Tahawolat

كثيرة هي الدراسات التي عالجت الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، لكن الدراسات الموضوعية منها قليلة، بأسباب كثيرة منها ان بعضها خاض البحث بموقف مسبق مؤيد او معارض، فبالغ في إظهار قيم النموذج المعني بالدراسة أو بالغ في إظهار عيوبه. والأقل من تلك الدراسات الموضوعية تلك التي تناولته، كنموذج قائد، له ما له وعليه ما عليه، وضمن سياق قيادته الزمني والمكاني وضغوط البنية المصرية والفسيفساء العربية والتحديات الوطنية والقومية التي اتسم به القرن العشرون. إذ في أي حال تبقى للنموذج القيادي عند جمال عبد الناصر قيمته الأكاديمية الثرية لتكامل عناصر بحثية هامة فيه.
وأظهرت محاولة بحثي بعنوان "فلسفة القيادة والبناء الاجتماعي دراسة في المنهج القيادي عند جمال عبدالناصر"، للإحاطة بموضوع كبير، من وزن موضوع جمال عبد الناصر ومنهجه القيادي، بوصفه واحداً من أبرز قادة القرن العشرين في العالم، أن هذه المعايير والخلاصات ستظل نسبية. وهذه النسبية يمكن إرجاعها إلى عوامل عديدة، لعل منها اعتبار قيادة عبد الناصر تعبيراً عن طور من اطوار البنية المصرية وخصائصها وتجربتها الحضارية كلها، رغم اشتراكه بمناحٍ عامة أخرى مع غيره من القادة في العالم، كالجماهيرية والواسطة العسكرية لبلوغ سدّة الحكم وغيرهما. وكذلك ترجع النسبية فيما يختص بوسائط البحث كالمراجع ونسبية الوثوق ببعضها لشدة التباين بين المؤيدين والمعارضين لعبد الناصر وإالى عدم اكتمال طباعة كل ما قاله عبد الناصر وصرح به وكتبه مباشرة او بواسطة مساعديه المخولين، ومنها ما يتعلق بإعادة تقويم بحث قيادة عبد الناصر واستعادة قراءته علمياً بشروط بحث مغايرة لما توصل إليه باحثون سابقون، ومحاولة استنباط ما يتحصل للعقل العارف من نواتج مثمرة وفاعلة تدفع المعرفة العقلية قِدماً.
وإذ يقتضي الواجب الأكاديمي والعلمي اعتماد منهج متماسك، تتنوع فيه المصادر والمراجع واتجاهات النظر إلى الموضوع ذاته لإضاءته، فتكون كل زواياه تقريباً مكشوفة معرفياً، وتتوفر فيه الأمانة العلمية ورصانة التفكير، ويمكن النظر في متون أبحاث أخرى، واستجلاء مدى صحة النتائج المعروضة الى صحة الشروط والأسباب، لإعادة تكوين نسق التجربة التاريخية تصورياً، بنتائجها الهامة السلبية والإيجابية، من حيث ما تكون هي بذاتها وبشروطها وآثارها، وقد تحصلت في هذا القصد من سياق الدراسة توصيات أبرزها الآتية:
- دراسة البنية الاجتماعية، لا يمكن فصلها عن دراسة منظومة هذا المجتمع، في سياق حياته وكينونة واقع نظامه الشامل من دون أن يصيب هذه الدراسة عيب جوهري يخرجها عن سياق الصدقية، كعزل القلب أو الدماغ أو أي عضو حي عن الجسم، فلا يغدو كونه تدبيراً اصطناعياً افتراضياً ومؤقتاً جداً، ليسهل تحديد التشخيص الذي يفقد قيمته إذا خالف قانون كلية انتظام الحياة للجسم.
- ودراسة البنية الاجتماعية متعلقة بفرضية تصورية ساكنة من جهة أولى، بينما السكون غير متوافق مع حركية الحياة في نظامها المتنامي اللامنقطع، ومن جهة ثانية متعلقة بمعيار دينامي حركي يضع الموضوع بعد فصله القسري لتحديد مدى التغيير في نظام الكل الذي هو منه وفيه، إثر الفصل، ومن ثم إعادة الفرض إلى معيار الخبرة بالواقع لتقويم صحة آثار الفصل أم عكسها، ورصد الآثار الناجمة عن الفصل أم عن إعادة أقنية التواصل الحيوية بالفعل، لانسجام النظرية المستنتجة مع نواميس حياة الكائن بواقعها، وكما هي عليه. وهذا الرصد لدينامية الحركة والتغير لا يمكن سبره من دون قاعدتين: مكانية وعلاقة المكان وأثره في التغير، وزمانية وأثر الزمان في التغير. وعلاقة المكان والزمان البينية وأثرها في حدوث التغير. ووفق هاتين القاعدتين يمكن استجلاء تباين البنية الاجتماعية وماهيتها النفسية - الروحية القيمية عن أية بنية أخرى. ومقاربة روائز الشخصية الاجتماعية قياساً من سياق التجربة التاريخية للجماعة. فروائز المكان والزمان لبنية اجتماعية "أ" ليست هي بالضرورة روائز المكان والزمان للبنية الاجتماعية "ب".
- لا يصح فصل دراسة البنية الاجتماعية عن دراسة البيئة العامة بمكوناتها، نظراً لاختلاف المكونات الديمغرافية للبنية الاجتماعية (البنية البشرية) ومكونات البنية الطبيعية (الإقليم وتضاريسه) التي تنتج اختلافاً في الخصائص والتكوين والمصالح والقيم والمثل العليا ومنظومات الاعتقاد وتفسيرها، ولاحقاً صيغ القوانين والأعراف والتقاليد كخواص لازمة للمعايير النفسية الروحية القيمية للبنية الاجتماعية.
- أمكن رسم العلاقة بين نوعية الإقليم ونوعية الجماعة وخصائصهما المشتركة، إذ كما أنتجت الهضبة الأناضولية قسوة التركي وشدة تحمله البدنية، أنتجت أرض الطمي المصرية الرخوة سلاسة المصري وليونة عريكته ودماثة خلقه وميله الشديد إلى الدعابة والمرح وحلاوة اللسان. لكن هل يمكن إقامة برهان على أن الإقليم ينتج خصائص بيولوجية خاصة به في الجماعة تتطور سلالة تاريخية تستقر على رقعته فتشكل خصائصها الموروثة جينات DNA قومية لسلالة قومية لتلك الجماعة؟ إذا كان الجواب لا، كيف أمكن للسفارة الفرنسية في بيروت أن تعيّن الهوية الفرنسية لجثث سبعة جنود قتلوا في جنوبي لبنان في عشرينيات القرن العشرين الماضي، على أساس بحث الحمض النووي لتلك الجثث؟
- النظر إلى ظاهرة القيادة كظاهرة قائمة بذاتها، من كونها ظاهرة تعبير عن كينونة المجتمع الناشئة فيه يصيب المنهج بعيب جوهري، إذا فُصلت الظاهرة القيادية عن بحث الكينونة الاجتماعية العامة لمجتمع القائد، التي أنتجتها، ومصدر حياة القائد كقائد وليس ككائن فرد فقط، ومصدر منظومته القيادية ومزاياها ونظامها الفكري، هو من المكتنَزات القومية للمجتمع الظاهر في بنيته الاجتماعية وصيغها، وفي قيمها ومعتقداتها وطقوسها.
- من خلال فحص خصائص المكان والزمان في البنية الاجتماعية المصرية، بعد الإلمام بمكونات هذه البنية الفيزيائية، ونظم الخصائص التي يمكن اسخلاصها كمزايا للقيادة المصرية ومن ثم للقيادة الناصرية تحديداً، لوحظت المقاربة بين خصائص البيئة وخصائص الجماعة المصرية في تفاعل متبادل، بحيث يشكل هذا التفاعل حدود تعيين الماهية الجمعية وحدود تعيين الخصائص المنهجية لمنهج جمال عبد الناصر القيادي الشديد التمركز.
- إيضاح العلاقة بين الديمقراطية والتمركز الشديد مرجح بقاؤها على طرفي سجال إذ كما تعني الديمقراطية المشاركة وتوزيع الصلاحيات وتنظيمها على سلطات متعاونة ومنفصلة غير منقطعة، يعني التمركز أيضاً المزيد من الحصر والحكر للصلاحيات والسلطات في فرد أو مؤسسة واحدة. وكل من الآليتين تطرحان قضيتين مختلفتين ستظلان ماثلتين أمام نظر الباحثين لوقت طويل جداً. إلى أي مدى يمكن للتمركز أن يتخلص من مضار التعسف ولبوس الطغيان والتفرّد وحكر القرار والسلطة إلى جانب فضائله الضرورية لقوة النظام؟ وكيف يمكن تطعيم فضائل كل منهما بفضائل الآخر لتلافي سلبيات كل منهما؟
- يبدو أن العلاقة بين القيادة والبناء الاجتماعي أو الجماعة عامة، ستظل مدرَكة بآثارها وأسبابها. الجماعة توجِد القيادة وتسبّبها وبالتالي تكون علتها، فإن انتفت الجماعة انتفت القيادة. هل يصح العكس؟ ربما، خصوصاً إذا اعتُبر أن الجماعة الفاقدة القيادة ستشهد عدم انتظام في حياتها وهذا يولِّد فوضى واقتتالاً بين قواها، قد يؤديان إلى إضعافها أو تلاشيها؛ وإما أن الاقتتال نفسه سيولِّد غالباً جديداً تكون له السلطة على المنتصر عليهم، أم بهم، من حيث إن قوام السلطة هو الغلبة، حسب ابن خلدون. فتكون الجماعة قد استعادت قيادة ما، حتى تأخذ بتهذيبها وصقلها إلى حد ملائم بالتفاعل والاختبار. إنما رغم إدراك صيغة انبثاق القانون وفلسفة تكريسه، من حيث إنه يعزز سلوكات جمعية ملائمة معتادة بالعادة وبالعرف في الجمعية أن تقر مشروعيتها في حياتها ونظام قيمها. إذ تقدم الجماعة روح القانون ومادته الخام بينما تقوم القيادة بصياغته وتعزيز مبادئ سائدة بواسطته فاحتاج التشريع بالنص فضلاً عن تشريعها بالاعتياد. هكذا القانون شكل من أشكال رصد العلاقة بين البناء الاجتماعي والقيادة، هل يمكننا التنبؤ بطبيعة القيادة بعينها ونمطها وماهيتها ونظامها الفكري سنداً إلى منظومة البناء الاجتماعي الروحية النفسية والاجتماعية الاقتصادية؟ ربما إلى حد، لصعوبة الإحاطة بكل أوجه التأثر والتأثير المتبادلين بين الجماعة والقيادة وقوانين هذه العلاقة، حتى الآن.
- يمكن التدليل على امتياز عبد الناصر كنموذج فرد وكخصائص قائد مصري وكنموذج للإنسان المصري العام، معبِّر عمّا في النفس المصرية من تحفز ومزايا واستعدادات كبيرة، وعما فيها من عيوب، لا ينبغي للدرس الموضوعي، إن احترم الصدقية والموضوعية والأمانة البحثية والمسؤولية تجاه الموضوع وأهله، إلا أن يضعها تحت المجهر، وفق ما تسمح به هذه المعايير وتحيط به الوسائط والمناهج المستخدمة. وما تقتضيه هذه المنهجية من السير على حد سكين خطر فاصل بين التهرب المخفف والمسؤولية البناءة المحفوفة بالمخاطرة في عصر يغتال فيه العقل بالتطرف المدمر. والاستفادة مما حملته خبرات الباحثين المتوالين معطوفة على ما تفوَّه به عبد الناصر بنفسه، - ولو كان مشوباً بالظرفية إلى قدر كبير ـ ، في محاولة استخلاص قواعد منهجه القيادي العام والتنفيذي بشكل خاص مع طغيان السلطة التنفيذية، وحاجة الإقليم المنبسط والفيضي الزراعي لسلطة مركزية قوية قادرة على الحسم بأقل وقت ممكن.
تالياً، من الحكمة القول، إن الحكم الموضوعي على التجربة الناصرية لن يكون مستوفياً شروط العلمية كافة، بسبب كثرة التراث الناصري الشفهي الذي أدلى به عبد الناصر، والذي كتبه بيده أو أقرّه باسمه، وتناثر هذا التراث في متون الفكر اليومي الصحفي المشوب بعيوب الزوال السريع أو تعرضه للتلف إن لم تتلقفه مراكز أبحاث "تؤرشفه" وتوثّقه مبوباً تبويباً علمياً ميسراً. الأمر الذي لم يتوافر بعد للتراث الناصري بوجهة كلية، بل بوجهة جزئية محدودة ولم تُستكمل بعد، مثال المشروع الجليل لوقفية جمال عبد الناصر الثقافية عبر مركز دراسات الوحدة العربية(). إنما الحكم الأولي على التجربة القيادية الناصرية، يمكن دعمه بإثبات نصي وإثبات واقعي عملي.
إن رسالة "فلسفة القيادة والبناء الاجتماعي، دراسة في منهج جمال عبد الناصر القيادي" ، ما هي إلا قطرة متواضعة تدفق في شلال العمل العقلي والعلم والدرس الفلسفي الجدّي النقدي، من أجل وعي أفضل للتجارب الحضارية والقيادية الهامة ذوات التأثير في حياتنا المعاصرة، ولعلها بعض ذخيرة معرفية عقلية ضرورية لتعزيز نمط الدراسات الفلسفية في القيادة لتأسيس علوم القيادة وفلسفتها، وتعيين الواجب الفلسفي الأولي للإنسان العارف اليوم، أمام استحقاقات الحياة المعاصرة واختبارات الجدارة الدائمة فيها، في عالم شديد التنازع على الموارد، وعلى القيادة بين عولمتها وأحاديتها وسلب الأمم حق التكوين الطبيعي لقيادتها المعبرة عنها والتي بطبيعتها هي فعل ماهية عامة يقتضي من كل "استعمار أن يحمل عصاه ويرحل" عنها، أم أن البنية الاجتماعية ستتمكن بما يتوفر من درجة تكامل الماهية الاجتماعية وعوامل الشخصية والاكتفاء وتعاظم القوة وتكثير الحلفاء المصلحيين والجديين، من حفظ وجودها والتمتع بميزة قيادة ذاتها، في الحد الجامع كل هذه البنية والمانع الآخر، أي آخر من أن يقوم بما كان يجب عليها أن تقوم به، في عملية ملء الفراغ وتعويض التقصير! 
 
* ناشر موقع حرمون وباحث


*) مركز دراسات مركز الوحدة العربية في بيروت، مركز فكري ناشط، متخصص في الفكر القومي وما يتعلق به، يقوم بإصدار سلسلة موثقة لتراث جمال عبد الناصر وجمع خطبه وتصريحاته وأحاديثه الصحفية، بما سُمي "وقفية جمال عبد الناصر الثقافية"، والتي صدر حتى الآن منها ثلاثة أجزاء تغطي فقط حتى 1959.



آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net