أستاذة النحو العربيّ والألسنيّة العربيّة والنقد الحديث
الجامعة اللبنانيّة- المعهد العالي للكتوراه
أولاً: كلمات ومفاتيح
كثرت الدراسات والملتقيات الثقافيّة والفكريّة التي تناولت مصطلح التحديّ وما أسند إليه بالنعت أو بالعطف أو بالإضافة من مصطلحات أخرى، منها الثقافة والحداثة والتراث ، وجاءت هذه الدراسات والملتقيات تحت عناوين متنوعّة، مثل:" اللغة العربيّة وتحديات العولمة- العولمة والتعدّد الثقافيّ- العولمة والثقافة- العولمة والتحديّات الثقافيّة- العولمة والتحدي الثقافيّ- العولمة والتراث-هويتنا بين التراث والعولمة- العولمة الثقافيّة في مواجهة التراث- تحديات الهويّة التراثيّة في العولمة- عولمة الحداثة وحداثة العولمة"، وغيرها وغيرها من العناوين التي لايمكن حصرها إلاّ بعمليّة إحصاء علميّة دقيقة.
تهدف الإشارة إلى هذا الفيض من الدراسات والأبحاث والندوات إلى أنّ للعولمة سلطة مباشرة وغير مباشرة على الفضاءاتِ الثقافيّة والفكريّة والعلميّة، وصار الكلام عليها هاجسًا يتسلّل إلى معظم الندوات والملتقيات والمؤتمرات التي تبحث في قضايا الفكر المعاصر وعلاقاته بالتراث والحداثة والثقافة لأنّ بعض الباحثين والدارسين قرأوا من خلال أهدافها الظاهرة والمستبطنة الأخطار التي تتجاوز عولمة الاقتصاد والسياسة إلى عولمة الفكر والثقافة وذلك من خلال فرض لغة عالميّة واحدة ونسق معرفيّ واحد يشي بإلغاء أيّ نسق معرفيّ قوميّ ومن ثمّ تكون السيادة لوجبات معرفيّة مسبقة الصنع تحدّدها سلطة موجهة غايتها تعميم التبعيّة الفكريّة وإلغاء التعدّد والتنوّع.
إنّ الكلام على تحديّات العولمة وعلى علاقتها بالتراث والحداثة تحتاج إلى إدراك مفهوم كلّ مصطلح من هذه المصطلحات التي تشغل حيزًا كبيرًا من خطابات المهتمين بالشأن الثقافي، لأنّ الجهل بدلالات المصطلح يفضي إلى نتائج غير دقيقة، وفق ما ذهب إليه فولتير في قوله: إذا أردت أن تتحدث معي فحدّد مصطلحاتك". ولكن ما هو التعريف الجامع والمتفق عليه للعولمة؟
مما لاشكّ فيه أنّ تعريف أيّ مصطلح يرتبط بمعناه اللغويّ والاصطلاحيّ وبمفهومه ودلالاته. ومصطلح العولمة المترجم عن المصطلح الإنكليزيّ Globalization،تعدّدت ترجماته بتعدّد المفاهيم، فذهب بعضهم إلى ترجمته بالكونيّ، أو بالكوكبة أو بالشوملة، ولكن كانت لفظة العولمة أكثر شيوعًا وتداولاً ، فكثرت التعريفات لكلمة العولمة وتباينت مفاهيمها بتباين الخلفيات الإيديولوجيّة والثقافيّة والفكريّة والحضاريّة، فوضع علماء الاقتصاد تعريفات، وكذلك فعل علماء السياسة والفلسفة والاجتماع واللغويون[1] ، ولم يكن من تعريف جامع ومتفق عليه، فربط بعضهم مصطلح العولمة بالدولة الراعيّة والداعمة مصالحها، فرأوا فيها أمركة. وذهب آخرون إلى الاعتقاد أنّ العولمة نظام اقتصاديّ وسياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ يسعى إلى ابتلاع الأشياء والبشر في سبيل تمثّلهم وهضمهم وإخراجهم سلعًا جديدة.
يشير المعنى اللغويّ العربيّ وغير العربيّ، وفق قناعتي، إلى أنّ مفهوم العولمة يفيد التعميم وإكساب الشيء بعدًا عالميًّا، لأنّ هذا المصطلح يضمر فعلًا إلغائيًّا يهدف إلى نقل المحدود المراقب إلى اللامحدود، وإلى إلغاء الحدود الجغرافيّة، وإلى خلق عالم افتراضيّ يغري بالإنتساب إلى العالميّة والكونيّة، فيكون الاقتصاد معولمًا، وكذلك السياسة والأخلاق والفكر والثقافة والعلوم والإرث الحضاريّ.
تسعى العولمة إلى السطو على تراث الأمم المنتسبة إلى إرث حضاريّ عظيم، لتعيد صياغته وفق أهدافها الماديّة، ومن ثم تعيد تصديره ،بعد إخفاء خصوصيته، بما يتوافق وطموحات الدول الاستعماريّة الجديدة المتغولة اقتصاديّا، والمتمددة استعمارًا فكريًّا وثقافيًّا، وهذا القنص والسطو والتمدّد جسّده استعمار أوربيّ، ليس ببعيد، قامت نهضته على ترجمة التراث العربيّ العلميّ والفكريّ الذي حظي باهتمام طلاّب أوربيّين قصدوا الجامعات الأندلسيّة ومنها جامعتا قرطبة وطليطلة، فأفاد الأوربيّون من الترجمات التي كانت عاملاً رئيسًا من عوامل النهضة الثقافيّة والعلميّة الغربيّة.
تؤكّد الدراسات والأبحاث أنّ التراث عامل رئيس من عوامل تشكيل هويّة الأمم الثقافيّة، وبخاصة الهويّة الثقافيّة، لأنّ للتراث دورًا أساسًا في تدعيم الروابط القوميّة، فالتراث هو الفضاء النابض بالحياة والحركة والديمومة والنماء، وهو الإرث الفكري المتراكم بفعل جهود الأجيال المتعاقبة التي أنتج حراكها الفكريّ مخزون الأمّة التراثيّ والحضاريّ الراشح بخبرات إنسانيّة أنضجت التصورات وابتكرات المفاهيم والمعتقدات والقيم والعادات والتقاليد وصاغت الرؤى في فنون أدبيّة ونظريات علميّة تحرّض على التفكير والخلق والإبداع في شتى المجالات الفكريّة.
يتمايز تراث الأمم الحيّة بموروث قيميّ قابل للحركة والتفاعل الكيميائّي وللتوليد والإحياء، شريطة أن يكون أبناء هذه الأمم واثقين بأنفسهم وقادرين على الإفادة من اللحظات الأكثر إضاءة من التراث والعمل على تحديث يضمن التواصل مع الأصل بقدر مايضمن تجاوزه، وبهذه العمليّة تكتسب الثقافة الجديدة صفة الأدب الحداثيّ، لأنّ الحداثة لا تأتي من فراغ بل من أصل ثابت يؤسَّس عليه، فلا حداثة من دون أصالة.
استنادًا إلى مفهوم الحداثة التأصيليّ/ الإبداعيّ يمكن القول إنّ الكلام على مخاطر الحداثة،وبخاصة الحداثة الأدبيّة والفكريّة والثقافيّة، ليس دقيقًا، لأنّ الفعل الحداثيّ يضمر طاقة خلق وإبداع وتجديد، وهذه المصطلحات يرتبط تحقّق مفهومها بوجود أصل سابق تتجاوزه بقدر ما تكون علاقتها بهذا الأصل علاقة تفاعل وخلق وتوليد، فلا حداثة من دون أصل يضمن حضانة الرحم، وأصالة التشكيل الجينيّ، ليكون المولود قادرًا على الاستمرار في آتٍ يحرّض على التجاوز والتخطي، لذلك لايجوز ربط الحداثة بالعولمة، وإنّما يجوز ربط مفاهيم مابعد الحداثة بالعولمة، لأنّ جوهر ما بعد الحداثة يرتكز على فكرة التقويض والهدم والفوضى والتفكيك من دون أن تقدّم نظرية ما بعد الحداثة البديل الواقعيّ والثقافيّ والعلميّ، ولذلك تبدو أهدافها متوافقة مع الأنساق الشموليّة والقمعيّة التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة والظلم الاجتماعي وهذه الخصائص تتوافق ونظرية الفوضى الخلاّقة والبرامج التعليميّة في المراحل كلّها وتجسدها حالة التشظي اللغويّ والتفكك واللانظام.
تقود المعطيات السابق ذكرها إلى طرح أسئلة لا حصر لها، وربّما كان من أهمها ما يبحث عن طبيعة العلاقة بين العولمة والحداثة والأصوليّة الحديثة، فالعولمة إلغائيّة، والفكر الأصوليّ الجديد إلغائيّ، ونظرية ما بعد الحداثة لها طابع فوضويّ / عدميّ/ عبثي/ تفكيكيّ ، ومن أهم أهدافها إلغاء المركزيّة، فهي أداة من أدوات الإلغاء المعولم. فهل جاءت فلسفة ما بعد الحداثة وما رافقه من نظريات تفكيكيّة لتقوّض الثوابت التي يمكن التأسيس عليه؟ وهل جاء تدمير الآثار في المنطقة العربيّة استجابة لروح هذه النظريّة؟ وهل ما تتبناه المؤسسات التربويّة من برامج تُشعر المتلقي بامتلاء فكريّ كاذب يخدم أهداف ما بعد الحداثة؟ وهل ما تكتظ به الصحف ودور النشر والمواقع الالكترونيّة من أبحاث ودراسات مفرغة من المنهج والمنهجيّة يتطابق مع الطابع الفوضويّ العبثيّ؟ وهل خلق قطيعة مبرمجة مع التراث والحضارة العربيّة يقوّض المجتمعات من الداخل؟
إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج إلى محاضرات وأبحاث ودراسات وكتب، ولكن يجوز وضع فرضيّة تختزل الإجابات وتقول إنّ تطبيق طروحات مابعد الحداثة وطروحات الفكر الأصوليّ ما هي إلاّ مناهج مساعدة تُضمر خدمة لأهداف العولمة الثقافيّة والحضاريّة والتراثيّة، لكونها أدوات يوظّفها استعمار جديد بأسماء مختلفة، فالاستعمار في هذه الزمن العربيّ المأزوم غير مضطر إلى تكبد الخسائر الماديّة والبشريّة والمعنويّة، فهو يقاتل العرب بالعرب ويحرّض على أن يقتل الأخ أخاه، ويشجّع على نبذ القيم وعلى تدمير التراث الماديّ والمعنويّ، فينتج من كلّ ذلك تقويض العقد الاجتماعيّ ونشر الفوضى الهدّامة وزرع الخلافات التي تضاعف التوترات النفسيّة وتوقظ الانتماءات العرقيّة والطائفية، وتضرم نار الحرب الداخلية والخارجيّة ومن ثمّ تتأجج نار الحقد المؤديّة إلى تقسيمات أشدّ خطرًا من الاستعمار المباشر.فكيف تداخلت المفاهيم؟ وهل يستطيع المجتمع العربيّ التحرر من الآثار السلبيّة للعولمة؟ وهل له في تراثه ما يبشّر بتحدي الوافد الغريب وإنتاج ثقافة جديدة منطلقها تراث فاعل قادر على التفعيل والتحدي؟
ثانيًا: سلطة العولمة والفضاء الثقافيّ العربيّ
تُظهر الدراسات أنّ فضاءات الثقافة العالميّة محكومة بأدوات معولمة، وأنّ العولمة فرضت نفسها على الساحات العربيّة قدرًا لافرار منه، لكونها سلطة تمتلك القررات التي تحدّد مسارات الاقتصاد والسياسات العسكريّة والثقافيّة والتربوية والاجتماعيّة والعلميّة وغيرها من المسارات التي حققت العولمة من خلالها معظم أهدافها الموسومة بالإيجابيّة من حيث ظاهر العرض والتقديم والشكل، وبالسلبيّة من حيث باطن الغايات والنتائج.
تؤكد عملية رصد سريعة للحراك الثقافي العالميّ أنّ دولاً كثيرة وضعت خططًا غايتها الحدُّ من زحف العولمة على التراث القوميّ والحضاريّ والفكريّ والثقافيّ ، فكان العمل على تعزيز فاعلية التراث وعلى حماية دور اللغة القوميّة بوصفها المحرّض على التفكير السليم الضامن خصائص الإبداع الحقيقيّ، وعلى حفظ مقومات الهوية القوميّة وخصائصها الذاتية والمعنويّة، ولكن هل استطاعت المؤسسات العربيّة وضع خطط تضمن بها أخطار زحف العولمة؟
مما لا شكّ فيه أنّ للعولمة إيجابيات، وأنّ شعوب العالم تفيد منها وتتواصل بفضل نعمها، ولكنّ هذه الإيجابيات لم تلغِ الأهداف السلبيّة التي تشكّل المقصد والغاية والهدف. فكان من نتائجها استهداف الثقافة العربيّة ومحاصرتها بأنساق جاهزة مستوردة باسم العالمية والحضارة الكونيّة، فأساءت هذه الأنساق المسبقة الصنع إلى الثقافة العربيّة المنتجة بلغة عربيّة قوميّة صارت غريبة عن أبنائها. وبغربة الإنسان العربيّ عن لغته القوميّة تزداد الهوة بين الفرد وانتمائه القوميّ وربّما يتشوّه البعد الحضاريّ للهوية العربيّة.
إنّ الثقافة العربيّة، في هذه اللحظة من الحضور العربيّ المأزوم، لا تؤدي دورها الرياديّ، لأنّ معظم المثقفين العرب يعيشون حالة قطيعة مع التراث، وهذه القطيعة يؤكدها إعلام عربيّ يخدم، عن قصد أو غير قصد، أهداف العولمة، سواء أكان ذلك في الإعلام المرئيّ/ المسموع أم في الإعلام المكتوب/ المقروء، لأنّ معظم ما يصل إلى المتلقي العربيّ يسيء إلى اللغة الأمّ، وإلى البنية الفكريّة المنطقيّة وإلى تراث الأمة وإلى حضارة ما زالت فاعلة في مختبرات علمية غير عربيّة، هذه الحضارة التي يمكن تصنيفها بالعالميّة/ الكونيّة، ويمكن إسنادها إلى فعل معولم إيجابيّ بعيد من سلبيات العولمة المعاصرة.
يضمر الفعل الحضاريّ التاريخيّ فرضيات توحيّ بأنّ العولمة، في مفهومها الحضاريّ/ الكونيّ، كان لها حضور فاعل على مستوى الفكر الإنسانيّ؛ ففتوحات الإسكندر كانت نوعًا من العولمة، والفتوحات الإسلاميّة كانت، أيضًا، مظهرًا من مظاهر العولمة، غير أنّ فتوحات الاسكندر التي كانت سببًا في تلاقح الثقافات، وفي إنتاج حضارة إنسانية، لها شخصية عامّة، حافظت على خصائص الأمم القوية. وكذلك الفتوحات الإسلامية كان لها فضلٌ في تلاقح الثقافات، وتدعيم القيم الإنسانيّة ، وتطعيمها بتعاليم الشريعة السمحاء، وإكسابها بعدًا إنسانيًّا، وروحيًّا أكثر ملاءمة مع الواقع الجديد، ثمّ قدّم المنتج للعالم إبداعات فكرية مازالت فاعلة في مختبرات التواجد الإنسانيّ، غير أنّ العولمة المعاصرة لاعلاقة لها بالعولمة القديمة إلاّ من حيث الشكل والتمدّد والانتشار، لكونها مفرغّة من القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة وتضمر تذويب ذوات الأمم الخاصة في ذات كليّة عامة تخدم أهداف السياسات الاقتصاديّة والاستعماريّة الجديدة.
يرى الباحثون أنّ العولمة، وفق ما يروّج لها إعلاميًّا، شكلٌ من أشكال التدويل الهادف إلى الاحتواء الشموليّ وإخضاع الدول إلى نظام عالميّ واحد، فيتحقّق الانتشار والتمدّد والانفتاح والدعوة إلى تبادل معرفي على الصعيد العالميّ، وهذا الانتشار والاحتواء يعكسه واقعٌ عربيّ يجسّد الشكل الأكثر تعبيرًا عن أشكال الهيمنة والسيطرة على مظاهر الحياة المعاصرة، فالمجتمعات العربيّة تخضع، بشكل غير مباشر، لاستعمار اجتماعيّ وفكريّ وثقافيّ، وللاستبداد الروحيّ، وهذا الاستبداد ظاهرٌ في سلطة العولمة على الحياة اليوميّة من خلال تكنولوجيا تغتال الوقت والتفكير، وتلغي الخصوصيّة، وتحرّض على تواصل سطحيّ قلّما تكون له نتائج إيجابيّة.
إنّ حظ العرب من التكنولوجيا الحديثة متوقف على الشكل والظاهر، ولا دور لهم في تفعيل أيّ تواصل معرفيّ، فالمجتمع العربيّ مجتمع يستهلك أدوات التكنولوجيا، ولا يسعى إلى التشجيع على الإبداع والابتكار، وربّما مارست سلطاته القمع وفرضت على الأفراد نسقًا فكريًّا مسبق الصنع. وهذا ما تؤكّده توصيفات المناهج في المدارس والمعاهد والجامعات التي وصفت بالحديثة. فما الذي أضافته هذه المناهج لتتلاقى مع روح المناهج غير العربيّة، وذلك إذا استثنينا الأسماء والمصطلحات الخالية من المفاهيم الأساس، لأنّ التحديث كان تغييرًا في الشكل مع الإساءة إلى الجوهر المعرفيّ. فهل يعرف خريجو المعاهد والجامعات تاريخ العرب الحضاري والعلمي؟ وهل للشباب المعاصر علاقة بالتراث؟
لاتقتصر عمليّة الجهل بالحضارة والتراث والمهارات الفكريّة على خريجيّن لايتمتعون بمهارات فكريّة ونقديّة وتحليليّة، لأنّ علة النقص هذه أصابت معظم شرائح البنيات الثقافيّة، فالثقافة السياسيّة واللغويّة والأدبيّة سماعيّة مكرورة يعيدها باحث يعينه في أكثر من ندوة وملتقى ومؤتمر. ولذلك قلّما يقدّم باحث عربيّ طرحًا جديدًا بلغة عربيّة لأنّ الشعور أمام فيض المعلومات التي تعرضها الشبكة العنكبوتيّة تشعره بعجزه من جهة، وتسهّل عمليات السطو، من جهة ثانية. فـأيّ معرفة عربيّة تنتجها هذه المجتمعات في ظل فضاء ثقافيّ معولم؟
لبس من المنطقيّ إنكار قيمة فيه أنّ المعلومات التي تعرضها الشبكة العنكبوتيّة والتي تسهّل عملية التواصل المعرفيّ، ولكنّ المشكلة تكمن في أنّ بعض المواقع تضع معلومات مغلوطة، وتشوّه الحقائق التاريخيّة، وتسيء إلى تراث الأمم ذات الإرث الحضاريّ، وتفرض مصطلحات مشوهّة، وصورًا اجتماعيّة تتناقض والقيم العربيّة، فتكرس فكرًا نمطيًّا نفعيًّا يغلّف الشعور بتعظيم هذا الوافد وبالرغبة في تقليده واتخاذه النموذج الأسمى في الحياة؛ لأنّ هذه الشبكة ألغت العلاقة بين المثقف والكتاب، وجعلت المعلومة قريبة المتناول، ففرضت نفسها المرجعيّة الأساس للدارسين والباحثين الذين يستعينون بقضايا وبآراء وتعريفات وقوانين، بعضها غير صحيح، فيأتي المنتج الفكريّ العربيّ الجديد مشوّهًا ومؤذيًا، لأنّ ما دُوّن لم يكن خاضعًا للتمحيص والتدقيق.
تغري المواقع الاكترونيّة، أيضًا، بإضاعة الوقت وبالتبعية المطلقة من دون أن يدرك المتلقي مساوئ انقياده إلى مظاهر العولمة الهادفة إلى تشويه الفكر وإلى الإلغاء. لأنّ الظاهر يغري بالفاعليّة الثقافيّة، وبالتواصل وبالتعاون، ولكنّ المُضمَر من الأهداف ينبّه إلى أنّ غاية العولمة تكمن في رغبتها إلغاء التفاعل الفكري والثقافي والإنساني، والقضاء على الذوات القومية التي من دونها تتلاشى قيمة الاختلاف والمغايرة، ويحدث الانهيار الفكريّ، وتلغى فاعلية التلاقي الحضاريّ.
تهدف مخططات العولمة، إذًا، إلى السيطرة والهيمنة وسيادة نموذج واحد صاغته الدول الأقوى اقتصاديًّا وعسكريًّا وتكنولوجيًّا بما يتوافق وطموحاتها الاستعماريّة الجديدة، ويحقّق طموحاتها الثقافيّة الهادفة إلى سيادة ثقافة واحدة، وإلى تبعية في أساليب التفكير وأنماط السلوك والتعامل، وفي المفاهيم الاجتماعيّة والسياسيّة وأشكال التذوق الفنيّ وكذلك في أساليب التعليم والتربيّة والنظرة إلى الحياة والكون. فلا حقيقة إلاّ مايراه الآخر القويّ حقيقة، ولا قيمة لمنتج فكريّ لايوحي بمحاباة وتبعية تتناقضان والأعراف والقيم الموروثة المتعارف عليها في المجتمعات المنتسبة إلى إرث معرفيّ وثقافيّ وعلميّ وحضاريّ، وهذه الأهداف والغايات يعكسها واقع عربيّ يعيش حالة من التشظي والضياع والتبعيّة. فلا قيمة لبحث عربيّ إذا لم يكن مزيّنًا بمفردات غير عربيّة وبأسماء غير عربيّة وبأفكار أو تعريفات كتبها غير العرب. ولا قيمة لأديب أو مفكّر إذا حرمته أهداف العولمة من نيل جائزة أو تكريم أو انتشار. لأنّ الجوائز لا تخضع لمعايير علميّة وإنّما لاعتبارات فرضها التفكير العربيّ التبعيّ الجديد الذي ألغى من قاموسه مفهوم الإبداع المتحرّر من المناطقيّة والمذهبيّة والطائفيّة والدينيّة والعرقيّة والأقليميّة، وصار المعيار الأساس المصالح الآنيّة المشتركة. فهل من قيامة لواقع عربيّ يحتضر؟
ثالثًا: حتمية الأهداف بين فاعلية التراث والفعل الحداثيّ
تأسيسًا على ما سبق يمكن القول إنّ للعولمة أهدافًا اقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة، وأنّ ناتج الأهداف الثقافيّة أكثر ضررًا على حياة الأمم، وهذا ما ظهر في سعي العولمة إلى نشر مصطلحات جديدة ومفاهيم تنقض الأصول المرتبطة بحياة الأمم وبشخصيتها المعنويّة وهويتها، وإلى ابتكار أساليب جديدة تؤدي إلى إلغاء الخصوصيّة القوميّة وإلى خلق قطيعة بين الشعوب وتراثها.
إنّ تشويه روح التراث ينتج واقعًا جديدًا لا علاقة له بالأصل، وهذا ما تؤكده قراءة دقيقة لمعنى المصطلح في أصل الوضع اللغويّ، لأنّ مصطلح التراث، وفق ما يرى اللغويون، يدلّ على الموروث الماديّ والاجتماعيّ والثقافيّ، المكتوب والشفوي، الرسمي والشعبي، اللغويّ وغير اللغويّ الذي وصل من الماضي البعيد والقريب، وهذا التراث يفيض بالقيم الاجتماعيّة والإنسانيّة والحضاريّة التي تخبر عن كينونة الأمم، وتكشف حضورها القيمي، لكون تراث الأمم هو مجمل ما بقي حيًّا من تاريخها المادي والمعنويّ، والحياة لا تكون إلاّ للعناصر القويّة القابلة للديمومة والاستمرار والتفاعل.
تركّز أهداف العولمة على تشويه العلاقة بالتراث، لأنّ التراث هو ذاكرة الأمّة التاريخيّة والثقافيّة والعلميّة والفنيّة، وهذه الذاكرة تصنعها الأجيال وفق ما تؤمن به من قيم وعادات وتقاليد وتصوّرات ورؤى يؤرخ بها لنبض شعوب حيّة تجعل من تراثها هويّة ثقافيّة تتمايز بثقل نوعيّ، وهذا الثقل النوعي يمنح الأمم وجودها وثباتها ويحميها من التحوّل إلى ورقة تقذف بها المؤثرات الخارجيّة إلى حيث شاءت.
يؤدي إلغاء فاعلية التراث إلى حالة من العجز عن المشاركة في صنع حضارة العالم الجديد، لأنّ الغاية الأساس هي تحويل الأفراد إلى مستهلِكين ومستهلَكين على مستوى الفاعلية الحضاريّة ليكونوا عاجزين عن التفاعل والتخصيب وعن ابتكار أساليب تعبير جديدة يدوّنون بها تراثًا جديدًا منطلقًا من تراث منحهم هويّة ذاتيّة .
يربط روّاد الحداثة الفعل الحداثيّ بالدعوة إلى الثورة والتمرد، لكونها، في رأيهم، تشكّل حدثًا جديدًا وحتميًّا تفرضه صيرورة الحياة. ولذلك نعتقد أنّ الحداثةالأدبيّة نوع من التمرّد على نسق ثقافيّ ما، وهذا التمرّد يهدف إلى البناء والتأسيس بقدر ما يهدف إلى الهدم والتغيير، والبناء والتأسيس يحتاجان ألى أصل ثابت وقويّ يكون منطلقًا لأيّ حراك فاعل غايته خلق مسارات جديدة ومغايرة وقادرة، في الوقت عينه، على الثبات والتوليد، ولذلك يرتبط نجاح التجربة بوجود حراك هادف قوامه فعل تجديد أدبيّ له منطلقاته الأساس، وطاقة انزياح عن المألوف.
يظهر التراث العربيّ أنّ قضية الانزياح ليست بجديدة على الثقافة العربيّة، فلقد تكلّم عليها الأصفهانيّ وابن قتيبة وطه حسين وغيرهم؛ لأنّ الشعراء العرب خرجوا على النظام العام المتعارف عليه، وكتبوا شعرًا مغايرًا من حيث الشكل والصورة والدلالة. ومما يذكره الأصفهاني في مؤلفه «الأغانيّ» أنّ أبا العتاهيّة كتب شعرًا خالف الأوزان المتعارف عليها، وعلّل خروجه على المألوف بقوله: «أنا أكبر من العروض»، وكذلك أورد ابن رشيق في كتاب «العمدة»أنّ بعض الشعراء تحرروا من قيود القافيّة، وكشفت الدراسات، أيضًا، عن وجود شعر عربيّ تخطّى السنن التي كانت معهودة
يأخذ مفهوم التراث مكانه المميز في نسق المفاهيم التي ترتبط بحياة الناس وتاريخهم ومؤثرات وجودهم، ويشكل هذا المفهوم عاملاً رئيسًا في الحفاظ على الهوية الثقافية عند الشعوب والجماعات والأمم، ولذلك يسعى الباحثون والمفكرون العرب إلى تكريس التراث والموروث الشعبي قضيّة قوميّة تتقاطع مع القضايا القوميّة، فشهدت الساحات الثقافيّة والأدبيّة والفكريّة فيضًا من الدراسات التي أظهر بعضُها القبول والتبعيّ، وأظهر بعضها الآخر الرفض والدعوة إلى محاربة مظاهر العولمة. ولكن هل يحارب قدرٌ ينتظر حكمه معظم شعوب العالم؟
رابعًا: العولمة والرؤى المستقبليّة
يعتقد بعض المفكرين أنّ نظرية ما بعد الحداثة ستقوّض نفسها بنفسها نظرًا لطابعها الفوضويّ والعدميّ والعبثي، وربّما بتقويضها ذاتها تفقد العولمة ذراعًا ومعينًا على التخريب ونشر الفوضى، وربّما تتراجع آثارها السلبيّة، فتتضاعف فرص التحديّ والمواجهة والنهوض والتحرّر من سلطة موجهِّة، وربّما يكون للثقافة العربيّة حظٌّ من النهوض والتأسيس.
إنّ الكلام على محاربة العولمة يفتقر إلى المنطق السليم، فالعولمة الحديثة قدر الشعوب والعالم، والتحدي لايكون بالرفض بل بالعمل على تحويل المجتمعات العربيّة من الواقع الاستهلاكيّ والتبعيّ إلى واقع منتج متمتع بشخصيّة ذاتيّة يُعرف بها وتعرف به، وهذا الواقع مشروط بخلق يقظة جديدة قوامها الوعي بالذات والوجود والانتماء إلى فضاء قوميّ له هويته التراثيّة والحضاريّة والثقافيّة واللغويّة والتي بها وحدها يكون التعبير عن نبض الأمة الحضاريّ والفكريّ والإبداعيّ ، وبهذا الوعيّ عينه تستعيد الهوية حضورها الفاعل على مستوى العالميّة، فيتحرر الإنسان العربيّ من أمراض التبعية والاستزلام والانبهار بالآخر، ويسعى ليكون مشاركًا في صنع حضارة كونيّة تحفظ له وجوده ودوره وهويته.
يرتبط تفعيل الثقافة العربيّة بالدعوة إلى تحفيز الوسط المخبريّ للتجربة الإبداعية هذه التجربة الممهورة بالمنهجية العقلية وبالتخطيط العلميّ وبالحركة والصيرورة، وبتفعيل دور التراث من أجل خلق نهضة ثقافية أدواتها لغة عربيّة تحرّض على تعزيز هوية الانتماء إلى فضاء قوميّ له وجوده الذاتي المستقل ، من جهة، ويتكامل مع فضاءات إنسانيّة، من جهة ثانية، من دون أن يخسر شخصيته المعنوية.
تظهر الدراسات أنّ لكلّ أمّة تراثًا يخنزل تجاربها وحراكها وتصوّراتها وأحلامها ورؤاها ومنتجاتها وفنونها، وهذا ما يشير إليه مصطلح التراث، في أصل الوضع والتداول، فالكلمة تدلّ على الميراث الماديّ والمعنويّ، والميراث الماديّ قابل للزوال، أمّا المعنويّ فهو الروح النابضة في وجدان الأمة، وهو الكمون المحرّض على الخلق والتجديد لكونه يحضن مكوّنات ثقافيّة ومعرفيّة وتاريخيّة يتوارثها أبناء المجتمع ويبقون قيمها ومقوماتها فاعلة في حاضر يستولد من هذا التراث تراثًا جديدًا قابلاً للتوليد، فالتراث، إذًا طاقة توليد تحرّض الأجيال المؤمنة بانتمائها على ابتكار أنساق فكريّة أكثر جدة وتعييرًا عن حركيّة الحياة، وهذه الطاقة أفاد منها الفكر الأوربيّ الذي يجعل من تراثه ركيزة ينطلق منها نحو التطوّر والتحدبث. ولذلك تسعى الأمم الحديثة، باسم العولمة والحداثة إلى ربط حضورها التاريخيّ بتراث قوامه معارف وثقافات ومبادئ وأصول وعادات وتقاليد ولّدتها استجابة الأفراد إلى مفاهيم استقرت في وجدان الجماعة، وحرّضت على توثيق الروابط والعلاقات بين الأفراد والوحدات الاجتماعية، فجاء التراث تعبيرًا صادقًا عن روح الشخصية الجماعية المتنوعة في انتماءاتها.
مما لاشكّ فيه أنّ التراث العربيّ يختزن طاقة لو فعلت في نفوس الأجيال المتعاقبة لغيّرت وجه المنطقة، ولكنّ المشكلة تكمن في هذه القطيعة بين التراث والأجيال المتعاقبة، ولا قيامة حقيقيّة إلاّ بوعي عربيّ يعزز الانتماء والاعتزاز بالتراث العربيّ القابل للتفاعل والتوليد، فالمسؤوليّة القوميّة تقتضي تعزيز الشعور بالانتماء، وتدعيم مقومّات التراث الثقافيّ الذي يحفظ الهوية ويختزل العادات والتقاليد، وينطق بدور التراث في تشكيل حركيّة الفكر الإنسانيّ الذي يشكّل مرجعيّة أساسًا للابتكار والتجديد والتطوير والتحديث، فلا أمام من دون وراء ثابت وأصيل قابل للتفاعل والتوليد.
استنادًا إلى ما سبق يمكن القول أنّ الفعل الحداثيّ هو القادر، وحده، على إنتاج تراث جديد يرتبط بالتراث بقدر ما يتجاوزه، وهذا التجاوز يحمل جينات الماضي ويرسم الحاضر ويستشرف المستقبل بلغة عربيّة قادرة على التصوير واحتضان فيض الفكر الإبداعيّ، من دون وكان التراث الشعبيّ الأكثر ارتباطًا بوجدان الأفراد والجماعات.همال للتراث الشعبيّ الذي يعكس وجدان المجتمعات وقيمها الدينيّة والسياسيّة والأخرقيّة والإجتماعيّة، وهو الأكثر تعبيرًا عن رؤية الأفراد والجماعات للعلاقات وللأحداث وللكون والحياة.
تكشف قراءة التراث الشعبي عن عناوين ومفاتيح ودلالات ورموز تساعد المتلقي على اكتساب المفاهيم والأعراف التي تخوّله الانتماء إلى مجموعة بشريّة يشاركها في صناعة الحاضر، وفي التأسيس للمستقبل، كون هذا التراث الشعبيّ أنتجته تعاليم وأفكار ومبادئ فرضتها قيم الجماعات، فأرخّوا بها تجاربهم وأساليب تفكيرهم وأنساق نظرتهم إلى طبيعة العلاقات الإنسانيّة عبر حركية كونيّة موسومة بالصيرورة والتحول.
تمايز نتاج التجارب الإنسانيّة بفاعلية الوسط المحفّز، وبتفاوت طاقات العناصر، وبتباين إمكانيات الإدراك والفهم؛ ولكن مهما تنوعت قيمة المنتج وتباينت مستويات الإدراك والفهم بين أبناء البشر، فلا بدّ من وجود نقطة مركزيّة تتلاقى عندها رؤية الإنسان للأشياء والحياة والكون، وتختزل، في الوقت عينه، تطلعات النفس البشرية وآمالها وآلامها وأحلامها غير المتناقضة في طبيعة الجوهر، وذلك في المجتمعات البشريّة جميعها.
يظهر التراث الشعبي العربيّ غناه الراشح بثقافة حياة تركت آثارها في الحضارة الإنسانيّة، وبخاصة ما جاء في شكل حكاية، غير أنّ البحث عن الأصول يبقى محصورًا في منهج البحث الاجتماعيّ/التاريخيّ، ولا يقدّم إضافة على مستوى القيمة الأدبيّة، لأنّ الوظائف التأويلية الفنيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة تبقى مرتبطة بمفاهيم المجموعة التي تعيد صياغة الحكاية وفق رؤية خاصة لا تتناقض ومنزلة البطل/ الرمز الذي تصنعه أحلام الشعوب وتصوراتهم ورؤاهم الذاتية.
خامسًا: بيان البحث
تهدف العولمة إلى بناء مجتمع على مقياس واحد يسهّل قياده من خلال الشركات الاقتصاديّة وأحادية اللغة، والثقافة الموجّهة التي ترغب في تذويب الخصوصيات القوميّة والانتقال من الخاص إلى العام، ومن الجزئيّ إلى الكليّ، وربّما كان من نتائجها دعوة اللغويين العرب المعاصرين إلى تسهيل النحو بتبني السماع وبإلغاء مسائل النحو الخاصة، ورفض القوانين الجزئيّة.
تظهر العولمة في طروحاتها دعوة إلى اقتصاد عالمي واحد، و إعلام موَّحد، و علوم وثقافة مشتركة …، و لكن المجتمعات البشرية، مذ تشكّلت، قام نظام الإنتاج فيها على مؤسس عمل وعاملين، وهذه الحقيقة تنبئ بأنّ نظام المؤسسات المعولمة سوف يقلّص فاعلية التجربة الذاتية، فتتراجع عن الخوض في ميادين الأداء الفعليّ، لأن التحكّم الحقيقي في مصير الحركة العالمية الجديدة حكر على أشخاص يقبضون على العالم اقتصاديًّا و إعلاميًّا، ومن ثمّ ثقافيًّا وفكريًّا. إنهم أسياد العالم من دون منازع، فحيث توجد القوة المادية توجد السلطة. و رأس المال هو الحاكم الرئيس في واقعنا المعاصر.
تنبئ العولمة، أيضًا، بتحكم قلّة من المستثمرين في احتياجات أبناء العالم. وبانتقال السلطة إليهم سوف يستخدمون قدراتهم لتحويل العالم إلى أشكال اجتماعية، و سياسية و فكرية، وثقافية تتوافق مع تطلعاتهم و مطامعهم، ومعها سوف تتوقّف المجتمعات في سكونية حركية تلهث وراء لقمة العيش، وتختزل طموحاتها في المحافظة على المكان، الذي صار الحصول عليه هدفًا وجوديًّا، و بانعدام الحركة الهادفة تتقَزّم فاعلية أبناء المجتمعات في استقرار سكوني سلبي قاتل، وتنتحر رغبات الأفراد في السعي إلى التحسين و التطوير وتنقطع صلتهم بالماضي.
إنّ الشعور بالخوف، من فقدان المكان، يلغي فاعلية الزمن، و ينحصر وجود الإنسان في مكان واحد، وفي زمن متوقّف عند لحظة قلق قاتلة تحوِّله إلى متلقٍّ سلبيّ مقيّد بقبول سطحي يضمن له السلامة الآنية. وبالقبول المفرّغ من المضمون يتخلّى عن مقوّمات وجوده، وعن هويته الذاتية، ويصير رقمًا سقط من حسابات رؤوس الأموال بعد أن أُهمِل وجوده تحت تراكمات مادية تصخّرت معها الأحاسيس والمشاعر، وأدَّت إلى اغتيال الفكر، وابادة صرح الثقافة واغتيال فاعليّة التراث.
تحاول العولمة محاصرة الثقافة وقنص تراث الأمم، وإلغاء الفعل الثقافيّ والفكريّ، واغتيال العقل الحداثيّ الإبداعّيّ ، ومن ثمّ فرض أحادية ثقافيّة تلغي الخصوصيّات الثقافيّة القوميّة. والظاهرة الأكثر خطورة هي السيطرة الثقافية، وفرض الهيمنة غير المرئية على العقل الإنساني. والمجتمعات لاتموت، و لا تتلاشى إلا بخسارة قدرات أبنائها الفكرية؛ لأن تفريغ الأمة من مقوّمات وجودها الثقافي، يفقدها مبرر وجودها و يؤدي إلى خسارة هويتها الذاتية؛ لتتحوّل إلى مجهول تابع في المعادلة الجديدة.
ضمن هذه المعادلة الصعبة تبقى الثقافة، وحدها، قادرة على الوقوف في وجه مخططات العولمة السلبية، فالتحصين الثقافي الذاتي لكلّ أمة ضرورة حتمية يضمن بقاءها بفضل قدراتها الإبداعية. و التحصين الثقافي مرتبط بقوة الفاعلية اللغوية للأمة، والفاعلية لا تنفصل عن الأصالة و القدرة على التطور والارتقاء، والأصالة تتجدّد بحداثة يدعو بعضهم إلى نفيها وهم يجهلون تاريخ ميلادها الفعليّ.
إنّ الثقافة العربيّة تراثٌ وليست إرثًا، فالموروث معرض للضمور والتلاشي والزوال، أمّا التراث العربيّ فهو نبض الأصالة الماضية في حاضر يعد بالخروج على الانبطاح والتبعيّة، والخروج مشروط بنشاط مثقفين عرب يسعون إلى تجديد الفكر العربيّ من داخل التراث وإحياء عناصره الحيّة وتلقيحها بفكر وافد فيكون تفاعل ينتج تراثًا جديدًا بلغة عربيّة قادرة على تدوين العلوم والمعارف والتصوّرات والرؤى والتطلعات.