Tahawolat
يظهر المشهد البانورامي للمنطقة، أن المشروع الاميركي للتقسيم أخذ بتلوين البقع الطائفية، والمساحات العرقية، وإن كانت هذه الألوان لم تزل باهتة الى حد ما لوجود تقاطعات مشتركة ممانعة من جهة، كما لوجود مقاومة فاعلة تعيد مزج الألوان. "داعش"، واحدة من تلك الالوان القاتمة المخطط لها ان تسيطر على مساحة واسعة من الخريطة الجغرافية. انما لـ"داعش" خصوصياتها، فهي تحاول في اماكن ولحظات محددة ان تتجاوز المرسوم اميركياً وفرض امر واقع جديد، فهل تنجح؟ 
تدفعنا أحداث  المنطقة الأخيرة، من العراق الى لبنان وطبعاً استمرار الأحداث في الشام، إلى قراء متأنية لظاهرة "داعش" ورصد حركتها  الميدانية، في محاولة لتفسير تطلعاتها القريبة المرحلية ورسم مسار خطواتها الاستراتيجية المقبلة.
تتقاطع خطوات "داعش" العملانية، بل تتماهى وبشكل كبير مع الرغبات السعودية الوهابية وأحلامها التاريخية، غير أنها لا تتطابق بشكل كلي الا في الدوافع الايديولوجية. فـ"داعش" التي خرجت من رحم المخابرات الاميركية وتبنت الفكر الوهابي السلفي، اختطت لنفسها طريقاً يجمع بين رؤاها الذاتية والاستفادة مما خطط للمنطقة من مشاريع جيوستراتيجة دولية واقليمية، وأخذت على نفسها ان تكون رأس الحربة في هذه المشاريع بغية تأمين الارضية المناسبة لتثبيت وجودها ومن ثم الاستقلال عن الرعاية السعودية الاميركية. لعل التجربة القديمة الجديدة لتنظيم القاعدة في افغانستان يعطينا نموذجاً واضحاً حول جوهر  تفكيرها وطبيعة عملها. وما يحدث الآن في سوريا الطبيعية هو نسخة أفغانية مسقطة على واقع جغرافي مختلف، إلا انه واقع ذو دلالات ايديولوجية اكثر حساسية من الواقع الافغاني لارتباطه بالسياق التاريخي العاطفي لمهد "الاسلام" .
 
الحركة الوهابية التي سيطرت على الجزيرة العربية بداية القرن الماضي، تمددت على حساب المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية من سوريا الطبيعية، ووصلت بحملاتها العسكرية الى خليج العقبة. لم تقف هذه الحملات الا بالتدخل الانكليزي الذي وازن بينها وبين مملكة شرق الأردن الخاضعة ايضاً للنفوذ الانكليزي آنذاك. ولعل التمدد الوهابي كان برضى بريطانية الساعية الى اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، والتي استحصلت من "السلطان" عبد العزيز آل سعود على إقرار بإعطاء "المساكين اليهود" وطناً. كما جاء في الوثيقة التي نشرتها مجلة الحرس السعودية المعارضة العام 1991. هذا الرضى الانكليزي أعطى المملكة الوهابية تقريبا 550 الف كيلومتر مربع من الأراضي السورية تمتد من الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر حتى الشواطئ الغربية للخليج ضمناً ثلثي بادية الشام بما فيها تبوك والجوف ووادي السرحان وجزيرتا تيران وصنافير التي عادت وتنازلت عنهما للدولة اليهودية العام 1967.
غير أن الرغبة السعودية لم تتوقف، وظلت عيونها شاخصة إلى منطقة الجزيرة الخصبة الواقعة بين دجلة والفرات. الجزيرة المؤلفة من ثلاثة ديار: هي ديار بكر وديار ربيعة وديار مضر، هي بالواقع الجوهرة الزراعية، الحضارية لمنطقة بلاد الشام وهي عقدة المواصلات الاساسية لطريق الحرير بين الداخل الآسيوي والبحر المتوسط.
على ضوء هذه الصورة الجغرافية، وخريطة النيات المشتركة بين داعش الوهابية والمملكة الوهابية، نستطيع أن نفسر لماذا تواجدت داعش كقوة عسكرية في الشمال السوري، من الريف الحلبي الى الرقة ودير الزور وصولاً الى نينوى وديالى وصلاح الدين في العراق.
طبعا استفادت "داعش" من الطموح السعودي والأموال السعودية، واستفادت ايضاً من أخطاء الدولة الحديثة في العراق، واستفادت ايضاً من الحالة الكردية ومنطقة الاستقلال الذاتي، واستفادت من المشروع الأميركي والفوضى "الخلاقة"، واستفادت من المشروع الصهيوني للتفتيت، واستفادت ايضاً من الاموال الطائلة التي وضعت اليد عليها في الموصل. واستفادت  من الاسلحة الاميركية الحديثة التي خلفها الجيش العراقي بعد انسحابه من نينوى. حتى باتت "داعش" الآن من المنظمات الاقوى على الساحة.
لكن "داعش" المارد المقنّع الذي خرج فجأة في سورية، والذي خرج بقوة قياسية في العراق، لن يقف عند هذه الحدود فله أجندته الخاصة، وله استراتيجيته الخاصة. ستستفيد داعش من مشروع "برنارد لويس" التقسيمي. وهي بالتأكيد سترتد على السعودية وتقضي عليها. وإذا ما تمّ هذا برعاية أميركية صهيونية سيربط واقع داعش السياسي بين البحر الأحمر والخليج والبحر الأبيض المتوسط.
أصبح واضحاً أن تمدّد داعش في المنطقة على حساب الدول الكيانية الموجودة، يحظى بالرضى الاميركي والغربي، وبدعم من الانظمة العربية الدائرة في فلك محور الشر والنهب. وأن الضوابط التي تضعها الادارة الاميركية على العصابات الداعشية الوهابية هي نوع من ترسيم الحدود بالنار. بدليل ما يحصل في العراق، فالإدارة الاميركية الساقطة من عالم الإنسانية لم تتحرك لمشاهد القتل والذبح والسبي والتهجير لشرائح متعددة من الشعب العراقي، انما تتحرك بدافع الحفاظ على  مصالحها النفطية  في كردستان.
وأصبح واضحاً، أن الضوء الاخضر الاميركي قد اعطيَ لـ"داعش" بتنفيذ مخطط "برنارد لويس"، مشفوعاً بالترهيب والتخويف الإعلامي المتماهي مع الارهاب الصهيوني التلمودي للعصابات اليهودية في فلسطين. فـ"داعش" الاميركية اصلاً ومنشأ، تسير حسب البرنامج المحسوب بدقة الساعات السويسرية، بحيث لم تكن عملية عرسال الاخيرة الا استطلاعاً بالدم لقياس متانة الجبهة العسكرية والشعبية في لبنان .
"داعش" التي ولدت من اللاشيء حسب البعض، هي بالحقيقة قديمة قدم القاعدة، وقدم بن لادن والظواهري. فيوم اسدل الستار على القاعدة الافغانية، انتقلت بـأمر عمليات سيدها الى العراق كمحطة أولى، وسورية كمرحلة ثانية. لم يكن من واجبات هذه القاعدة الا وضع يدها على منابع النفط بدلاً من الاحتلال المباشر للقوات الاميركية المكلفة مادياً وبشرياً. وهو ما صرح به العديد من المسؤولين الاميركيين وآخرهم هيلاري كلينتون في مذكراتها التي صدرت حديثاً.
ان ما تقدم يقودنا الى القول: إن "داعش" بوضعها الحالي لا تلبي كامل متطلبات المشروع الاميركي اذا لم تستحصل على ميناء بحري، يؤمن لها وبالتالي للإدارة الاميركية نقل النفط بشكل آمن وبأرخص التكاليف. هذا ما استدعى "داعش" ومن ورائها المشّغل الاميركي، تحضير الارض والعدة والعتاد، وإيجاد الصيغ المتاحة لتأمين المطلوب.
أمام "داعش" الآن خياران لا ثالث لهما لتحقيق هذه الغاية. أما الدخول عبر الحدود اللبنانية للوصول الى البحر الأبيض المتوسط، وهو الخيار الأفضل أيضاً للطرف الاميركي، وأما خلط الأوراق في الأردن تمهيداً للوصول الى البحر الاحمر. رغم العوائق والتعقيدات التي تعترض تنفيذ مخطط  كهذا في أي من الخيارين، الا انه يبدو قد أعطي الخيار اللبناني اولوية في التنفيذ، وهو ما حاولته "داعش" فعلاً في عرسال بحسابات خاطئة على المستوى التكتيكي.
لا شك في أن بقاء "داعش"، او اي صيغة مشابهة لها، على الخريطة الجغرافية، يعني وبالتأكيد انتصار مشروع الشرق الاوسط الكبير. وعلى النقيض أن انكسار "داعش" وأخواتها، هو سقوط المشروع الصهيوأميركي الى غير رجعة. إنها معركة وجود.
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net