Tahawolat
تناقش هذه السلسلة مفاهيم ومصطلحات، وضعتُها واستخدمتُها على فترات متفاوتة، ولا ازعم أنها ثوابت لا لديَّ شخصياً ولا لدى الزمن. ولكنها محاولات لإعطاء معنى لأحداث وموضوعات وحتى لمفردات تتطلب ذلك. ليس هذا نحت لغة أخرى مثلاً كما زعمت النسويات الراديكاليات بخلق لغة ضد ذكورية فاصطدمن بحائط أدى إلى الصلع الفكري، ولا كما يزعم من يتهربون من الفكر الشيوعي بتهمة أنه –اوروبي- فيرفضون أدواته في التحليل ويحاولون خلق أدوات أو لغة أخرى، نحن بانتظار إنتاجهم!
اللغة نتاج البشرية، والعبرة في تحميل المعنى وتحرير الأدوات. هذه محاولة لتحرير المعنى من أجل تحرر الإنسان، هي إعلان انفلات اللغة وتحررها من قيود فُرضت عليها سواء من مفكرين/ات أو مؤسسات، اي خروجاً على التعليب. وعليه، فهذه المعاني مفتوحة سواء على تطورها/ تطويرها من الكاتب او اي قارىء.
 
القومية الحاكمة والقومية الكامنة
 
بينما يُقر مختلف المفكرين والساسة بالمرحلة القومية كمرحلة تعبرها مختلف الأمم في فترات زمنية متفاوتة من حيث فترة دخولها او امتدادها أو  كونها أمماً قديمة (الصين، الهند، العرب، الفرس) أو مُحدَثة (الولايات المتحدة ، كندا)، ليس من السهولة بمكان توفر إجماع لا على تعريف القومية ولا ، بشكل خاص ، على الموقف منها. لكنها تبقى مرحلة في تطور الفكر السياسي.
تكمن أهمية المسألة القومية أنها تخص الأمة بأجمعها، وبالتالي هي مختلفة من حيث علاقتها بالمجتمع المحدد عن الكثير من النظريات التي يمكن أن تبقى في المجرد وبالتالي ليس شرطاً أن يتعاطى المواطن معها أو يمسه كثيراً تعاطي مواطنين آخرين بها.
نقطة نقاشنا هنا في اتجاه آخر، في ممارسة الانتماء القومي على اساسه الطبقي وتحديداً ما يزعمه الكاتب بأن أساس الموقف القومي هو طبقي. ومعروف بالطبع أن مجرد مناقشة المسألة القومية من مدخل طبقي هو أمر جدلي جداً، يُثير نقاشاً ويثير زعماً بالتباس فكري وحتى تُهماً بالخلط.
لقد اشار ماركس إلى هذه المسألة فيما يخص التجربة الأوروبية الغربية أو ما سمي عصر القوميات. حينها اصر على أن القومية سلاح بيد البرجوازية. وكان هذا الاستنتاج طبيعياً لسببين على الأقل:
· الأول: لأن للطبقة البرجوازية مصلحة في السيطرة على السوق القومي من أجل تسويق بضائعها في سوق محمية لها. وهذا بالطبع رغم تبني الأنظمة الراسمالية هناك الشعار اليلبرالي المزيف حرية التجارة. طريف هذا الموقف المستمر حتى اليوم، اي التغني بحرية التجارة إلى جانب التمسك العملي بالحماية! وهذه واحدة من أكاذيب راس المال الكبرى ولكن المحاطة بهالة من خطاب بليغ مزيف.
·والثاني لأن الثورة الصناعية، وفي سياق تطورها التقني دفع بالبرجوازية للبحث عن اسواق خارج السوق المحلي سواء للتصدير أو للبحث عن المواد الخام وتصدير رأس المال، واليوم تصدير راس المال العامل الإنتاجي...الخ، الأمر الذي أدى إلى حروب بينْ-أوروبية في منتهى الوحشية على المستعمرات وبالطبع ضد شعوب المستعمرات ايضاً لتكون مرحلة الاستعمار الراسمالي الغربي الأكثر دموية في التاريخ، وقد يكون لنا الزعم بأن الإنسانية لن تسمح لاحقاً بمثلها. من أجل هذا كان لا بد للبرجوازية أن تستخدم الشعور القومي لدى الطبقات الشعبية وكأنها تدافع عن الأمة، وهو استخدام خبيث لا يسمح ببساطة بأن يرفضه احد حيث يبدو كمن يتولى يوم الزحف! في حين هو مجند للحفاظ على نهب البرجوازية للأمم الأخرى.
من اللافت أن ما سعَّر الحروب الأوروبية/الأوروبية كحروب أوروبية/أوروبية وحروب في المستعمرات على هذه المستعمرات هو أن مستوى التطور الاقتصادي وتحديداً الصناعي في أوروبا الغربية كان متقارباً ولا يزال وهو ما خلق دافعاً للتصارع على الأسواق.
 وهذا يفتح على مسألة هامة لدى الاقتصاديين في مدرستي التبعية والنظام العالمي اللتين تتقاربان في قرائتهما لأسباب لُحاق اليابان بأوروبا ومن ثم الاستنتاج بأن: «لا يابان بعد اليابان»، بمعنى أن أوروبا لن تسمح بتطور مناطق أخرى راسمالياً، أي سوف تحتجز تطورها، وأن اليابان أفلتت في ظرف خاص، ولذا يمكننا تغيير هذا الاستنتاج، على ضوء التطور المتوازي لأوروبا الغربية بأن قرار أوروبا هو : «لا أوروبا بعد أوروبا».
 يلعب الاستعمار والتخلف والتبعية دوراً بارزاً بل حاسما في تطور المسألة القومية في المستعمرات. فإذا كانت أوروبا الغربية قد تطورت اقتصاديا ومن ثم اجتماعيا بدرجة كبيرة من التمحور على الذات والتحكم بالفائض وتحقيق معدلات تشغيل عالية، وتوفير أجور مقبولة حياتياً وليست بالضرورة مقبولة من حيث كونها أجوراً اي نتاج استغلال، فهذه أمور لم تتواكب مع المد القومي في المحيط.
 فالاستقلال القومي للمحيط كان بشكل اساسي استنهاض الثقافة القومية والهوية القومية لمواجهة التحدي الذي يتخذ شكلا قوميا وربما دينيا ثقافيا بينما هو اساساً اقتصادي بأدوات عسكرية وثقافية وهدفه التراكم اي نهب فوائض بلدان المحيط وحتى ثرواتها الطبيعية.
 لذا، ما أن طُرد المستعمِر سياسياً حتى واجهت البلدان المستقلة حديثاً معضلة أن الاستقلال سياسياً فقط. حينها عادت كل طبقة للبحث عن مكانتها الاقتصادية فكان لهذا تاثيره الطبقي الحاسم على المسألة القومية وخاصة في الوطن العربي.
 حتى اليوم على الأقل، لم يُعلن نظام حكم عربي أنه ضد القومية العربية، ولكن معظم هذه الأنظمة مارست مواقف عملية ضد الوجود الجسدي للشعب العربي ودخلت حروباً في ذيل المستعمِر لتدمير قُطريات عربية واسَتخدمت جامعة الدول العربية لتبرير هذه الحروب ولاستدعاء الناتو لتدمير قطريات عربية كما حصل ضد العراق 1991 و 2003، وضد لبنان حينما طلبت ثلاث دول عربية من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني الإشكنازي مواصلة العدوان على لبنان لتدمير وتصفية حزب الله، واستدعاء الناتو لتدمير ليبيا كما حصل، والاستماتة اليوم 2011 و 2012 لتدمير سوريا.
 ملخص القول أن هذه الأنظمة بما هي تمثل البرجوازية الكمبرادورية العربية التابعة هي تمثل القومية الحاكمة التي هي قُطرية جوهرياً ومعادية للأمة العربية والوحدة والتطور والتكامل الاقتصادي العربي ومع ذلك تزعم أنها قومية ومن هنا كان طبيعياً وصفها بالقومية الحاكمة التي هي جوهرياً قُطرية.
وفي الجانب الآخر، فإن انتماء الطبقات الشعبية القومي هو الانتماء الحقيقي، ولكنه كامن بمعنى أنه ممنوع من التعبير عن نفسه ديمقراطياً بمعنى أنه لو كان له حق الاختيار لاختار الوحدة العربية. فما هو المانع الذاتي الذي يمنع عامل بلا عمل في مصر من العمل في الخليج! إن توسيع شبكة تشغيل عربية يخلق طبقة عمالية موحدة ويشكل قاعدة طبقية للمشروع الاشتراكي العربي، وهذه قوة القومية الكامنة ومصدر الرعب للقومية الحاكمة.
تشكل المصلحة المادية الحياتية والمستقبلية للطبقات الشعبية العربية والتي مآلها إلى الاشتراكية والوحدة  عاملاً بل التطوير العصري والطبيعي لمختلف أسس تكوين الأمم، بما هو العامل الأكثر دينامية اليوم وهو المصلحة المادية للطبقات الشعبية في الوحدة أو الاتحاد العربي لأنه يُعيد إليها حقها في الثروة العربية التي تتقاسمها أنظمة القومية الكامنة، وإن كان تقاسماً لا متكافئاً، بمعنى ان ما تحصل عليه أنظمة العجز العربي لا يساوي شيئاً مقارنة بما تحصل عليه دول الريع النفطي ولكن الطرفين ينهبان حقوق الأمة وخاصة حقوق الطبقات الشعبية كل طرف حسب فرصته. وبالطبع فإن ما يحصل عليه حكام النفط من ريع هو الأقل مقارنة بما تحصل عليه الشركات النفطية الغربية.
بقي أن نشير إلى أن أكثر طبعات القومية وضاعة هي ما نسميه الموجة القومية الثالثة، والتي هي تصنيع من أنظمة المركز الراسمالي مستخدمة كمبرادور المذاهب والإثنيات والطوائف.
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net