Tahawolat
إنّ الإفادة من تجارب الأمم السّابقة والاعتبار منها، أمر مهمّ على صعيد التطلّع الواعي والهادف إلى المستقبل المشرق، وخير كتاب تحدّث عن تجارب الأمم الخاوية وعن أخذ العبرة من قصصهم، هو القرآن الكريم، ولقد شغلت القصّة القرآنيّة مساحةً لا بأس بها في الكتاب العزيز، حيث يأتي التّركيز على أخذ العِبرة، فليست القصّة مطلوبةً بذاتها لأجل التسلّي، أو للسّرد الفنّي والتّاريخي والقصصيّ، بل هي مفتاح لإيصال الفكرة الأساسيّة من العِبرة، لكي يؤسّس عليها النّاس، ويتفاعلوا معها بكلّ كيانهم، لينطلقوا بالنّهوض المطلوب لإصلاح واقعهم وعدم تكرار أخطاء الآخرين...
والقصّة في القرآن في غاياتها النّهائيّة، هي وسيلة للبحث الحضاريّ والإنسانيّ، بمعنى أنّها ليست منفصلةً عن الواقع، تردّد أخبار الماضين وقصصهم وأحوالهم، بل إنّها تركّز على واقع حالهم وتصرّفاتهم ومصيرهم، كي يأخذ إنسان اليوم الدّروس، وينظر بعين المتبصّر إلى تجارب الآخرين، ويستفيد من خطوطها في تعزيز واقعه الفرديّ والجماعيّ، عبر أخذه لزمام المبادرة في النّهوض والتّغيير...
إذاً، القصص القرآنيّة أداة توجيه وتربية وتثقيف للفرد والجماعة، كما أنّ القصّة تمثّل محوراً ومرتكزاً هامّاً في رسالة القرآن الكريم، في تأدية فكرة معيّنة ترغيباً وترهيباً، عبر الأسلوب الفنيّ القصصيّ، بحيث يحدث هذا الأسلوب الاهتزاز النفسي، والتفاعل الحيّ والحيويّ مع الأحداث، ويترك هذا الأسلوب الأثر المطلوب في الشخصيّة على المستوى الذهني والنفسي والروحي، فتصبح أكثر إقبالاً وقرباً من الفكرة وغايتها، عندها يصبح دورها بمدى استفادتها من هذا الواقع الجديد الّذي تحكيه القصّة، وربط معانيها ومفاهيمها بالواقع واستخلاص الدّروس والإرشادات...
ويقول «الشّيخ محمد الغزالي»، كما يذكر الدّكتور «محمد فرج» في مقاله «الشّيخ الغزالي والقصص القرآنيّ»: إنّ دراسة قصص القرآن الكريم فريضة دينيّة، وفريضة إنسانيّة وضرورة بقاء...
فلا بدَّ من النَّظر بشكل دقيق وعميق في أحداث التّاريخ والقصص، حتّى نستجلي ما فيها من فوائد، وما شابها من مخاطر، في سعينا الآن لبناء واقعنا، وأن نعطي هذه الأحداث كلّ تقدير وعناية، مع الأخذ في الاعتبار اختلاف الزّمان والمكان والبيئة العامّة وطبائع النّاس، لكن تبقى التجربة الإنسانيّة لكلّ أمّة تجربة فريدة ومميّزة، وتصلح للوقوف عندها، وأخذ المعالم الأساسيّة والخطوط العامّة لها...
ولم يكن سرد القصّة للأحداث ملعباً للتسلّي والتلهّي، بل للحضّ على التفكّر والنّظر في مصير الأمم الغابرة وعواقبها، وأنّ أيّة أمّة منحرفة في أيّ زمان ومكان، سيكون مصيرها السّقوط والاندثار الّذي شهدته الأمم السّابقة، فهذا من السّنن الطبيعيّة والإلهيّة، والقرآن الكريم مليء بالشّواهد على ذلك، كمصير قوم نوح وهود وصالح وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والرّسل، وفي ذلك كلّه دعوة للنّظر مليّاً في عمق ذاكرة التّاريخ، لنعرف أين نحن من منظومة القيم والمبادئ والنّهضة الإنسانيّة والحضاريّة، أو ما إذا كنّا نسير في ركب الأمم المتهالكة!
القصّة القرآنيّة، والّتي هي وحي من السّماء، تتجلّى فيها مجموعة من القيم والمفاهيم المتنوّعة الّتي تخدم الإنسان في نهوضه ونهضته، وتعمل على البناء النفسيّ والرّوحيّ للإنسان، لتقوّيه أمام عواصف التحدّيات، وتجعل منه إنساناً معتبراً واعياً فاعلاً ومؤثّراً في واقعه، ومتواصلاً مع تاريخه وماضيه، عندها يستحقّ أن يكون مستخلفاً على الأرض، ويصبح لوجوده معنى آخر ومتجدّد...
يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:3].
وفي تفسير لهذه الآية، يقول سماحة المرجع السيّد فضل الله(رض): «{بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ}، الّذي أطلق القصّة، بهدف إظهار العبرة الّتي تفتح القلوب والعقول على كلمة الله، وتزيل عنها حجاب الغفلة، بما تعنيه المعرفة من يقظة الفكر والرّوح، {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}، في ما يفرضه عدم العلم من غفلةٍ عن كثيرٍ من شؤون الحياة والتّاريخ...[تفسير من وحي القرآن، ج12، ص:162].
ويقول تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[يوسف:111].الّذين يحرّكون عقولهم من أجل أن يفهموا كلّ ما يسمعونه، ليستفيدوا منه في إغناء تجربتهم، وتثبيت مواقفهم... [تفسير من وحي القرآن، ج12، ص:288
ويقول تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ} من الرّسل في التّاريخ، ممن كان لهم الدّور الكبير في الدّعوة إلى الله والجهاد في سبيله، لتعتبر، ويعتبر الّذين اتّبعوك، في ما يمكن أن تأخذه من درس في تجربة الدّعوة والحركة، وفي ما يمكن أن تحصل عليه من خشيةٍ لله...{(وقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرا [طه:99، بما أوحينا إليك من القرآن الّذي تتنوّع فيه الأفكار والمفاهيم والقصص والمواعظ، من أجل أن تتعرّف من خلاله حقائق الأمور، وتفاصيل القضايا التي تتّصل بمسؤوليّتك أمام الله في الدّنيا والآخرة... [تفسير من وحي القرآن، ج15، ص: 155
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net