Tahawolat
 
 
مثلت الحروب البونية (بين روما وقرطاجة، والتي انتهت بتدمير قرطاجة التام) نقطة التحوّل النهائي من المرحلة المتأخرة للمجتمع المشاعي البدائي الى مرحلة المجتمع العبودي الذي جسّدته روما تماماً واستعبدت بموجبه شعوب العالم المتحضر القديم. وظهرت الديانة المسيحية (الإيمان بمجيء المسيح ـ المخلص) كردّ فعل على انتصار روما والمجتمع العبودي، وكشكل من اشكال النضال الإنساني ـ الاجتماعي ـ السياسي ـ الايديولوجي ـ الديني ضد العبودية الرومانية وضد ملحقها وخادمتها الاستغلالية والفسادية اليهودية. وانتشرت العقيدة المسيحية اول ما انتشرت في البلدان التي تُعرَف اليوم بـ"الوطن العربي الكبير"، وكان لها الفضل الاول في تقريب شعوب تلك البلدان وتآخيها في الاطار الديني المسيحي، مما مهد لبلورة الامة العربية وظهورها لاحقاً. وهذا البحث المتواضع يحاول ان يلقي الضوء على هذه العملية التاريخية، التي هي من اكبر العمليات الحضارية في التاريخ والتي تؤكد ثلاث حقائق جوهرية: الاولى ـ حضارية الامة العربية. والثانية ـ ان الامة العربية ولدت في الكفاح ضد الاستعمار والاستعباد الاوروبي والفساد اليهودي. والثالثة ـ ان المسيحية هي الأس الأساسي لولادة الامة العربية.
 
 
وهذا الوجود المسيحي التاريخي هو واقع لا يمكن انكاره، بصرف النظر عن طبيعة المعتقدات المسيحية وصحتها او عدم صحتها، بأي مقياس كان.
ولتوضيح هذه النقطة المعرفية الجوهرية نستميح القارئ عذرا في تقديم المثال التالي: في المرويات الشعبية ان شيخا قرويا كان أشرف على الموت، وكان لديه ابناء عديديون وقطعة ارض لا تكفي لتقسيمها على ابنائه كي يبني كل واحد منهم بيتاً مستقلاً. وكي يبرر الشيخ عدم تقسيمه الارض فيما بينهم، قال لاولاده انه يترك لهم كنزاً مطموراً في الارض ولكنه لا يتذكر اين دفن الكنز، واوصاهم ان ينقبوا الارض بعد مماته ويجدوا الكنز ويتقاسموه. وفي اليوم التالي لوفاة الشيخ شرع ابناؤه في تنقيب الارض الى عمق معين، ولما لم يجدوا شيئاً تابعوا التنقيب اكثر فأكثر، حتى يئسوا او تعبوا وتوقفوا عن التنقيب وهم يندبون حظهم مع والدهم "الخرف" والذي كذب عليهم، حسب زعمهم. وبالصدفة مرّ بهم شيخ آخر من اقاربهم، فحكوا له حكايتهم، فرثى لحالهم، ولكنه قال لهم أخيراً، ان والدهم الشيخ المتوفى لا يمكن ان يكون كذب عليهم لانه يعرفه عن قرب، وهو يؤكد صدقه، خصوصا انه كان على فراش الموت، ولكن طالما انهم تعبوا ونقبوا الارض بهذا الشكل العميق فليستفيدوا منها ويزرعوها ويتقاسموا غلتها عند الحصاد؛ ففعل الاخوة ما نصحهم به قريبهم الشيخ، وحصلوا على غلة جيدة تقاسموها فيما بينهم؛ وكانت غلتهم أفضل غلة في قريتهم نظراً لعمق تنقيب الارض الذي كانوا قد أنجزوه. وفي السنوات التالية كان هؤلاء الاخوة الباحثون عن "الكنز الموعود والمفقود" يعيدون التنقيب عملاً بوصية والدهم المتوفى وبنصيحة قريبهم الشيخ، ويعيدون الزراعة، ولا يجدون الكنز، ولكنهم يحصلون على افضل الغلال، واصبحوا من اغنى اغنياء القرية والمنطقة.
فسواء كان حديث الشيخ المتوفى كذبة؛ فربما حينما دفن الشيخ الكنز في الارض رآه احد اللصوص واختلسه من حيث لا يدري؛ وسواء ان الكنز لا يزال موجوداً في الارض ولم يستطع الاولاد الوصول اليه؛ فإن هؤلاء الاولاد ـ ومن حيث يقصدون او لا يقصدون ـ تحوّلوا الى مجموعة زراعية هي الافضل والارقى والاغنى في القرية المعنية. وسيكون من السخف تماماً ان يمر احدهم بهؤلاء الاخوة وهم ينقبون في أرضهم ويعتنون بزرعهم، ويسخر منهم بأنهم "مخدوعون" يضيّعون وقتهم في البحث عن كنز غير موجود.
ومع كل احترامنا لكل معتقد ديني، مسيحي او غير مسيحي، نقول إن ليس المهم صحة او عدم صحة معتقدات الاديان عن نفسها او عن بعضها البعض، واستطرادا ليس المهم صحة او عدم صحة المعتقدات العلمانية والالحادية والفلسفية والدينية عن اي معتقد كان، وبالعكس، بل المهم هو السلوك الاجتماعي والاخلاقي والاقتصادي والسياسي (الوطني والقومي والأممي، الانساني، او غير الوطني والقومي والأممي، وغير الانساني) لكل جماعة بشرية، دينية او غير دينية. (ولبنان هو "نموذجي" على هذا الصعيد: حيث هناك "مسلمون" و"مسيحيون" و"علمانيون": وطنيون وفي صف المقاومة؛ و"مسلمون" و"مسيحيون" و"علمانيون" غير وطنيين يقفون في صف اميركا واسرائيل واعداء للمقاومة).
وفي المحصلة التاريخية نرى (كما في قصة الاخوة الذين نقبوا ارضهم جيداً بحثاً عن "الكنز") ان منطقة الانتشار الاكبر للمسيحية في المنطقة العربية، قبل ظهور الاسلام، وبدونه، وبدون اي انتقاص من دوره اللاحق، هي المنطقة الارقى في جغرافية الخلافة العربية الإسلامية. وهو ما اعترفت به موضوعياً الخلافة ذاتها حينما نقلت مقرها من الجزيرة الى دمشق، ثم الى بغداد. وحينما انقسمت على نفسها الى خلافتين في: بغداد والقاهرة.
والسبب طبعاً ليس دينياً ـ ايمانياً، بل لان مناطق سوريا والعراق ومصر كانت ارقى حضارياً من شبه الجزيرة العربية، وهي كلها مناطق كانت، بمعزل عن السلطات الوثنية او "المسيحية!"، ذات طابع شعبي مسيحي. اي ان غالبية او كل الشعب كان مسيحياً.
وبناء على فهمنا التاريخي الواقعي هذا فإننا نقول انه تجب مناقشة الفعل التاريخي للوجود المسيحي كما هو، اي من خلال معتقداته هو عن نفسه، ومن خلال تنظيمه ونشاطه وحراكه الخاص، وليس من خلال المعتقدات والأحكام الغيرية والمغايرة، عنه وعليه، الدينية او الفلسفية او السياسية.
ومع كل "الاحترام" لاجتهادات السيد محمود خليل وكل الضاربين على طبله، ليسمح لنا عطوفته في ان ننظر فيما تقوله الرواية المسيحية ذاتها (الأناجيل المقدسة والنصوص الكنسية) عن ولادة السيد المسيح، ورد فعل روما وعملائها ويهودها على ولادة السيد المسيح، وهروب العائلة المقدسة الى مصر، والحقائق التاريخية التي تؤكدها تلك الرواية:
ـ1ـ الانتماء الى الفقراء:
تقول الرواية المسيحية إن السيدة مريم العذراء وضعت الطفل يسوع في مذود. وبصرف النظر عن البحث في الحد الفاصل بين المشيئة الالهية والامكانيات المادية لعائلة يوسف النجار من الناصرة، فإن الواقع الذي تأخذ به الرواية المسيحية ويصدقه المسيحيون الصادقون هو ان يسوع المسيح ولد فقيراً وفي عائلة فقيرة، كأي عائلة فلاحية فقيرة يولد اولادها ويعيشون في غرفة واحدة، او خيمة واحدة، او زريبة واحدة مع الحيوانات الأليفة التي تعتاش منها العائلة. وبالرغم من كل هذا الفقر المدقع، فإن الرواية المسيحية، تسمّي المسيح المولود "المخلص"، ولا تسمّيه "الملك"، كما كان ينتظره اليهود.
وهناك الكثير من المسيحيين، ناهيك طبعاً عن اعداء المسيحية، الذين يمرون بهذه النقطة مرور الكرام، او اللئام. ولكن هذه النقطة هي نقطة جوهرية، انقلابية او ثورية في التاريخ البشري. اذ ان الحركة الدينية الالهية التوحيدية، المغايرة للدين او الاديان الوثنية عامة والرومانية خاصة، وهي الحركة التي تنسب الى ابرهيم الخليل او النبي موسى، كانت تضم اليهود والمسيحيين على قدم المساواة. وقد عبرت هذه الحركة عن نفسها من خلال كتابة "الكتاب المقدس" المشترك، اي ما يُسمّى "التوراة" و"العهد القديم"، والذي شارك في كتابته مئات الكهنة ورجال الدين والمفكرين والحاخامين، على مدى 1500 سنة وأكثر. وكانت تنبؤات هذا الكتاب (في النسخة التي يتبناها اليهود) تبشر بمجيء المسيح من سلالة الملك داود. وكان اليهود يؤمنون ان المسيح سيأتي كملك. ولكن المسيح الذي "أتى" وآمن به "المسيحيون"، "أتى" كطفل فقير يولد في مذود بقر. اي ان المسيح الذي آمن به المسيحيون قد اعلن، بولادته ذاتها ومنذ لحظة ولادته، وحتى قبل إشهار رسالته، اصطفافه او انتماءه الى الفقراء والتعساء والبؤساء، وذلك ليس كإله او حاخام او كاهن او ارستقراطي متعاطف معهم، بل كأي انسان بسيط هو واحد منهم وفيهم.
اي: ان المسيح الفقير، الذي أعطاه الإنجيل صفة "المخلص"، وضعه الانجيل منذ لحظة ولادته بالذات ضد المجموعة اليهودية، وضد عملاء روما، وضد روما ذاتها، وضد طبقة الأغنياء بكاملها، ومن ثم ضد المجتمع الاستغلالي ـ الاستعماري السائد بأسره.
ـ2ـ صراع الوجود مع اليهود وروما:
وتقول الرواية المسيحية إن ممثل السلطة الرومانية هيرودس لما علم بولادة السيد المسيح في حالة هي غير الحالة التي كان يتوقعها اليهود، "اضطرب هو وكل اورشليم معه وجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب". ولما رأى "ان المجوس قد سخروا به" اي لم يرجعوا إليه ويخبروه بمكان وجود الصبي الذي كان قد أزمع على قتله "غضب جداً وأرسل فقتل كل صبيان بيت لحم وجميع تخومها من ابن سنتين فما دون على حسب الزمان الذي تحققه من المجوس".
وهذا ما يذكرنا بالحصار الروماني لقرطاجة في 146ق.م، فبعد محاصرة المدينة وبدء الهجوم عليها من قبل الجيش الروماني بقيادة شيبيون "تمكن صدربعل (القرطاجي) قائد فرق الخيالة من تنظيم المقاومة بين الجيش والشعب وشن هجمات كاسحة في اتجاه الميناء في محاولة مستحيلة للخروج بالأطفال والنساء إلى البحر، وبعد أن أدركه اليأس وضع سيفه على الأرض وانحنى أمام شيبيون طالباً لهم الرحمة". ولكن شيبون لم يستجب له. "إذ ذاك تقول الروايات تقدمت زوجة صدربعل ورمت بنفسها في النار مع طفليها كي لا تحوجه استعطاف الرومان المتغطرسين، واندفعت قرطاجة تقاتل من جديد في آخر معركة وآخر يوم فيما أشرف شيبيون من موقعه في البرج على عمليات القوات الخاصة لإشعال النار في كل بيت". وظلت قرطاجة تقاتل وتشتعل فيها النيران مدة 17 يوماً حتى دكّت بالكامل (راجع موسوعة ويكيبيديا).
وبعد مرور 2100 سنة على تدمير قرطاجة وأقلّ من 1950 سنة على ميلاد السيد المسيح وصف المفكر "اللبناني" انطون سعادة الصراع مع اليهود، واستطراداً: الصراع مع "روما" القديمة وكل "روما" بعدها حليفة استراتيجية لليهود، ـ وصفه بأنه "صراع وجود لا صراع حدود". ويضيف سعادة إن الصراع مع مَن يسمّيهم "يهود الداخل" هو جزء لا يتجزأ من "صراع الوجود مع اليهود". ونذكر هنا ان الحاكم "الروماني" هيرودس لم يكن روماني القومية، ولم يكن يهودياً عبرانياً، بل كان أدومياً متهوداً، اي كان احد كلاب روما من: "يهود الداخل" حسب تعبير انطون سعادة. ومن المفيد ان نذكر هنا ان "يهود الداخل" في لبنان وسوريا نظموا تسليم انطون سعادة ومسرحية محاكمته واعدامه في 1949، ولكن هذا لم يلغ افكار انطون سعادة بل أكدها بالملموس. ذلك ان انطون سعادة لم يأت بأفكاره من فراغ، بل كان يقرأ التاريخ وقارئاً جيداً للانجيل.
ـ3ـ الانتشار المسيحي قبل ولادة المسيح:
أ ـ الرعاة:
وتحدثنا الرواية المسيحية (انجيل لوقا) أنه "كان في تلك الناحية رعاة يبيتون في البادية يسهرون على رعيتهم في هجعات الليل". وان ملاك الرب ظهر لهم وأنبأهم بولادة السيد المسيح. وأعطاهم الملاك علامة محددة وهي "انكم تجدون طفلاً ملفوفاً مضجعاً في مذود". وذهب الرعاة وسجدوا له. اي بفصيح العبارة ان السيد المسيح هو بالتحديد مسيح الفقراء، وان الفقراء هم الركيزة الاولى للمسيحية، الركيزة التي اختارها الرب قبل ولادة السيد المسيح.
من هم هؤلاء الرعاة؟
ربما كانوا يهوداً عبرانيين، وربما كانوا كنعانيين، وربما كانوا بدواً. فالعبارة قد تفيد الفئات الثلاث. وحتى لو افادت الفئات الثلاث معا، فإنها ايضاً تفيد وجود انسجام وتفاهم فيما بينهم؛ كما تفيد انهم كانوا ينتظرون "مجيء" المسيح ـ المخلص، وليس المسيح ـ الملك، ومَن ثم كانوا ينتظرون مجيء المسيح الفقير، وبكلمات أدق: مجيء المسيح المخلص للفقراء. وهذا ما أكده لهم "ملاك الرب"، فذهبوا وسجدوا له.
وهذه الرواية تؤكد انتشار المسيحية في محيط بيت لحم وفي البادية القريبة، قبل ولادة السيد المسيح ومعها وبعدها. والالتباس الوارد في الانجيل حول "قومية" الرعاة يدل أن المسيحية كانت قد بدأت بالانتشار بين مختلف الفئات، بما في ذلك بين اليهود الفقراء (كالرعاة الذين ذهبوا وسجدوا للمسيح في المذود، والحرفيين كيوسف النجار، والصيادين كبطرس).
ب ـ المجوس:
كما تحدثنا الرواية المسيحية (انجيل متى) "ولما ولد يسوع في بيت لحم... اذا مجوس قد أقبلوا من المشرق" كي يسجدوا للمسيح ويقدموا له الهدايا.
فمن هم هؤلاء "المجوس"؟
الآن، بعد سنة او عشر سنوات او مئة سنة، بل بعد 2013 سنة من ميلاد السيد المسيح، لو وجهنا هذا السؤال بشكل اعتباطي، لانهال علينا سيل من الأجوبة على لسان بعض "الإسلاميين!!" التكفيريين، وبعض بقايا البعثيين الصداميين، بأن "المجوس" هم من الفرس الملاعين، عبدة النار والشياطين، او من الشيعة الرافضيين، المؤيدين للنصارى "المشركين".
ولكن مثل هذه الأجوبة لا تضيء على اي مسألة اضاءة حقيقية، بل تتكشف فقط عن الحقد الاعمى، الشوفيني والمذهبي، او العمى الحاقد، الذي يُعمي بصرَ وبصيرة اصحابه.
وللإضاءة على هذه المسألة نرى من الضروري إيراد بعض ما تقوله المصادر المسيحية نفسها عن اولئك "المجوس".
في الموقع الالكتروني المسيحي LINGA.ORG يرد ما يلي:
(أ) "ترد كلمة "مجوس" في العهد القديم في نبوءتي إرميا ودانيال. فمن رؤساء بابل الذين دخلوا أورشليم بعد أن فتحها نبوخذنصر ملك بابل، وجلسوا في الباب الأوسط (يرد اسم) "نرجل شراصر رئيس المجوس" (إر 39: 3 و13). ويرى البعض أن الكلمة الكلدية المستخدمة هنا وهي "رب موجي" معناها "أمير عظيم". وكان الفرس والماديون والبابليون يستخدمون كلمة "مجوس" للدلالة على الكهنة والحكماء. وكان المفروض أنهم رجال حكماء ماهرون في معرفة الأسرار، تلك المعرفة التي نشأت منذ عصور قديمة في مصر الفرعونية، وانتقلت إلى كلديا وبابل.
وكان المجوس يحسبون بين المنجمين، أي الذين يتنبأون عن الأحداث بقراءة النجوم.
( ب ) المجوس عند اليونانيين:
كانت كلمة "مجوس" عند اليونانيين ترتبط بنظام أجنبي للعرافة وبديانة شعب عدو، قد هزموه، وسرعان ما أصبحت نعتاً لأسوأ أنواع الدجل والخداع. كما تطلق على "سيمون الساحر" (أع 8: 9)، فكلمة "ساحر" في الموضعين هي نفس كلمة "ماجوس".
(جـ) المجوس في إنجيل متى:
يستخدم متى كلمة "مجوس" بمعناها الطيب، حتى انها تترجم في الإنجليزية إلى "حكماء" (مت 2: 1 و7 و16). ولكن متى لا يمدنا بتفاصيل كثيرة عن أولئك المجوس، إلا أنهم جاؤوا من "المشرق" (2: 1 و2)، وهي عبارة غامضة لا تحدد بلداً معيناً، وهكذا تترك المجال واسعاً للتخمين. فقال بعض الآباء إنهم جاؤوا من جنوبي الجزيرة العربية، وذلك بناء على الهدايا التي قدموها "الذهب واللبان والمرّ"، وكانت تشتهر بها هذه البلاد، و(لكنها) لا تعتبر "مشرقاً" بالنسبة لفلسطين، لذلك قال آخرون إنهم جاؤوا من كلديا أو ميديا أو فارس. ومع أنه لا يمكن الجزم برأي، إلاَّ أن الأرجح أنهم جاؤوا من فارس، حيث كان هذا الاسم يطلق على كهنتهم.
ولا يذكر متّى كم كان عدد المجوس الذين جاؤوا ليروا الطفل يسوع.
كما لا يذكر أسماءهم.
(د) أهمية قصة المجوس في إنجيل متى:
تلعب زيارة المجوس لبيت لحم دوراً هاماً في إنجيل متى، فمن البداية تعلن حقيقة شخصية الطفل الوليد... كما أن الحوار بين المجوس وهيرودس ورؤساء الكهنة والكتبة، يُعلن أن يسوع كان تحقيقاً لنبوة ميخا عن المسيا.
وبالإضافة إلى إثبات أن يسوع هو المسيا الذي طال انتظاره، فإن قصة المجوس - كجزء من مقدمة إنجيل متى - تقدم مواضيع بارزة عدة تعود للظهور في الأصحاحات التالية. فهي تؤكد أولاً أن يسوع المسيح لم يأت لليهود فقط بل للأمم أيضاً (ممثلين في "المجوس من المشرق"). كما كان سجود هؤلاء الأمم صورة مسبقة للإرسالية العظمى للكرازة بالإنجيل لجميع الأمم (مت 28: 19)، وأيضاً (8: 11 و 12، 12: 21).
والموضوع الثاني الذي تعلنه هذه القصة، هو هذا الإيمان المذهل الذي أبداه أولئك المجوس، والذي كان ينقض الشعب الذي جاء منه الربّ يسوع، فبينما قدم هؤلاء المجوس الغرباء الإكرام والسجود للمسيا المولود فإن هيرودس - ولعله كان بموافقة رؤساء الكهنة أيضاً - دبر مؤامرته لقتل الطفل يسوع (2: 3- 6و 16). وهكذا نجد في فصول أخرى من الإنجيل، الأمم يؤمنون، بينما لم يؤمن غالبية الشعب اليهودي (ارجع إلى 8: 5- 13، 15: 21- 28، 27:  19 و 54)."
 
وفي العدد رقم 350 (كانون الاول 2006) من مجلة "صوت الكرازة بالانجيل" (يوجد موقع الكتروني باسم هذه المجلة)، التي تصدر باللغة العربية في اميركا، مقالة بعنوان "مجوس الميلاد: اول عرب عبدوا المسيح". والمقالة هي بقلم: د. طوني معلوف، وقامت بترجمتها الى العربية: د. لميس جرجور معلوف. وجاء في المقالة ما يلي:
"1. كلمة "المجوس":
"استخدمت الكلمة اليونانية magos في البداية للإشارة إلى أفراد سبط ميديّ تولـّى المهام الكهنوتية في إمبراطورية مادي وفارس. وكان هؤلاء الكهنة ذوي قدرة على تفسير بعض العلامات والأحلام وتضمّنت ممارساتهم السحر والشعوذة. لكن بالإضافة إلى هذه الاستخدامات السلبية، فقد استخدمت الكلمة أيضاً للإشارة إلى "من يمتلك معرفة وحكمة فائقتين". وهكذا عيّن الملك نبوخذنصّر دانيال اليهوديّ رئيساً للمجوس. وبهذا المعنى أيضاً اعتـُبـِر موسى مجوسياً أيضاً في قصر فرعون. ويشير المؤرخ يوسيفوس إلى يهودي اسمه سمعان، دعي مجوسياً، وكان مشيراً لفيلكس والي اليهودية. وإذا أخذنا الكلمة بمعنى "من يملك معرفة فائقة" فإنه كان بين العرب القدماء كثير من المجوس. وبالحقيقة يعرّف لنا كتاب باروخ (من القرن الثالث ق.م.) "أولاد هاجر" العرب بأنهم "الذين يطلبون الحكمة على الأرض" (باروخ 23:3). فضلاً عن ذلك، توجد في الكتاب المقدس شواهد عدة عن حكمة العرب القدماء التي لم تفـُقـْها في القديم سوى حكمة سليمان (1 ملوك 30:4).
"2. رأي الكنيسة الأولى:
"من ناحية ثانية، فإن آباء الكنيسة الأولين اعتبروا العربية منشأً لمجوس الانجيل، وفي ذلك عكسوا على الأغلب تقليد الرسل. فأكليمندس الروماني (96 م) يلمّح إلى ذلك في كتاباته. أما يوستنيانوس الشهيد (حوالي 150م) الذي ولد ونشأ في السامرة بفلسطين فهو يشير تسع مرات إلى المجوس الذين أتوا من العربية ليعبدوا المسيح المولود. وبدوره يبني ترتليانوس القرطاجي (حوالي 200 م.) رأيه على تقليد معروف في كل المشرق القديم وهو أول شخص يحدد هوية هؤلاء الزوار على أنهم ملوك أتوا من العربية.
"3. الدعم الجغرافي:
"قدِم المجوس من المشرق (متى 1:2، 2، 9) الذي عُرِف في الازمنة الكتابية بالكلمة العبرية قِدِم وهو المكان الذي سكنت فيه الأسباط العربية المتعددة المتحدرة من إبراهيم (تكوين 1:25-6، 12-18). وعندما ولد المسيح كانت تلك المنطقة مرتبطة جغرافياً وسياسياً بابن إبراهيم البكر، أي بإسمعيل. ولا يزال البدو العرب في أيامنا يتحدثون عن توجههم إلى صحراء العربية بأنه تشريق (سير نحو الشرق) بغض النظر عن اتجاه سيرهم. وعلى النقيض من ذلك فإن القادمين إلى أرض فلسطين من فارس أو بابل أو أشور كانوا يدخلون فلسطين من الشمال؛ ولذلك كانت بلادهم تُسمّى في الكتاب باستمرار، "أرض الشمال" (إشعياء 31:14). وهكذا فَهِم القراء اليهود تماماً من متى البشير أن المجوس أتوا من الصحراء العربية الواقعة شرق نهر الأردن.
"4. طبيعة الهدايا:
"تمثل الهدايا التي قدّمها المجوس للمسيح من ذهب ولبان ومرّ المصدر الرئيسي للقوة الاقتصادية للعربية قديماً. ومن بين تلك الهدايا، كان اللبان والمرّ ينتجان بشكل شبه حصري في جنوب الجزيرة العربية. وبحسب شهادة المؤرخين اليونان والرومان، فإن هذه المواد التجارية جعلت مملكة سبأ القديمة في جنوب العربية أغنى أمة في العالم القديم. ويخبرنا المؤرخ هيرودتس بأنّ عرب الشمال كانوا يرسلون للإمبراطور الفارسيّ هدية سنوية قدرها ثلاثون طناً من اللبان عربون صداقتهم للفرس. وقبيل مجيء المسيح سيطر العرب الأنباط على تجارة القوافل التي كانت تضمّ الهدايا التي قدمها المجوس للمسيح."
(انتهى الاستشهاد بمقالة د. طوني معلوف).
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب لبناني مستقل
 
   ـ يتبــع ـ
 
 
 
 
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net