. انه يعني أن تكون أنت، لا أحد سواك في حياضك. وذلك يفترض منك ألاَّ تغير اسمك وصفتك، وما هو مخصوصٌ فيك. وما دام محتومٌ عليك أن تعيش الكثرة بقضِّها وقضيضها، لأنك مفطور على عيشها ومعايشتها، فما لك إلا أن تكون مسدِّداً بتقوى الحيلة. متفكراً بإزاء ما تفكر هي به. عارفاً بما يمكن أن تفعله بك. حيث الفعلة الفضلى من جانبها، حين تكون على نصاب الاكراه، أن تمحوَك، وتمحقـُكَ، وتستولي على نفسك، وقلبك، ولسان حالك، وكذلك على ما تبقىَّ لديك من حجَّة القول. ثم لتجعل «الروح» الذي فيك مخفوراً بكلماتها، مغلولاً برقِّ أفعالها وأهوائها.
ولئن جرى قَدَرُك مجرى أمرها، فما لك عندئذ إلا أن تتهيأ للاضطهاد. ثم تسعى، بقدر ما يسعك التهيؤ لكي تحتفظ مرة أخرى بمسافة ما، بينك وبينها. ولو فعلت هذا، لتخفـَّـفتَ من أثقال الشعور بالأسى، ولأخذت فسحة من الراحة، تمنحك التفكّر بما يجب أن تفعله لتدخل مع الاضطهاد في لعبة توازن. ثم لينشأ من لعبة كهذه ما يشبه الامتحان العسير. حيث تبتديء سَيْريِّةٌ معقدةٌ يتمازج فيها الكرُّ والفرُّ، والتنابذ والتجاذبُ، والتوادُّ والكراهية.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net