Tahawolat
ما هي الحدود المرسومة في تحديد موقع المرجعية؟ وهل ثمّة غموض يكتنفها من الناحية التاريخية، لجهة شموليتها واستيعابها مجمل القضايا التي تخصّ الإنسان والحياة، أو حصرها في نواحٍ اجتهادية علمية منعزلة؟ هذا النوع من الأسئلة قد يبدو مشروعاً إذا حاولنا استيضاح فكرة المرجعية وأبعادها في الوجدان العام، لتوجيه النظر إليها، ومعرفة دورها وأهميتها.
تنتج الأمم مرجعياتها من صميم وعيها الجمعي بأهمية المبادئ الكبرى التي تهدف إليها في تفاعلها مع قضاياها الخاصة والعامة، بما يتوافق مع روح العصر، وتطوّر العقل، واندفاعه نحو مزيد من تبيان الوقائع والحقائق وتأصيلها... هنا، يأخذ الإبداع حيّزه في إبراز دور المرجعية تاريخياً مع مرور الزمن، في تكريس الغايات الكبرى للناس، بما يتناسب مع واقع حاجاتهم الدنيوية والدينية، التي تنظّم تلك الأسس.
وليست المرجعية إبداعاً في قلب تاريخٍ منعزل عن قضايا الناس والحياة، تؤطِّر لنفسها مجالات معيَّنة لاشتغالها، إن على مستوى التنظير أو الممارسة، وتخلق بالتالي حدوداً ذاتية لها، لا تنطلق إلى الفضاء الأوسع، فذلك ما يعمل على تعزيز أجواء الجحود والانعزال.
وعلى الصعيد التاريخي، يقول سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله: "التأمّل في التاريخ الإسلامي الشيعي، لا يعضدنا في العثور على تصوّر ناجز للمرجعية ودورها، سواء كان ذلك في دائرة الفتيا وملحقاتها، أو في دائرة الشؤون العامة كما نتصوّرها الآن. فقد كان الناس يرجعون إلى علمائهم في أية منطقة من المناطق، ولم تكن هناك مركزية معينة لعالم فرد، أو لأفراد محدودين من هؤلاء العلماء.
إن مسألة المرجعية هي من المسائل الحادثة والطارئة التي نشأت في ظلّ ظروف معينة، كأن يبرز في الحوزات العلمية شخص متفوّق على الآخرين، ويحظى بتقدير عام، يدفع أهل الحوزة للاعتراف به أو تعيينه مرجعاً.
وقد تحدَّث التاريخ عن انتخاب مراجع في بعض المواقع، من بعض العلماء المميّزين. وأسّس هذا الواقع التاريخي لمرجعية سرعان ما تطوّرت لتتحول إلى حالة مركزية في الواقع الشيعي، من حيث الفتوى وملحقاتها في الحقوق الشرعية وما إلى ذلك، ولكنها تجاوزت في الوجدان الشيعي الواقعي هذه الحدود، وأصبحت تشكِّل نوعاً من أنواع الالتزام بزعامة المرجع حتى في ما يتجاوز المسألة الفقهية...".[الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل، ص: 278].
ويضيف سماحته: "إنّ حقّ إبراز دور المرجعية والمرجع كقيمة فعلية إبداعية دافعة نحو التقدم، من حيث كونهما مؤسسات، تكمن في قدرتهما على الحفاظ على القدر الضروري من الفاعلية، والاستقلالية، والانفتاح، وسعة الأفق، والمسؤولية الكافية في التماشي مع روح الإبداع المتناسب مع لغة الزمن، التي تفترض مواكبة لمجابهة حركة الفكر، والعمل المعرفي المستمر نحو تأكيد الذات وتأصيل المفاهيم.. وبالتالي، فإن قيام المرجعية كمؤسسة، يحمل في ثناياه حافزاً أخلاقياً، بمعنى أداء الحق والواجب تجاه احترام ما تنتجه الذات المبدعة في انفتاحها على المعرفة، والإفادة من خبراتها لخدمة الذات الإنسانية العامة.
إنَّ الحفاظ على هذه القيمة الأخلاقيَّة، يعني الحفاظ على معيار علمي وموضوعي، يتطلَّب العمل عليه بجدية، بعيداً عن أية حسابات أخرى، لأنه ليس خدمةً لأشخاص، ولكنه خدمة لقيمة أخلاقية إنسانية كبرى، تفعل فعلها الإيجابي كلّ آن، وتعين في حلّ المشاكل وبلورة الحلول الناجعة".
ويشير سماحته إلى ضرورة المؤسَّسة على مستوى المرجعية، بقوله: "إننا نعتقد أن التطورات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، التي بات يعرفها المسلمون الآن، وخصوصاً في الدائرة الإسلامية الشيعية، أصبحت بحاجة إلى المرجعية المؤسسة، بمعنى أن تكون المرجعية مؤسسة يقودها مرجع، لأن القضية أصبحت تحتاج إلى أجهزة ودراسات تتصل بمجمل المواقع العامة، وتشارك في كل القضايا المطروحة في الساحة، وتتحرك في كثير من المبادرات الشعبية والدولية، مما لا يمكن للمرجع أن يحيط به، إذ لا يكفي أن تمثّل الأفكار العامة القائمة التي لا تغني من جوع، لأنها لا تتصل بالواقع.
وفي ظلّ هذا الواقع، أرى ضرورة تحويل جهاز المرجعية إلى مؤسسة يقودها مرجع يملك علم الفقه بشكل عميق، ليس من الضروري أن يكون الأعلم، ولكن لا بد من أن يكون له، من خلال ممارساته، قدر كبير من النضج الذي يمكّنه من أن يفتي في كل قضية، أو أن يكتشف روح الإسلام في هذا الموقع أو ذاك، بما يمكنه أن يقدِّم فيه رأياً ولايتياً أو فقهياً، ونحن في الوقت الذي لا نرى وجوب تقليد الأعلم، نجد أنه لا يكفي في المرجع أن يكون مجتهداً في أول درجة الاجتهاد، بل لا بد له من أن يكون مجتهداً خبيراً ممارساً، يتميّز بالنضوج الناشئ من كثرة الممارسة وكثرة المذاكرة، وما إلى ذلك من الأمور...". [م.ن. ص: 279].
إنَّ المهمَّة اليوم، الانتقال من التقديس الوجداني للتقاليد، إلى مستوى تفعيل الإبداع العملاني الواقعي، وهذه مهمة ليست مستحيلة، بل يمكن تحقيقها عبر التآلف بين العقل والوجدان، وبالأسلوب المواكب للنشاط والفعالية في الواقع، بما يخدم طموح الذات والجماعة في سيرهما الحضاري والإنساني العام.
فمؤسسة المرجعيَّة طرح جدير بالاهتمام، والعكوف عليه في زمن التشتت، والضياع، والانعزال والاغتراب، يطيل من عمر التأخّر، ولا يفيد في شيء، سوى الانغماس في التقوقع في سجون حدود الذات المنفصلة عن واقعها وحركته..

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net