كتاب " مقالة في العبودية المختارة " (1) لايتيان دي لابويسيه، ترجمة د.مصطفى صفوان، هو صرخة ورسالة لأجل الانعتاق الأنساني. كتبت هذه المقالة في القرن السادس عشر ولكن معانيها لا تزال حاضرة في عصرنا الراهن. وهذا يثبت ان الكتب المهمة تحمل معيار بقائها في العصور بما تحمله من قوة انسانية وبما تملكه من أفكار تبقى على مر السنين. أي العمق وقوة التأثير.
ولد المؤلف ايتيان دي لابويسيه عام 1530 في مدينة سارلا، جنوب ليموج. عاش مرحلة بداية النقاش التنويري في أوروبا وبروز الأفكار الحديثة وسط صراع ديني وقومي في المجتمع الأوروبي أغرق البشر في نهر من الدماء والبوس. ورغم ذلك كان هناك طليعة تنزع الى التفكير العلمي ومناقشة الأفكار التي تشكل جسر الخلاص لأوروبا وانتقالها من الظلمة الى النور.
يناقش الكتاب فكرة أساسية وهي : هل الحرية مطلب مركزي للانسانية ؟ لماذا يقبل البعض العبودية دون محاولة التخلص منها. وفي المقابل يطرح الكتاب أهمية الوعي وتكوينه في مواجهة تلك الاسئلة. يطرحها في عصر امتلاك الارض والاقطاع والكنيسة. كيف تطور التفكير في الحرية؟ هل كانت الحرية مطلباً انسانياً للمثقفين وأصحاب الوعي فقط؟ وكيف أصبحت الديمقراطية مرادفاً للحرية اذ ينتخب الناس بحرية من يمثلهم ويقوم هؤلاء بتحقيق مصالح الناس وكتابة الجمل المفيدة في المجتمع. ولكن الديمقراطية وصناديق الانتخاب أسست لديكتاتوريات أيضاً. فعن طريق صندوق الانتخاب أعتلى هتلر سدة الحكم وجلب الويل على شعبه والعالم. ولو ان السبب غير المباشر كان الوضع الاقتصادي والاجتماعي التي رزحت تحته المانيا قبل وصول هتلر. إذن ان صناديق الاقتراع ليست حلاً قاطعاً هناك عامل آخر هو المجتمع المدني حتى لتغدو الروابط التي تجمع الجماعات الصغيرة في المجتمع الأكبر لتحقيق أهدافها هي التي تجعل المجتمع حراً. ولكن يبقى الوعي هو الاساس في كل ذلك. يشير الكاتب الى فكرة الوعي بقصة لها معنى ومأخوذة من تاريخ الأغريق أن شخصاً أخذ جروين من أم واحدة أحدهما تمت تنشئته في المطبخ والثاني في الحقول. وبعد فترة جيء بالكلبين ووضع أرنب وإناء فيه حساء أمامهما، أقترب كلب المطبخ من الحساء أما كلب الحقول فراح يطارد الأرنب. وهذا يعني ان البيئة تتحكم بالتصرف والسلوك.
يرى ايتيان دي لابويسيه ان البشرية اصطدمت بما سماه حدود الحرية من جهة وآليات الحرية من جهة ثانية. وهذا ينتج عنه فكرتا الحرية السلبية والحرية الإيجابية.
والحرية السلبية هي النطاق الذي يمكن للشخص ان يتصرف فيه دون إعاقة من الغير. اما الإيجابية فهي ان يكون المرء سيد نفسه. ولكن للحرية شروطاً اذا ما توفرت نقصت عن معناها. وهذه الشروط هي :
1. المعرفة الواعية
2. القدرة على الاختيار
3. القدرة على تنفيذ هذا الاختيار . وهنا يظهر الفرق بين القدرة والعدم.
أما آليات الحرية فلعلها أكثر تعقيداً. واذا سلمنا ان الديمقراطية تكفل للناس حق اختيار ممثليهم. فثمة من يقول من المفكرين (كارل ماركس) ان الناس لا يدركون مصالحهم الحقيقية وبالتالي وجب قيام طبقة واعية ناضجة تقود المجتمع. ولكن السؤال يبقى هل بإمكان جميع الأفراد في المجتمع تحقيق مصالحهم؟ ودون ذلك اهوال. وهناك ما يسمى عمليات تضليل الرأي العام مثلاً، او مصادرة الأغلبية حقوق الاقلية. او نقصان ومحدودية وعي الناخب لمصالحه. أو تحكم الهوى لا العقل بمنطق الأشياء، ولكن تطور الديمقراطية قدم مفهوم المساواة في إطار حقوق الفرد الطبيعية والانسانية فيما يشبه الشرط المسبق. وهي عبارة من خمس أنواع من المساواة:
1. المساواة الاخلاقية.
2. المساواة أمام القانون ( والسؤال هنا أيضاً هل جوهر القانون هو العقل والارادة)
3. المساواة السياسية.
4. المساواة في الفرص المتوفرة للمواطنين.
5. التفرقة الإيجابية للمحرومين والاقليات والمعاقين والمرأة.
تتطرق "مقالة في العبودية المختارة" الى الوعي وكيف يمكن تطويره. الوعي الذي يرد الضيم الديني والقومي والخرافي والعقلاني. وخصوصاً وان وسائل تطوير الوعي المستحدثة تعمد غالباً الى تزييف الوعي ( المدارس- الجامعات – وسائل الاتصال الحديثة – والتضليل السياسي).
واجهت شعوب كثيرة قضية النقص في الوعي ولكن الحل لا يكون الا بالتعليم والتعليم والتثقيف السياسي وهما ما تفتقده أغلبية المجتمعات النامية. يبقى على الصعيد القانوني المبدأ الذي أبتدعه مونتسيكو في فصل السلطات لا بل ضرورات استحداث سلطات للحد من تعسف السلطة. يعجب دي لابويسيه كيف ان الحيوان لا يتنازل عن حريته الا بعد دفاع ضروس. " هل يقول الفيل شيئاً آخر حين يقاتل دفاعاً عن نفسه حتى يستنفد قواه، ويرى ضياع الأمل وشوك الأسر، فاذا هو يغرس فكيه محطماً على الشجر سنيه؟ هل يقول شيئاً آخر سوى ان رغبته الشديدة في البقاء حراً، تلهمه الذكاء، فتحثه على مساومة قناصيه لعلهم يتركون له الحرية ثمناً لعاجه، ولعله يفتدي به حريته".
ويخلص الكاتب الى ان طبيعة الانسان في ان يكون حراً، وان يريد كونه كذلك، ولكن من طبيعته ايضاً ان يتطبع بما نشأ عليه وهو يتنازل عن الحرية بسبب الحاجة او غياب الوعي.
رسالة ايتيان دي لابويسيه تحمل في طياتها شهادة أطلقت قبل خمسة قرون ولا تزال ترن وتصدي في العالم، هي صرخة لنتعلم مرة " ان نسلك سلوكاً حسناً، لنرفع أعيننا الى السماء بدعوة من كرامتنا او من محبة الفضيلة ذاتها". دعوة الى الحرية موجهة الى الانسان في كل زمان وفي كل مكان. ولا بد أخيراً من الاشادة بترجمة الدكتور مصطفى صفوان، عالم النفس الفرنسي من أصل مصري، وهي ترجمة قديرة وعميقة وغنية بالهوامش.
(1) مقالة في العبودة المختارة، لايتيان دي لابويسيه
ترجمة د.مصطفى صفوان، تقديم د.محمد الرميحي
كتاب الدوحة ، في 92 صفحة ، 2014