Tahawolat

ليست قضية الاجتهاد مع حيويتها وأهميتها جديدة على الفكر الإسلامي، وإن اختلفت الظروف والبيئات الحاضنة لها، فمنذ القرن الثامن بدأ العقل الإسلامي ينفض شيئاً فشيئاً غبار الخلود إلى التقليد الجاف، حيث نجد ان بعض الإصلاحيين قاموا بمحاولات كبيرة ومهمة لعرض قضية الاجتهاد عبر مؤلفاتهم على سبيل المثال لا الحصر «القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد» للشوكاني (ت1837م)، و»القول السديد في الاجتهاد والتقليد» لرفاعة الطهطاوي (ت1873م)، وكتاب «الإقليد لأدلة الاجتهاد والتقليد» لأبي نصر القنوجي الصادق عام (1879م)...
وبعض هذه المحاولات تراها اقتباساً عن بعضها البعض، ولم تكن صريحة وواضحة بالدعوة إلى الاجتهاد وفتح الباب واسعاً أمامه...
نأتي على ذكر رؤية عبد الرحمن الكواكبي (ت1902م) الإصلاحية لمسألة الاجتهاد، خاصة في كتابه «أم القرى» وما نلمحه لديه أن قارب الموضوع من زوايا مختلفة، منها دعوة الغربيين للإسلام، فانطلق منها للدعوة لفتح الاجتهاد، حيث أشار إلى أن الكثير من الغربيين هجروا الكاثوليكية إلى البروتستانتية لميلهم إلى الإيمان العقلي، وطرحهم الشروح والزيادات على الإنجيل والكتب المقدسة، فينبغي لذلك أن نعرفهم على دين الإسلام لا المذاهب، وقد أسند الكواكبي طرحه لقاعدتين أساسيتين:
الأولى: أن الرسول(ص) قد بلّغ رسالته كاملة ولا يحق لنا أن نتصرف فيها، بل الواجب اتباع قوله وإقراره وما أجمع عليه الصحابة.
الثانية: أنّ دائرة حياتنا العامة يمكن أن نتصرّف فيها مع رعاية القواعد الأساسية التي شرّعها الرسول(ص) وما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
وبناءً عليه، يرى «الكواكبي» أنه ليس لزاماً على المسلم أن يقلّد أحد المذاهب الفقهية، ويفنّد بعد ذلك أدلة القائلين بالتقليد ووجوبه، ويعطي رأيه بدليل [اختلاف الأئمة يعد رحمة بالعباد] بأن الخلاف بين الأئمة يعد رحمة في حال أُحسن استخدامه وإلا فهو نقمة على الأمة ويفرّقها...
وأما عن دليل [إجماع الأمة على وجوب التقليد] فيرى أنه لو كان الصواب في الكثرة والقِدَم لاقتضى ذلك صوابية الوثنية، بل إن هذا الإجماع يخالف برأيه قول الرسول(ص) عن تفرّق الأمة إلى بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فأين ميزان الأكثرية في كل ذلك..
أما عن دليل [الأئمة أعلام وأكثر منّا فهماً وعلماً] فيرى أن معرفتنا بالأصلين، القرآن والسنّة، كافية لنكون مؤهلين للقيام بعملية الاجتهاد من دون الركون إلى تقليد أحد من الأئمة...
ويرى الكواكبي أنه إذا كان على العلماء القيام بواجب الاجتهاد، فإن عملية الاجتهاد نفسها ينبغي أن تقع تحت رعاية وإشراف الإمام، أو ولاة الأمور، فعليهم أن يلزموا الأمة باتّباع الأحكام الاجتهادية التي هي أحكام زمانية، وليس شرعاً في حدّ ذاتها، فإذا تبدّل الزمان عُدِل عنها بغيرها...
وما يتعلّق «بالاجتهاد» في الإسلام وما يتشعّب عنه، يرى سماحة الفقيه المجدد السيد فضل الله(رض)، أن حيوية الاجتهاد الإسلامي التي توحي بتغيّر الأحكام بين مرحلة وأخرى، يعود سببها إلى تطور أفهام المجتهدين، فربّ مجتهد حملته خصوصيات ثقافته في فهم النص إلى الالتفات إلى معانٍ لم ينتبه إليها الآخر، فهذا ما يمكن أن يحرِّك ما يسمى تطوراً، وهو ليس تغيّراً للأحكام، وإنما تغيّر في اجتهادات المجتهدين، تماماً كما هي النظريات التي تختلف في فهم نصّ معين، أو في فهم واقع معيّن...
إنّ هذه الحيوية، يتابع سماحة السيد(رض)، جعلت الإسلام أو الاجتهاد الإسلامي يحقق الكثير من النتائج الإيجابية في مدى الزمن.
وإذ نحن ـ يضيف سماحته(رض) ـ في عصرٍ متنوع ومختلف عن كل العصور السابقة، ويحمل الكثير من القضايا والحاجات، والتنظيمات الجديدة، فإن الفقهاء إذا تعاملوا مع هذه الحاجات، أو التنظيمات أو القضايا واستوعبوها، سيمدون الاجتهاد بحيوية جديدة، إن في التعامل الاجتهادي مع حركية النص، أو مع القواعد المستوحاة من النص، أو ما يسمى روح النص، وإذا ارتكز ذلك على أسس قاعدية مقبولة لدى أهل اللسان أو ما أشبه ذلك، ما يمكن أن يحرِّك الإسلام في كل حاجات الإنسان المستقبلية، فقضية الإسلام فيما قد يُثار أمامه من عناوين القصور والتخلّف ليست قضية الإسلام في نفسه، ولكن قضية المجتهدين الذين لم يملكوا سعة الأفق على مستوى الثقافية الإسلامية، ولا على مستوى الثقافة المطلقة في فهم أحكام الإسلام وقضاياه ومفاهيمه...
ويقول سماحة السيد(رض): لعلّ من أولى مهمّات حركة الاجتهاد المعاصر، أن تواجه النصوص في الكتاب والسنّة مواجهة مستقلّة واضحة تنطلق من الفهم الواعي المستند إلى ثقافة علمية دقيقة واسعة في المجالات التي تتحرّك فيها القواعد اللغوية والأصولية، ومن التركيز على دراسة الأجواء العامة التي انطلقت فيها، ثم ملاحظة الظروف الموضوعية التي نعيشها، مما أحدث لنا أوضاعاً جديدة في العلاقات العامة وفي أساليب الحياة للتعرّف من خلال ذلك على طبيعة الموضوعات التي تتوفّر النصوص الشرعية الكفيلة بمنحها الحكم، ليعالجها معالجة واقعية...
إننا نركّز، ونؤكد على استبعاد القداسة للشخص وللرأي الفقهي من دائرة الاجتهاد واعتبار الآراء الفقهية في أي مجال علمي قابلة للمناقشة، فلا تمنع المصير إلى رأي مخالف، ولا توجب الارتباط برأي موافق مهما كانت درجة أصحابها من العلم والمعرفة والمركز الروحي، إلا بمقدار ما يكون للرأي من قوة الحجة وسلامة البرهان، لأن إعطاء الآراء القديمة القداسة التي لا يدّعيها أصحابها لأنفسهم يجعلنا نواجه تقليداً فكرياً باسم الاجتهاد...
ويرى سماحته(رض) ضرورة تحرّك الاجتهاد في الطريق المستقل لمواجهة الحالات العامة والخاصة للحياة على أساس شريعة الله، من دون الخضوع لأي ضغط، وخصوصاً الآراء السابقة التي لا تكون موضوع قناعة، فذلك وحده ـ بحسب سماحته(رض) ـ هو الذي يمنح حركة الاجتهاد حيويتها بعيداً عن التقليد الفكري والضغط الواقعي...
إننا ندعو إلى بحث علمي فقهي موضوعي لا يتحرّك من موقع القداسة للقديم ولا يطلق ويتحرك من خلال ذهنية التحريم والتضليل والتكفير والتفسيق التي تطلق من جانب البعض على أصحاب الآراء المختلفة...
وعلى صعيد أثر الزمان والمكان في الاجتهاد، فإن علينا أن ندرس ـ يقول سماحته(رض) ـ شخصية المجتهد، لأن أية شخصية لا بد من أن تخضع بطريقة شعورية أو لا شعورية للمؤثرات التي تؤثر في تكوين عناصرها، سواء أكانت ثقافية أم عاطفية أم شعورية، بعلاقة الإنسان بالأشياء...
وفي ضوء هذا، فإن تأثر المجتهد بالزمان والمكان ينطلق من تأثر الإنسان ببيئته وبالأجواء المحيطة به.
إننا نريد أن نقول: إن كثيراً من حالات الاجتهاد تنطلق من خلال تأثر الإنسان ببيئته التي قد توحي إليه ببعض المشاعر أو ببعض الأفكار، وقد تجعل ذلك مؤثراً في اجتهاده واستنباطاته للحكم الشرعي... [المصدر: كتاب الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل].
ولا يسعنا في هذه العجالة التطرق لكل أفكار سماحته(رض) حول الاجتهاد وما يتفرّع عنه من قضايا وعناوين شتى، ومن أراد الاستزادة أكثر عن الموضوع فليطالع كتاب سماحته(رض) [الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل]...

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net