Tahawolat


يختنق الهواء بين ممرات ضاقت حتى ابتعلت خطوات العابرين الى ما يشبه الحياة، هناك عند مشارف الانتظار الطويل تطالعك لوحة الترحاب التي تختصر كل النكبات العربية "أهلا بك في عاصمة الشتات الفلسطيني".. كل التسميات حاضرة فالتنظيم يجاور قرينه بما يشبه المكاتب والقاسم المشترك صورة "أبو عمار".. ربما لأنه أتقن فن الجمع من دون أن يطرح من حساباته فعل التقسيم إذا ما فقد رمزيته، ليبقى الرمز الأبرز.
كثيرة هي القصص التي تخفيها الجدران المتآكلة حيث تتلاصق الهياكل الحجرية التي تحمل صفة المسكن، رغم افتقادها السكينة، تسير بمحاذاتها وتشعر أن عيون الأطفال تحثك على السؤال وتخبرك أنهم موجودون ويستحقون حياة أفضل، فهم يملكون القدرة على الحلم والغناء والتعلم، ولو أن الشهادات لا تجديهم نفعاً حيث يكبرون في الشتات.
بطاقة اللجوء هويتهم والعودة قضيتهم. هكذا يختصر الفلسطينيون في المخيمات اللبنانية نكبتهم، ومخيم عين الحلوة اكثر المخيمات كثافة سكّانية بعد غزة، نموذج يختصر معاناة شعب بات موته طقساً يومياً ولو في إطار جتماعي.
شر البلية ما يُضحك...
أقعده المرض لكنه لم يلغِ حس النكتة على قاعدة أن شر البلية ما يُضحك، يجلس الصحافي الفلسطيني مازن العناني في مربع لم تدركه الالوان الزاهية منذ زمن والتكنولوجيا حاضرة لتصله بالعالم الخارجي، وعن الواقع يبدأ حديثه: "الفلسطيني يجمع كل المآسي البشرية، بدءاً بالكوارث البيئية وصولاً الى قرينتها الانسانية، ونحن كمثال نختصر المأساة الفلسطينية برمتها، لا ندري كيف نقوى على الاستمرار في الحياة ونحن عائلة مكونة من سبعة أفراد، والدي خرج من يافا العام 1948 وانا خرجت من رام الله في 1967 وأتيت الى لبنان، عشت الحروب اللبنانية كافة كغيري من فلسطينيي الشتات، وبعض اللبنانيين اختاروا الهرب من ويلات الحرب فيما نحن بقينا. ورغم مرارة التقاتل إلا أني أجزم أن المرحلة التي نمرّ فيها اليوم هي الأصعب، خاصة في ظل وجود ما يسمونه الدولة".
لكن بأي معنى يمكن تفسير هذه النظرية؟ يجيب: "هذا البلد كيانه لا ينسجم مع فكرة الدولة، حيث أنها غير قادرة على تقديم الخدمات اللازمة للناس اقتصادياً واجتماعياً، في السابق كان منطق الجماعات هو القائم ولكل فئة نصيبها في سياسة المحاصصة ونحن من ضمن هذه الفئات ولو لم نملك الهوية اللبنانية".
أما عن ضرورة التعليم فيقول: "أولادي لم يتعلموا طالما لا جدوى من الشهادات، الفلسطيني لا يحق له ممارسة 73 مهنة إن كان يملك أوراقاً ثبوتية فكيف لو لم يملكها، أصغر أولادي تبلغ السادسة عشرة من عمرها. ثم إذا ما حصل أي فلسطيني على فرصة عمل هنا فإنه يكسب الفتات وتبقى أبسط حقوقه القانونية معدومة ويمكن لأي رب عمل طرده ساعة يشاء ولا من حسيب أو رقيب".
التهكم وسيلة ناجعة في ظل الواقع المعيشي المتردي الذي يختصره العناني بالقول: "الحالة المعيشية باتت صعبة للغاية والمدخول لا يكفي، أنا صحافي وأمارس هذه المهنة بدون مقابل مادي، فحين أرسل الأخبار للزملاء اللبنانيين لا أجني منهم سوى كلمة "شكراً" وبصراحة لا أعرف أين تُصرف هذه الكلمة، في إحدى المرات طلبت علبة سجائر وقلت للبائع "شكراً" وخرجت فأسرع خطاه مستنكراً وسائلاً عن ثمنها، فأجبته هذا ما تدفعه لي المؤسسات الصحافية اللبنانية فلمَ لا تطالبهم بدلاً مني؟!".
وفي ما يتصل بالشأن الطبي يقول: "التقديمات الطبية معدومة، ومنذ أجريت عملية القلب لم أعد أتناول الدواء الذي يكلفني كل شهر ما يقارب الاربعمئة الف ليرة، وكي أحصل عليه يجب أن أستجدي فلانا وعلانا لذلك فضلت الاستغناء عنه رغم اصابتي ايضاً بمرضَي السكري والديسك، وفي النهاية الأعمار بيد الله".
.. وللأطفال حقوق
نغوص الى عمق المكان لتتبدى صورة مستجدة على المخيم، إنهم النازحون قسراً من سوريا، أطفال نسيهم الفرح يفترشون ارضاً لم تغطها  حتى حصيرة  قش في بهو كبير غرفه جدرانها من قماش  مع غياب اي وسيلة من وسائل التدفئة ويحاولون التأقلم مع واقعهم. في  احدى الزاويا اربعة اطفال اكبرهم لم يبلغ السابعة من العمر يتناولون غذاءهم المتواضع جداً ورب الأسرة الذي لم يذكر اسمه يلخص المعاناة قائلاً: "سوريا أم الفقير ونحن خسرنا ركناً دافئاً لا يمكن تعويضه إلا بالعودة الى فلسطين، لا يوجد أي تقديمات هنا سواء من الاونروا أو الدولة اللبنانية والغلاء الفاحش يزيد الوضع سوءاً. عائلتي مكونة من ستة اشخاص وكما ترين لا وجود لأدنى مقومات العيش وليتنا لم نختر النزوح أساساً".
امّا أبو ضياء (شاعر) نزح الى لبنان منذ شهرين تقريباً، بدت المرارة متملكة منه لهول التجربة التي مر بها، ويقول: "نشعر بالتشرد أكثر هنا، ولو لم يحترق بيتي ويداهمنا الخطر لما تركنا سوريا. صحيح أن الفقير حياته لا تختلف بين بلد وآخر ولكن تبقى الروح غالية، وابنتي المريضة (تعاني من شلل رباعي) ماتت بين يدي جراء القصف العشوائي. دائماً ندفع ضريبة التقاتل وكأنه لا يحق لنا ولأطفالنا الاستمرار في العيش".
ورغم قسوة الموت يدرك أبو ضياء كيفية تطبيق الإعلان العالمي لحقوق الطفل من خلال اصراره على كتابة الأمل عبر القصائد التي تحاكي أحلام الطفولة وهو يحضر لعرض مسرحي شعري يقدمه الأطفال في المخيم بمناسبة عيد الأم ويقرأ لنا بعض الابيات: "أرفض أنا أحيا بمذلة/ أرفض أن تقتلني القِلة/ أنا طفلٌ أين حقي؟/ لا قوة عندي ولا حول/ أنا آت من أرض النار/ من تحت ركام ودمار/ لا أحمل إلا انكساري/ وآلام يعلمها المولى../ أنا طفلٌ من حقي أعبّر/ أن أرسم أن أحمل دفتر../ من حقي الملعب والمسرح/ أنا طفل فلسطين اسأل لماذا في كل حرب أُقتل؟".

 
حين تضيق الجغرافيا
يختصر اللواء منير المقدح (قائد كتائب الأقصى في الوطن والشتات) الصورة الاقتصادية والاجتماعية والانسانية للمخيم ويستهل حديثه بالقول: "يعيش في هذه المساحة الضيقة (كليومتر مربع) 80 ألف نسمة ووصلنا من سوريا 13 ألفاً إضافية، فأصبح المجموع 93 ألف نسمة. البيوت هنا أساساتها لا تتحمل أكثر من طابق واحد ورغم ذلك يضطرمعظم السكان لبناء 4 طوابق، حيث تكون الطوابق السفلية رطبة لا تصلها الشمس، والجميع يحاول التكيف مع الواقع، يُضاف الى ذلك كله نسبة البطالة المرتفعة، ولا وجود للمصانع في المخيم. لدينا مستشفيات لا تستوعب الاطباء الفلسطينيين. كل الوظائف المركزية لا مجال للفسطيني العمل بها، مما يؤثر على الشباب بشكل سلبي وتترك أثرها النفسي الكبير فيهم والكثير منهم يتخلون عن الدراسة الجامعية لاقتناعهم بعدم جدواها".
لكن إلى أي مدى نتج عن هذا الواقع آفات اجتماعية؟ يجيب المقدح: "الانحراف نسبته محدودة جداً، والتقاليد الاجتماعية تسيطر على المخيم مما يجعلنا عائلة واحدة رغم بعض الاختلاف الذي لا يهدد النسيج الاجتماعي، ونسعى لتكون علاقتنا مع المحيط والجهات الأمنية اللبنانية جيدة كنوع من الضمانة والحصانة رغم الوضع الاجتماعي الصعب الذي يمر فيه شعبنا".
ويضيف المقدح: "نحن لا نطلب من الدولة اللبنانية إلا أن تعاملنا كأي عربي آخر يقيم على أراضيها، نحن لا نريد الجنسية إنما نطالب بحقوق معيشية أفضل على غرار ما نأخذه في سوريا، نحن تعبنا من المطالبة ولا نأمل من هذه الدولة شيئاً بعد 64 سنة من وجودنا القسري في بلد يقول إنه ديموقراطي".
يسترجع المقدح مشهد الخيم حيث يقوم اليوم بنصبها للقادمين من سوريا وكأن الزمن يعود به 64 عاماً ويبقى تحصيل العلم مشكلة لأن المناهج الدراسية تختلف هنا عن سوريا، ليقول: "البيوت لم تعد قادرة على استيعاب النازحين من سوريا وكي لا يبقوا في الشوارع نصبنا لهم الخيم، أما التحصيل العلمي فيعتبر مشكلة حيث لا توجد أماكن كافية للطلاب أضف الى ذلك أن المناهج تختلف بين لبنان وسوريا".
مخاطر البطالة
تزداد الظروف الصعبة التي يعيشها الشباب الفلسطيني تفاقماً مع مشكلة متخرجي الجامعات وخاصة الأطباء والمهندسين الذين لا يجدون عملاً فيصبحون عالة على اهلهم او ينسون شهاداتهم ويعملون في مجال التمريض او عمال بناء في حين يعمل متخرجو اختصاصات اخرى بائعي خضار او سائقي تاكسي.. وبسبب البطالة ارتفعت معدلات الأميّة في صفوف الفلسطينيين، حيث يشير المكتب المركزي الفلسطيني للإحصاء والمصادر الطبيعية الى ان 23% من الفلسطينيين من عمر 15 عاماً فما فوق هم اميّون، وهذا الواقع السيئ ان لم تتم معالجته بأسرع ما يمكن سينعكس سلباً على نفسية الشباب الفلسطيني وعلى سلوكهم تجاه المجتمع. والتأثيرات السلبية لاستمرار البطالة ستؤدّي الى إضعاف القدرة الإنتاجية للفرد في المستقبل، وتعرقل انتقال الشباب من مرحلة المراهقة الى الرشد وبالتالي لتكوين اسرة، وتقصي الشباب من المجتمع ومن الممارسات السياسية الديموقراطية ممّا قد يسبب حالات اضطراب اجتماعي.
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net