Tahawolat
من الصعب اتهام الثقافة التقليدية وحدها بمناهضة ومحاربة تبني المفاهيم والقيم الحداثية المتخصصة ببناء المجتمعات، وتتم تلك المحاربة أثناء محاولة الثقافة الحداثية تكريس هذه  المفاهيم والقيم عبر المنتجات الثقافية من أدب وفن وصحافة وأبحاث الخ، حيث تبدو الثقافة النصف حداثية مسؤولة بقدر أكبر بكثير عن هذه المناهضة وهذه المحاربة من الثقافة التقليدية نفسها، خصوصاً من حيث مقدرتها على استخدام (استهلاك) الأدوات المعاصرة من طباعة وإعلام واتصالات، حيث يمكنها دعم وتقديم  وحقن الثقافة التقليدية بواسطة أشكال حديثة تماماً ومضامين مواربة ومتلوّنة، في المبنى العام للثقافة الحداثية وهدمه، على الرغم من حاجة التجمعات البشرية (العربية) الماسّة لهذه الثقافة بكل ما تحمله تفاصيل تؤدي إلى الارتقاء.
وحاجة التجمعات الحديثة للارتقاء ليست بدهية يمكن القبول بها، والتجاوز عنها، بل تحتاج هي نفسها إلى إيضاح وإثبات، وهو ما تتجاوزه بإهمال الثقافة نصف الحداثية المومأ إليها هنا، وهي الثقافة التي تبنّت (وهي متلطية بالتنوير) مقولتها التأسيسية وهي (نأخذ من الحداثة ما يناسبنا ونترك ما لا يناسبنا) فاتحة الباب لمعارك نظرية تهويمية جزافية، بما لا تحتمل البنية الحقوقية/الثقافية لهذه التجمعات البشرية على تقبّله وهضمه، حيث بدت المسألة ومنذ (جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا) ما هي إلا مداورة على المفاهيم والقيم الضرورية لبناء مجتمع النهضة، عبر خطاب شفاهي يوارب الإستحقاقات المطلوب إنجازها، داعياً إلى تجربة الحداثة بمعناها المعدّل استنسابياً، اتكاء على استحضار كتلة تراثوية ضخمة، تم تدجينها وترويضها وقولبتها بلاغياً لتصبح كلّ شيء ولا شيء في آنٍ معاً، فهي التاريخ وهي نفسها الثقافة وكذلك هي التراث، أو العلم أو المعرفة إلخ، ليصبح هذا الخطاب كل شيء ولا شيء أيضاً، ولكنه موجود بقوتي التراكم من جهة، وسدنة الهياكل المعرفية التي تتبناه من جهة أخرى، وأصبح الأمر حقيقة نظرية يتبناها وينظر إليها الحداثي قبل التقليدي ببراءة وجدية مخلّتين، نظراً للخيرية البلاغية التي تكتنفه، إن كان من ناحية الشكوى والتظلم من الحداثة كقوة اعتدائية (الإنشاء التعبيري لأسطورة الرجل الأبيض مثالاً)، أو من ناحية الحلم بالارتقاء الذي يدعو هذا الخطاب النصف حداثي لتجريبه (الدولة الإستبدادية الديموقراطية).
ومع أن الوطن مفهوم أنواري، تشكّل بهذا المعنى مع نهوض الأفكار القومية إذ لم يكن موجوداً قبلها كمفهوم، والمواطنة من جهة ثانية هي التعريف الحقوقي للكائن البشري كطرفٍ في عقد علني ومفهوم (وهنا الحاجة الحقيقية للثقافة) وليست مجرد اشتقاق لغوي من كلمة وطن، إلا أننا يمكننا العثور وبين الكميات الهائلة للتنظيرات نصف الحداثية على تعريفات كثيرة ومتنوعة وغرائبية  للمواطنة كأن نعثر على هذا التعريف كعينّةٍ عشوائية: (المواطنة هي انتماء إلى وطن، بما هو المساحة الإنسانية التي تختزن الترابط العميق في العلاقات بين أفراد المجموعة السكانية المقيمين على البقعة الجغرافية الواحدة، وتجتمع تحت أفيائها اللغة الواحدة، والتشارك في التاريخ والتراث، والتقارب في القيم والعادات والتقاليد، والتلاقي في المصالح والحاجات والتطلعات).
لا أرى فائدة من تفنيد هذا التعريف جملةً أو تفصيلاً، فما عدا التلاقي بالمصالح، ليس هناك قول حقوقي واضح ومعلن ومفهوم يمكن التصالح عليه أو الاتفاق بشأنه، أو يعفينا من الدخول في معمعة كلامية لا تؤدي إلى شيءٍ، على الرغم من الكلام الخيري الجميل الذي لا يمكن أن يعترض عليه أحد، ولكن عند ملامسته بالمعيار الحقوقي الحداثي الذي تعاير فيه المواطنة كمفهوم أنواري، خصوصاً مع ملاحظة تجارب المجتمعات، يتحول هذا التعريف إلى مجرد كلامٍ عواطفي جميل، وصادر عن رؤية ونيّة حسنتين، ولكنه في المقابل غير فعّال، إذا لم نقل به كلاماً آخر، وهو عرضة لتفكيك درسي بسيط يفنّده ويرميه خارج دائرة الحاجة إليه، إنه وببساطة خارج إمكانيات التقنين المعقلن أو المنطقي، ومع هذا فإن تعريفاً كهذا كأنموذج وكمثال، هو جزءٌ من السياق العام التراكمي العام لسيرورة الثقافة نصف الحداثية، المسؤولة بشكل كبير وأساسي عن فشل جهودنا في ممارسة استحقاق الارتقاء، بتكوين بنية اجتماعية فعّالة ومنتجة وقادرة على التنافس، عبر فشلنا في إقامة الأحزاب بما يتناسب مع مفهوم المواطنة (مثالاً)، وعبر فشلنا بإنجاح أية تجربة ديموقراطية من أي نوع ديموقراطي كانت (مثال ثانٍ)، ولعلّ التجربة المصرية الأخيرة والتي لم تتجاوز صناديق الاقتراع (المشكوك في صدقها حتى الآن)، حيث سارعت الفئة المنتخبة إلى إجراءات تعديل جذرية في الدستور تحت ذريعة الخطاب الخيري نفسه (أو ما يشبهه تماماً) الذي قدمه مثالنا السابق حول تعريف المواطنة، بحيث يصبح السؤال مضاداً لغاياته عندما نصل كي نقول، أوليس من المنطقي أن نختار الاستبداد ديموقراطيا؟ أوليست الديموقراطية هي أن يختار الشعب ما يريد بكل حرية؟ وها قد اختار الاستبداد بكل قناعة بناءً على خطابٍ تعاقدي معلن لا يستطيع أحد التشكيك في نواياه أو في خيرية مقاصده أو في جماله البلاغي، ليصير الردّ على خطاب كهذا، في سياق التصارع والتنافس بين استبدادين، في إتلاف حقيقي لكل الاستحقاقات المطلوب إنجازها للدخول إلى نادي المجتمعات ومن ثمّ الفعّال منها، وبناءً على خطاب كهذا يتم إتلاف الدولة (كتكنولوجيا إدارة مجتمع) لتصبح مجرّد سلطة تهدّئ من روع الفوضى مرحلياً، ولتتحول تلقائياً إلى إدارة أزمات الجماعة البشرية بدلاً عن إدارة النشاط الإنتاجي لها، وهو السبب الأساسي لمطلب وجود تكنولوجيا الدولة في أي مجتمع حقيقي، وعلى هذا الأساس يمكننا النظر في استدامة قوانين الطوارئ ومن بعدها قوانين الإرهاب.
من هنا تبدو خطورة ثقافة نصف الحداثة هذه، فقد تأسست على أساسها أحزاب، وانقلابات، و"دول"، وكلّها لمّا تزل موضوع تشكّك ونقاش حول حقيقية تعريفها وبالتالي وجودها وفائدتها، حيث تبدو التجمّعات البشرية العربية وكأنها تمشي بعكس الطريق المؤدي إلى غايتها، وهي متأكدة من صحة اتجاهها، فكل الخطابات تؤكّد لها ذلك بلطفٍ وحماسة، ولكن للواقع كلاماً آخر وخطيراً.
لم يكن مفكرو الحداثة متطرفين في أي حال من أحوال بمنتجاتهم الفكرية، ولكنهم كانوا يتوخّون الدقة، بناءً على وعيهم لتكنولوجيات العيش المعاصر، على عكس مفكّري نصف الحداثة الذين "يمغمغون" خطابهم المنمّق لغوياً في محاولة لمقاربة المصطلح الذي يعني شيئاً محدداً وواضحاً لتتحول الحقائق والاستحقاقات بين أيديهم إلى مسائل استنسابية ومؤجّلة ريثما يتم الاتفاق على شرح الكلمات في استعادة دور المفسّر والشارح الإتباعي، أو ريثما يتم التأكّد من وجود الإمكانيات والمفاهيم التي افترضتها أقلامهم (كمفهوم حرية الوطن وحرية الفرد الذي يشكّل وحده فضيحة تفكيرية)، وكل هذا يتم بناءً على النصيحة الأزلية (نأخذ من الحداثة ما يناسبنا ونترك ما لا يناسبنا) لنصل واقعياً وعبر طريق شاقٍ ومكلف، إلى أنّ الحداثة برمّتها لن تناسبنا.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net