Tahawolat
أي نوع من الحوار يمكن الأخذ به كسبيل إلى تواصل لا ريب فيه؟
إذا كانت الغاية من أي حوار هي إنجاز اتفاق حول مشتركات، فقد يكون الحوار نفسه هو مادة الخلاف بين المتحاورين.
وغالباً ما تظهر هذه المفارقة، عندما يكون التحاور محكوماً على الجملة بالمصالح البحتة. لكن ثمة منظورا آخر للقضية، يمكن أن يُخرجها من دائرة الإشكال، هو المنظور الذي يرى إلى الحوار بوصفه عملية أخلاقية ومعرفية ذات وظيفة مركبة: أن تتعرف الذات الى هويتها أولاً، ثم تخطو لتتعرّف إلى صورة الغير الذي يقوم بالمهمة نفسها، ثم لينشأ جراء ذلك ما يشبه التناظر المتكافئ بين ضفتين.
ضمن هذا المحل من الفهم، لا يبدو الغير (أي الآخر) إلاّ ما تنطوي عليه الذات من قيم لتبلغ تمامها. فالحوار في هذه المنطقة المعرفية، إنما هو صيرورة الأنا إلى الغير، حتى لَتنبسطا معاً، وبواسطة التحاور، على الرضى والقبول.
الأمر يعود إلى تكثّر أوجه استعمال مصطلح الحوار، وبسبب من سوء توظيفه في حقول النزاعات السياسية والثقافية والاجتماعية والعقائدية، فقد لحقت به التباسات شتى. حتى إننا نجده في أحوال كثيرة، كما لو كان اصطلاحاً يوضع في غير منازله المفترضة، لا سيما حين يجري تحويره وتدويره، وفقاً لضرورات احتدام المصالح.
فالآليات الإجمالية التي ينبغي توافرها لكي يمضي المتحاورون إلى غاياتهم، ينبغي لها أن تتأسس على منظومة معرفية قوامها الاعتراف، والتكافؤ، والرضى.
ذلك أن التحاور في أحواله، ومبانيه، وغاياته، قائم على الاعتراف والتقابل السوّي، وحق كل فريق، سواء كان فرداً أو جماعة، في المشاركة المتساوية المتكافئة في تقرير الصياغة النهائية، لشكل ومضمون المسألة التي يجري الحوار بشأنها. لذا، فإن استقامة الحوار على صراط التوازن، والاعتراف، والاحترام، وكذلك حرمة تجاوز حدود الغير، تفترض مراعاة جملة من الشروط والقواعد والآليات يمكن إجمالها على النحو التالي:
أولاً؛ يُفترض أن يكون اللقاء مباشراً بين المتحاورين، وعلى هذا فإن العلاقة الأفقية بين ضفتي التحاور، هي التي ينبغي توفيرها أولاً لكي يجري التلاقي والتواصل على نحوٍ سويّ. إن الرغبة في الحوار، هي جدلية معرفية مركبة، تكتمل باكتشاف مستمر للذات من خلال العلاقة مع الغير، وبالتوازي مع استكشاف مستمر وغير نهائي له.
ثانياً؛ الموضوعات المشتركة التي يتم التداول بشأنها، تستلزم لغة مشتركة وواضحة لسائر أطراف الحوار، وأن تكون اللغة التي يستخدمها كل طرف، مفهومة وواضحة بالنسبة إلى محاوره. بمعنى أوضح؛ أن تنأى تلك اللغة عن الغموض والكمون والريبة، ما يفسد على المتحاور بلوغ غايته الفضلى.
ثالثاً؛ النظر إلى الغير بما هو غير، له وجوده وشخصيته، وله ميّزاته السالبة والموجبة. وبمعنى محدَّد وصريح؛ أن تكون لدي القناعة الكاملة، بأن الغير الذي يشاطرني تبادل الكلمات، هو كيان مستقل بذاته، منفصل عني ومتصل بي في الآن عينه.
ولئن لم أستطع النظر إليه من هذه الزاوية، فسأكون كمن يحاور كائناً أبتكره وفق ما أريد، كأن أصطنعه لنفسي وأهوائي. من هنا، نستطيع أن نفهم معنى كلمة «المساواة»، التي تتبوأ موقعيتها الحاسمة في فلسفة الحوار.
رابعاً؛ اجتناب إسقاط ما تمتلئ به «ذواتنا» من مسلّمات، على «ذوات» الغير. فلو فعلنا ذلك، لاستحال التحاور مجرد صديً للمتكلم الأول، في حين يصبح من يناظرنا مجرد سامع للأصداء. فالحوار هو حادث معنوي بين حالتين إنسانيتين، تسعيان إلى أن تكوِّنا معاً صورة واحدة.
ولسوف ننجز المزيد من الفهم المتبادل، كلما قطعنا مسافة إضافية على الطريق الطويل، المكتظ برحمانبة التساؤل. فالحقيقة التي نتغيَّا أمرها، سوف تأتينا حين نقترب منها على مبدأ النظر إلى الغير بعين القبول، لا بعين الاختصام والإقصاء والعدوان.
خامساً؛ الاحترام.. ونقطة البداية هنا تكمن في أن أقبل من أراه أمامي انطلاقاً من حيث هو، لا من حيث أريد له أن يكون. إنني أقبله انطلاقاً من كينونته، كما هو موجود وحاضر أمامي. أن أحترم الغير، هو أن أراه حيث هو، خارجاً عن أي اتهام، وبالتالي أن أنظر إليه خارجاً عن أي نيّة منّي بتغييره.
سادساً؛ الفردانية، إذ لا نستطيع القول إننا نتحاور كطرفين، إن نحن نظرنا إلى الغير انطلاقاً من تعميم يُخرجه من فرادته، فهذا الغير هو كائن له هويته الشخصية الكاملة، من قبل أن يكون مجرد كائن في جماعة. إنّ هذا يجعلنا نقف أمام بعض، ككيانين متقابلين متكافئين، دون أن يذوى الواحد منا في الآخر.
فكما يجب أن أنظر وأرى الغير كما هو، عليَّ أن أسهم في أن ينظر الغير إليّ كما أنا، وليس كما تنعكس أحوالنا وصورنا من خلال التعميمات والأحكام المسبقة.
على أرض رؤية الغير كنظير وجودي لذاتنا، بل كشبيه لنا في الخَلق، سوف يتأسس معنى جديد للحوار يقوم في آن، على الواجبية الأخلاقية، مثلما يقوم على ضرورة الاجتماع الذي يحكم عالمنا الآن.
تلك تأملات وجدنا لها محلاً من الجدوى، وسط ضوضاء الكلام على ديمقراطية التحاور بين الأفراد والجماعات والدول. بينما تظهر لنا الصورة على غير ما تنطوي عليه من مقاصد، سواء في القضايا المتناهية الصِغَر، أو في القضايا الكبرى التي تعصف بالإنسانية المعاصرة.
*رئيس تحرير «مدارات غربية»
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net