Tahawolat
ربما، وليس من قبيل المصادفة، أن نقع مرة أخرى ضحايا شفاهية اللغة في سيطرتها على الذهنية العامة، وذلك من قبيل جعلها مرجعاً مفهومياً سبّاقاً لتفسير ما يهبط علينا من مفاهيم تُعنى بوجودنا البشري كجماعات تعيش في هذا العالم وتنتوي الاستمرار فيه، وشفاهية اللغة موضوع آخر له أبعاده ومرتسماته في الثقافة والتفكير، ولكن تطبيقاته حاضرة دائماً في واقعنا من ناحية تأثير هذه المشافهة على المفاهيم الثقافية الضرورية للعيش البشري، حيث تقوم هذه الشفاهية بتفريغ المعنى أو مضمون هذه المفاهيم من صفاتها البنائية مركزة في ذلك على مسألة السبق في الاكتشاف والوجود، بحيث نبدو" سباقين" في الوصول الى هذا المفهوم أو ذاك بعد مقاربة الترجمة اللغوية لعنوان أو اسم المفهوم، في إعفاء ذاتي من استحقاقات التفاعل الذي يُنتج الارتقاء من جهة، وفي إعفاء ذاتي أيضاً لتبني معناه أو مضمونه، إذا لم يتطابق مع خصوصياتنا من جهة ثانية والتي هي شفاهية أيضاً.
مرة أخرى نقع في ذلك الخلط "البريء" بين معنى كلمة ما، ووجودها المعجمي فنسارع للانحياز للكلمة المعجمية، فـ"الكرامة" الإنسانية ليست اشتقاقاً لغوياً من مصدر (كرم) وما يتفرع عنه من (تكريم وإكرام ومكرمات وتكرم) وإلى ما هنالك من مفردات يمكنها إدخالنا في حالة دوغمائية لا تنتهي، مبتعدةً في ذلك عن مقاصدها التي وجدت لأجلها، فالكرامة الإنسانية بعيدة تماماً عن الموضوع، فهي ليست بحاجة إلى كرم وتكريم ومكرمات، بل هي حالة حقوقية يؤسس عليها لكونها "حقاً طبيعياً" تمّ اكتشافه مؤخراً (أي ما بعد عصر الأنوار). وفي مستهل القرن العشرين تم إرساؤه دستورياً، وهذا ما يعني حضوره فعلياً وعملياً وتقنياً، فالكرامة الإنسانية هي أحد شروط العقد الاجتماعي الذي يؤسس الدولة (في حال وجود مجتمع بالمعنى الحقوقي المعاصر طبعاً)، وحماية الكرامة الإنسانية واحد من أهم معايير جودة الدولة، ومن هنا تبدو الدول جيدة أو راقية، ليس من ناحية إدراج مفهوم الكرامة الإنسانية بصفتها الشفاهية في دساتيرها، بل من ناحية تفعيل معنى الكرامة الإنسانية كحق والارتقاء به وتوسيعه، وهذا الكلام ليس من الباب الخيري التكريمي، وكذلك ليس من الباب الوطني الجماهيري، وكذلك ليس من الباب التجميلي الترصيعي، فالإنسان الفرد كريم من مجرد وجوده، وليس بحاجة إلى تكريم لأن عقده الاجتماعي يفترض ذلك ببساطة، وعلى الدولة أن ترعى هذا الحق ولا تنقصه ولا تخدشه، لأن إخلاصها تجاه هذا الحق هو إنفاذ لما تعاقدت عليه من جهة، كما يقدم الأرضية الصالحة للإنتاج من جهة ثانية، وكلا الأمرين معياران يثبتان نجاح الدولة من فشلها.
ربما كان مفهوم الكرامة الإنسانية دقيقاً بحيث لا تستوعبه لغة شفاهية فيها هذا القدر من اللاتحديد، خصوصاً مع افتقاد الذهنية -التي شاركت في تشكيلها اللغة بصفة أساسية -إلى حضور الثقافة الحقوقية، بحيث يمكن إشهار مكامن اختراق ومس الكرامة الإنسانية أكثر من إعلانها بوضوح هي ذاتها، إذاً ليس في ذهنية اللغة الشفاهية من حضور للمفاهيم غير المشخّصة أو غير التبسيطية، فالمسألة تبدو معقدة عليها، والكرامة الإنسانية مفهوم مجرد من الصعب إدراكه بواسطة ذهنية كهذه، لذلك يلجأ الكثيرون إلى المقارنة بين مجريات العيش في الدول التي تأخذ قولاً وفعلاً (من دون استثناءات أو تلاعب لغوي) بمقتضيات العقد الإجتماعي، وبين تلك التي تدّعي ذلك باطمئنان، لأن دساتيرها تشير إلى هذا الأمر، وهي على استعداد دائم لتبرير أمر هذه الاختراقات البسيطة وهذا المس العابر والاضطراري للكرامة الإنسانية، التي سوف تقبع نتيجة هذه الممارسة تحت ركام هائل من الأخذ والرد والتأجيل (الاستراتيجيا) ريثما تصبح الظروف مناسبة، أو حتى يعي الشعب معنى الكرامة الإنسانية، أو حتى تنحل الظروف الاقتصادية، أو عند توقف المؤامرات والخ الخ، معفية أصحاب هذه المقارنات من جريمة  المس بهيبة الدولة، لأنها لم تشر صراحةً إلى الكرامة الإنسانية كحق يتمّ اختراقه في الأوقات كافة والمستويات كافة، ولا كحق يجب إعلانه وتأديته وعلى المستويات كافة أيضاً، كما أن هذه المقارنات لم تقم بالإشارة إلى أن مفهوم الدولة، الذي لم (ولن) يتحقق إلا بإنفاذ واجبات حماية الكرامة الإنسانية بمعناها الحقوقي الدستوري، ويبقون على تذمرهم وحنقهم من دون أن يجرؤوا على الاقتراب من المفاهيم المؤسسة لوجودهم، فالمطالبة بالكرامة الإنسانية بالمعنى المعاصر، يعني تماماً سحب الاعتراف الشفاهي بها، ما يؤدي إلى فقدانهم لكرامتهم فوراً على أيدي السلطات ويدفنون تحت ذاك الركام الهائل من المبررات التي ذكرناها، وهذا ما يؤسس ويعمّم أداء جماهيري يراعي الجهل ويرعاه تحت رايات الخوف من جهة، والمقارنات المتحسرة  مع الآخرين من جهة أخرى، ليتحول التذمر والحنق إلى غضب جهول لا يراعي هو الآخر الكرامة الإنسانية، فهي تربوياً ليست من مؤسسات وجوده، ولا هي بمعناها المعاصر جزء من وجوده الثقافي الشامل.
ربما كانت الهجرة إلى تلك البلاد التي تمارس استحقاقات الكرامة الإنسانية واحدة من الأمثلة التي توضح التوق لها، ولكن حتى هذه الهجرة تفضح ذلك العقم التربوي تجاه هذه المسألة، بحيث  يتم استخدام فارق الكرامة بين المكانين (تماما كفارق العملة) في ممارسات جهولة تتفارق مع العيش المجتمعي، ولكن مبدأ الكرامة الإنسانية الذي لا ينقسم يحتمل مقارنات كهذه في تلك البلاد، لتتحول تلك الممارسات إلى مكاسب شخصية تكلّلها ابتسامة الفوز، بلا تعب على مجتمع يعتبر الكرامة الإنسانية واستحقاقاتها من البدهيات الثقافية، وتبدأ رحلة المقارنات بالعودة إلى أرض الوطن، ولكن مع مفهوم أشوه يزيد من طين مأزق الكرامة بللاً، لأن هذه العودة سوف تُسرد بلغة مفهومة تتناسب مع ذهنية أهل بلادهم الأصلية التي تتحسر، ولكن لا تستطيع معرفة أو استيعاب سبب الحسرة أو معالجته.
عند هذا المطبّ بالذات تقف المواثيق والمعاهدات الدولية مربوطة الأيدي أمام طرق إنفاذ استحقاقات الكرامة الإنسانية، مصعوقة، ليس فقط من واهية توقيع المواثيق، بل من إدراكها العميق بأن "دولاً" كهذه سائرة إلى الفشل من جهة، وعدم تربيتها للإنسان المنتج سوف يضعها تحت رحمة تقاسم المنافسين من جهة ثانية، في سيرورة جزافية نحو فراغ يملأه العنف، ليبدو هذا العنف همجياً بطريقة مزرية، لأن أطرافه جميعا لم تتعرض لإشعاع ثقافة الكرامة الإنسانية، ولم تكن الحياة الإنسانية كجزء من هذه الثقافة مقدسة، فـ"الدولة" توقع هذه المواثيق والمعاهدات كي يستمر الاعتراف الخارجي بها، ولتظهر بمظهر القادر على تفهم استحقاقات العيش الجماعي المعاصر، وليس الحضاري على أية حال، فهذه تتطلب من أية دولة رعاية الإنتاج، وهذا يحتاج إلى كرامة إنسانية يتكئ المنتجون إليها بلا خوف أو هدر أو وجل، وهذا على بدئيته يشكّل مفترقاً بين الدولة واللادولة، أو بين الدولة السائرة في طريق النجاح أو الفشل، ومن هنا تبدو الثقافة وبالأخص الثقافة الحقوقية، ضرورة للعيش الجماعي التي يسعى فيها الفرد للمحافظة على "مجتمعه" والارتقاء به بحضور وتوفّر الكرامة الإنسانية التي يقيس وجودها وجودتها بذلك النوع من المعرفة، بمعنى الانتقال بالمفهوم من حيز المشافهة واللغو إلى حيز السلوك والممارسة ما يعني انتقال الكائن البشري من الرعية إلى المواطنة، حيث يمارس كرامته اجتماعياً بحماية الدولة وبدوافعه الذاتية، فالمواطن ذو الكرامة يتصرف بكرامة ولا يمتهن كرامة نفسه أو كرامة أحد من البشر، ولعل انتقاء مثال الهجرة والمغتربين أعلاه يوضح فرار الفرد، ومن ثم انخراطه في الإنتاج في المهجر، قائم تماماً على حضور هذه الثقافة كفعل حيّ وملموس ومُعايَر.
الكرامة الإنسانية هي قيمة الإنسان كونه إنساناً فقط، فلا شهرة أو نفوذ أو أصل أو جنس إلخ، تستطيع خرق هذه القيمة نظرياً لأنها حق طبيعي للجميع وعلى قدم المساواة، ولكن لغة، بإنشائيات شفاهية، تستطيع التلاعب بهذه القيمة حسب الوعي المتوفر في البنية الجمعية الذي توفره تربية مخلصة، حيث تبدو هذه القيمة كضرورة لسيادة الدولة على أرضها، ولحرية الوطن واستقلاله الناجزين وللتحرير والدفاع عنه وللمنعة والشبع والإنتاج والإبداع الخ، ولا يمكن لحضورها التراتبي أن يكون إلا في مقدمة هذه الأولويات، لأنه لا معنى لكل هذه "الأشياء" من دونها، ولكن ما هي  الإمكانية القادرة على إفهام الناس هذا الحق، حكاماً ومحكومين؟ وهل من ضوء يشير إلى آخر هذا النفق المهلك؟
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net