Tahawolat
لمّا تبدَّل العالم، لينعقد على نصاب العولمة قبل نحو عقدين من السنوات ، كان كل شيء يجري تحت ذريعة نهاية زمن الإيديولوجيا . قيل يومها إن الدنيا صارت واحدة ، ولا حاجة بعدئذٍ الى إبراز الهويات، وصياغة العقائد السياسية. لكن بعد قليل من السنوات، سيظهر لنا أن «دراما « الإنهاء - التي أخرجها الجهاز الفكري لليبرالية الجديدة  بإتقان- سرعان ما ذوت تحت وطأة الإنشاء الإيديولوجي المستأنف . في ذلك الوقت ، لم يقصد الذين تولَّوا تظهير فلسفة النهايات ، سوى تعميق الصدع الذي حلّ كإعصار على الهويات ،والولاءات ،و المذاهب السياسية . يومها أيضاً دعا بعض  الذين أُخذوا بأوهام النهايات من مثقّفي العالمين العربي والإسلامي، الى قطع الصّلة بين الثقافة والسياسة .وحُجّتهم ، أن  الوصل بينهما سيفضي الى استئناف الإستبداد بألوانه المختلفة.ولقد فعلوا ذلك ،ظنا» منهم أن التحيّز في المجال السياسي سيأخذهم مجدّداً الى معاقل الإيديولوجيا . و من هؤلاء من تحوّلت الأوهام لديهم الى قناعات آلت في كثير من الأحيان، الى تأليف حركات سياسية ليبرالية راحت تنمو على الضفة المعاكسة، لما سبق أن كانوا عليه من ثوابت ومسلّمات تنتمي على الجملة الى عالم اليسار بصنوفه الفكرية المختلفة.
الذي يحدث اليوم سيأتينا بمعايير نظر جديدة . فحالما تحركت صفائح « الجيولوجيا السياسية العربية «، سيولّد زمن آخر ، أخذت تنكفئ معه أوهامٌ وفَرَضياتٌ وانساقٌ شتى. ومن المنطقي حالئذٍ، أن نطالع  لغة لم نكن نألفها منذ الصعود المدوّي للفكر النيوليبرالي في ختام القرن العشرين . مزيّةُ هذه اللغة، أنها بقدر ما تغتذي من طبائع الإيديولوجيات التقليدية ، بقدر ما تُظهرُ قولاً سياسياً وثقافياً جديداً ... قولاً يبدو في ظاهره عابراً للأطر الإيديولوجية ،إلاّ أنه في الواقع ليس كذلك ،لأنه صادر من بيئات تعيد إنتاج خطبتها الايديولوجية بأساليب مغايرة للتقليد .
وهكذا فلا يكاد الناشطون الجدد -حين ينفصلون عن الخطبة التقليدية التي اعتادت عليها التيارات القومية والماركسية والدينية زمناً طويلاً- ، حتى يرجعون الى طراز جديد من التحيّز ولو برداء ليبرالي هذه المرة. وعلى نحوٍ كهذا ،لم تكن صورة الشارع العربي وهو يفصح عن نفسه بالإحتجاج السلمي حيناً ، والعنيف حيناً آخر ، سوى ترجمة لطور مستأنف من أطوار الحكاية الإيديولوجية . ولكي لا تلتبس ترجمة الصورة، على من أَلِف الأنماط المشهورة لظهورات الفكر الإيديولوجي في القرن العشرين ، نشير الى أن من سمات الطور المستأنف لهذه الحكاية، هو أنه طور عابر للإيديولوجيا كما ذكرنا ،لكنه متّصل بها وعائد إليها في الآن عينه. ففي مقام التجربة العربية الراهنة ، سيظهر لنا حضورٌ مركّبٌ يعرب عن نفسه بخطاب  مشترك، توحّده عصبية معاداة الإستبداد وتفرّقه الرؤى والتصورات المتعلقة بهوية النظام الذي تتطلّع إليه ثورة الشارع . هذا الحضور يظهر بوضوح على ضفتي الاستقطاب. أحزاب وجماعات قومية ويسارية ودينية تقليدية ، من ناحية ..و أفراد و مؤسسات أهلية وليبرالية من ناحية ثانية . وهذا ما تمثّل بـ» الإندفاع الجماهيري المُستهدِف « الذي يجد تفسيره في ما تظهره سايكولوجية « إشغال المكان من جانب الجمهور»،.. طلباً لحيّز مكاني ينالون فيه شرف الحضور وشرعيّة الإحتجاج ، و يضفون عليه ألواناً مختلفة من  الروحانية السياسية.
مع هذا الإشغال، سنرى  كيف غدت الميادين والساحات، أقرب الى مرموزات إيديولوجية تعكس طموحات وآمال وأفكار شاغليها، على إختلاف إتّجاهاتهم، ورؤاهم، ومقاصدهم .ثم جاءت الصورة لتُفصح عن منظومة كاملة من المشاعر والتّطلّعات ، غايتها إبطال البناء الإيديولوجي المستهدَف (بفتح الدال) . أي  الحكم ببطلان بنية النظام السياسي و الثقافة التي تبرر إستمراره ، تمهيداً لإقامة الحد عليه.
ولو نحن انتقلنا من مجال توصيف الصورة، الى الوقوف على مغزاها، لبَدا لنا من سايكولوجية الحشود ما يُفصح عن «بهجة التحيّز» . ثم  لوجدنا منظومة من الرموز والكلمات لا يدرك سرُّها إلاّ من إتّخذ لنفسه سبيلاً الى «جنة المواجهة» . و نقصد  بهم  أولئك الذين نما وعيهم في مختبر الإحتدام ، حتى بلغوا  الدرجة التي جعلت كل محتجٍ يعي ويُدرك ضرورة التغيير وحتميّته.
في رحاب تلك المنظومة التي تتوحّد فيها الإرادة بالوعي  ، سوف تتوفر لشاغلي الميدان شروط  القدرة على صناعة الحقائق الجديدة. فالبيّن من حركة الشارع ، أنّ كل فاعل فيها صار يشعر بنعمة الحضور ، و أنه  يغادر خوفه وصمته بشغفٍ لانظير له . وبأنه ينتقل من الهامش الى المتن ليصير في قلب الحدث . وعند هذه النقطة لا تعود الحرية بالنسبة إليه مجرّد قيمة إفتراضية ، بل هي أمست  حضوراً فعّالاً  داخل الحيّز الذي تخيّره لها عن سابق تصور و تصميم . فالحرية التي تحقّقت بانخراط  كل فرد داخل الحشود، هي الحاضر الأبرز في منطقة التحيّز . إذ سيجد كل متحيّز، وكأنه شريك في قضيّة عادلة تستأهل منه أعلى درجات التضحية . بل ان شعوره بالحضور سيتحول الى فكرة عملية  ذات جاذبية فريدة . بها تتّحد التجربة بالمعرفة، وفيها يصبح المجرب عارفاً  بحقيقة المخاطرة التي اندفع إليها . ومعها يزول منه خوفه، وينفك من عقدته المزمنة،ويصير شريكاً في الحدث ليسهم مع الشركاء الآخرين في التّغيير الشامل.
بين التحيّز والعنف:
إذا كان التحيّز يجري على هذا النحو وفق الوضع الطبيعي ، فإن اتّخاذه سُبُلاً عنيفة كما هو حال بعض الميادين العربية ، جعله تحيّزاً مقيّداً بفوضى الدم ، ومفتوحاً على الفتنة الأهلية المسلّحة . فعلى الرغم مما ينطوي عليه التحيّز من ممارسة الحرية، فإنه يفتقد في المقابل الى أعزّ غاياته، وهي الإنتقال بواسطته الى زمن جديد من الأمان الفردي والإستقرار المجتمعي.
في الوضعية العربية سوف نلاحظ كيف إمتزجت الثورات بالحروب، إمتزاجاً بدا معه التحيّز ، وكأنه يمتنع عن أن يكون نظيراً للحرية. بل لقد بات العنف الحالُّ كحملٍ ثقيلٍ فوق جغرافيا الثورات ، هو الحاكم على كل تحيّز داخلي، مهما مَلَكَ المتحيّزون من  فهم لغاياتهم، ومن قدرة على توجيه أهدافهم في الاتّجاه الصحيح.
لقد أدّى إمتزاج عقل الفتنة بعقل الثورة، و بسبب من التقائهما على أرض واحدة .. الى  إفقاد الثورات أحد أهم أسباب انتصارها وهو الاستقلال . ونعني بالاستقلال هنا ، تحرر قوى التغيير الوطني الديمقراطي من مؤثرات العاملين الإقليمي والدولي.إن ما تعيشه الثورات العربية من هذه الناحية ، على الرغم من خصوصيته، هو إستثناء يثبت القاعدة، لاسيما لناحية التقاء عنف الخارج وثورات الداخل ضمن حيّز مكاني وزماني مشترك.
على المستوى النظري يمكن القول ، أنه بالرغم من الحاجة الماسة الى التمييز بين الحرب والثورة مع وجود الترابط الوثيق بينهما ، فإن علينا  - كما تقول حنة أرندت -  أن نلاحظ حقيقة واقعية وهي أن الثورات والحروب ، لا يمكن أن تقع خارج نطاق العنف ، وأن هذه الحقيقة كافية لأن تجعلهما في معزل رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمقة –بيروت
عن الظواهر السياسية الأخرى . وقد يكون من العسير علينا أن ننكر أن من الأسباب التي أدت الى هذه السهولة في تحول الحروب الى ثورات ، والى أن تُظهر الثورات هذا الميل المشؤوم الى إطلاق الحروب من عقالها ، هو أن العنف نفسه مؤشر مشترك لهما معاً . و مثلما شكل العنف الذي أطلقته الحرب العالمية الأولى عاملاً كافياً لتوليد الثورات، حتى ولو لم يكن ثمة تقاليد ثورية ، فقد شكّل العنف الذي أطلقته العولمة، دليلاً على عمق التّرابط بين حراك الداخل وإستباحة السيادات الوطنية من الخارج.
هنا بالضبط، وَجَبَ التمييز بين مشكلتي  التحرر والحرية ، اللّتين ينبغي التصدّي لهما  في المختبر العربي . هاتان المشكلتان تندرجان في مقدم المشكلات التي يتوقف على إدراكها فهم التحولات، والتعرّف على القوى الفاعلة فيها، و المحركة لإتجاهاتها. وهذا ما يحيلنا مرة أخرى الى أصل القضية التي مرّ ذكرها في مستهل بحثنا ، وهي ضرورة البحث عن إستراتيجية معرفية تُوازِن  بين السيادة الوطنية، والتغيير الداخلي بمعزل من العنف . والمعني بالعنف هنا ، ليس ذاك الذي  تلجأ إليه السلطة الحاكمة ضد معارضيها عندما توشك على السقوط ،أو ذاك الصنف من العنف الذي تمارسه المعارضة ضد الحكم... وإنما ذاك العنف المتدفِّق من الخارج ، والذي غالباً ما يحصل بواسطة تحالف دولي  لتبديل وجهة النظام وموقعيته الجيو-ستراتيجية . ولنا من الأمثلة القريبة ما يكفي حين نستذكر الإحتلال الأطلسي لدول مثل يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق وليبيا.
ومن هنا تبرز الأهمية القصوى  لفهم مشكلة ثورات ما بعد العولمة ، وخصوصاً لناحية عدم توافق فكرة الحرية مع فكرة التحرر من المؤثر الخارجي. وهي المشكلة التي ينبغي حسمها على النحو الذي لا يكون فيها الخارج عاملاً حاسماً في رسم الهندسة الداخلية للحياة السياسية الوطنية الجديدة...
لذا فإن من الأوليات المسلم بها أن يكون التحرر من المؤثرين الإقليمي والدولي، هو الإشتراط الرئيسي لوجود الحرية في المجتمع السياسي وداخل الدائرة الوطنية ، وان كان لا يقود إليها بصورة آلية رتيبة .
رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمقة ـ بيروت

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net