Tahawolat
  
 
مدن لبنان الحديثة بدأت بالتشكل أواسط القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين وعلى امتداده. وراحت كل منها تتطور بآلية مختلفة حياً حياً، ومحلة محلة، وكانت الأحياء تنشأ وتتنامى بشكل متوازٍ في العديد من الحالات.
 
وخلال التنامي المديني، تراكمت الأحداث والحكايات، واختزنت ذاكرات أبناء الأحياء والمناطق صوراً من المراحل الغابرة لذلك الزمن، لكن تطورات الوقائع اللبنانية الصاخبة تمكنت من حجب الكثير من صور تلك المراحل الهادئة من تاريخ لبنان الحديث.
 
العاصمة بيروت زخرت بالأحداث والتطورات، وانشغلت بالحداثة، وشغفت بها، فهي تتوسط شرقي المتوسط، وتكاد تشكل نقطة الارتكاز للدائرة العالمية.. كادت بيروت تشكل وسط الدائرة، ولا بد من العبور بها للتنقل بين الشرق والغرب. شكلت ما يشبه الشمس، يشع نورها على العالم. لذلك، سحر بها أبناؤها، كما زوارها، وكادوا يؤلهونها، كتبوا لها، ووضعوها في أواسط عقود المدن العالمية الزاهية، ورسموها بإغواءات جميلة وتصاوير أجمل كتابة ورسم وموسيقى و.. ذكريات.
 
بضعة كتب نشرت في الأعوام القليلة الماضية، منها ما تناول زاوية من زوايا المدينة، وآخر جسّدها عبر وجوه عايشتها، ورافقت تطوراتها، وثمة كتاب رسم أحياءها وبيوتها، ومحلاتها بإضاءات وكتابات ساحرة.
 
بارودي: رأس بيروت
تناولت منى بارودي الدملوجي ناحية هامة من نواحي بيروت، وهي رأس بيروت، في كتابها "أوراق من عمر مكتوب". روت قصة آل بوست المرسلين الانجيليين للجامعة الأميركية، ودورهم في تاريخ المحلة ونموّها. كما عرضت لأساتذة كبار أمثال الشيخ سعيد حمادة، وجورج حكيم، وشارل مالك، وأنيس فريحة، وقسطنطين زريق، وكمال ناصر، وكمال الصليبي، وأمين غريب مؤسس جريدة "المهاجر" في نيويورك، ولقاءاته مع مي زيادة وجبران خليل جبران.. تتحدث عن مطعم فيصل كامتداد لأجواء الجامعة الأميركية، وعن أولاد تعلموا ونجحوا وتوزعوا في أنحاء الدنيا.
 
تعكس الدملوجي أيضاً صورة العيش الهانئة، اللعب في الحديقة، ودخول المدرسة، والجامعة، ثم إلى الحروب، والظلم والهجرة. تتحدث عن ملك شحادة ربيز في شارع جاندارك قبل زاوية الحمراء، وكان أحلى بيوت جاندارك، وحديقته مصدر اعتزاز، وكان الشارع مأهولاً ببضع عائلات قديمة ربطتها بهم صلة الود والتعاطف. وتقول إن "أهل الحي كانوا يعرفون بعضهم معرفة تامة، وكل منهم يشعر بالاطمئنان نحو الآخر، حتى البائعين المتجولين".
 
وتتحدث عن الباعة الذين كانت تخصّهم بأحاديث يومية من خلف باب حديقة البيت الذي عاشت فيه، واصفة المشهد: "بائع الشتل كان يمر ممتطياً حماره، وعند العصر بائع الكعك السخن والقليط"، وهذا الجو، تقول، "لا اسم له سوى الألفة".
 
كثيرة الروايات الحية التي ترويها الدملوجي، تصور حياة رأس بيروت، وتقول إن "حدائق الجامعة الأميركية كانت من ضمن مناطق اللعب للبعض منا... وغالباً ما كان في عصريات يوم الأحد يطل علينا صندوق الفرجة، وعندما نسمع نفخة بوقه نحضر القرش المبخوش. نلتف حوله ونجلس بالدور على مقعد خشبي، ونضع أعيننا بلصق شاشة، فيدور زنبرك الشريط مردداً بنغمة عالية "شوف وتفرج آه يا سلام، وشوف أحوالك عالتمام"، وأخيراً تظهر صورة لقوس النصر فيهتف "هيدي باريس أم الدنيا".
 
ومن أسرار رواياتها، أن جدها بنى في مؤخرة حديقة المنزل بيتاً صغيراً أسماه "كوخ الجنيناتي". وأول من سكنه شخص غريب، ذو لحية، ويختلف عن أهالي رأس بيروت. فكان أشبه بالافرنجي أو الفيلسوف من الذين نرى صورهم في الكتب. وتقول: "علمنا أنه يدعى أنطون سعادة، وهو أستاذ خصوصي للغة الألمانية، ولم يكن يدور بخلد أحد أن الحزب السوري القومي الاجتماعي كان في طور التأسيس، ويدبّر في "كوخ الجنيناتي" إلا عندما استيقظنا ذات صباح على جلبة الجندرمة تعتقل من قالوا عنهم "أعضاء في حزب ضد فرنسا"، ثم علمنا أن رئيسه أنطون سعادة، أبو اللحية ساكن بيت صغير في جنينة جدي".
 
ومن جمالات ما روته عن معايشتها للحي، طرقات جاندارك والحمراء، التي كانت وقتئذ "معظمها بساتين للخضار يسيجها الصبير، وكان شارع الحمراء مقفراً يحتوي على بضع كومات من الرمل، وكانت أشبه بساحات لعب للأطفال". وتقول إن "آخر نقطة أنس بالحمراء بيت المستر سيلي الذي أصبح بعد سنوات عديدة "الهورس شو"، وكنا نتمشى إلى هناك للتفرج على "الأسانسير" الذي كان عجيبة العجائب".
 
منى بارودي الدملوجي مواليد ١٩٢٣، روت حكاياتها تاريخ رأس بيروت منذ العشرينيات، وحتى السبعينيات، مع تحولاتها، تزوجت من فيصل الدملوجي العراقي سنة ١٩٤٧، وانتقلت للحياة معه في العراق، ثم تنقلت العائلة بين العراق وعواصم اوروبا، واستقرت معه في بيروت منذ العام ٢٠٠٢. وفي عودتها، لاحظت الفارق بين حياتها الأولى القريبة من الطبيعة، والحالية المصطبغة بالحداثة، وأبنية الباطون العالية، معبرة عن أسفها لزوال معالم طفولتها وصباها، حيث "لم يبق من جيرتنا القديمة إلا املاك حسن الطقوش وفيها تجارة لبيع الورود والمزروعات الموسمية".
 
وتنتهي إلى انها "التقت من بقي من اصدقاء، حيث صرفنا معهم بعضاً من الوقت فأخذت أحاديثنا مجراها القديم وكانت عودة غير متوقعة للاجتماعات المؤنسة الأولى".
 
حبيب: المزرعة
في كتابه "يوميات تاجر بيروتي"، يعرض نقولا إيليا حبيب بعضاً من نشأة حي آخر من أحياء بيروت الأولى، "المزرعة" يوم ما كانت درباً يسمى "خندق حبيب"، وكان ذلك بين الثلاثينيات والأربعينيات.
 
المزرعة في تلك الآونة، كانت زرعاً وفيها بيوت، غالبها طابق أرضي، وطابق أول أقل مساحة، والفراغ يستخدم للسهر الصيفي، والنوم تحت خيم تنصب على قساطل من حديد طوال الصيف وحتى اوائل الخريف.
 
لم يكن في منطقة المزرعة سوى شارع معبّد واحد هو "الألزاس -لورين" يبدأ من رأس النبع وينتهي بتلة الخياط، وعرف لاحقاً بشارع المزرعة. ويتذكر حبيب أنه كان يحد المزرعة من الجنوب صحراء رمل أحمر، تمتد حتى البحر، شمالها البسطة، وغربها المصيطبة، والشرق راس النبع. وحتى الخمسينيات الأولى، كانت خالية من الشوارع المعروفة اليوم.
 
ويصف حبيب المزرعة في حينه بالمكان النموذجي الآمن لنمو الطفل في الطبيعة، حيث يهرع الأولاد منذ الصباح للعب في الحدائق، ويلهون بألعاب من وحي الطبيعة مثل جورة العجو (نواة حبة المشمش)، وطائرة الورق، والنقيفة لاصطياد العصافير، والكلة، والأراجيح.
 
مساء، يعود الأولاد إلى المنزل والحمام في انتظارهم، ويتوافق ذلك مع عودة الوالد من العمل نحو الخامسة. يرش الحديقة بالماء، ثم يستحم، وبعدها تتحلق العائلة حول بركة في جنينة المنزل، يتناولون معاً العشاء. وبعد العشاء يتوافد الجيران كل مع أرغيلته، للسهر ولعب الباصرة، وتنتهي السهرة بجولات من التنكيت والتزريك في جو من الألفة والمحبة.
 
في مكان آخر من كتابه، يتحدث حبيب عن المدرسة أواسط الأربعينيات، وكيف أسميت المدارس باسم المدير، فكانت مدرسة الاستاذ عبد الله، ومدرسة الست سلمى، وكانت اللغة الأجنبية فيها شبه معدومة. ويعرض الطريقة التي تعامل الأهل فيها مع أولادهم، بحيث يظهر مدى الالتصاق العائلي، وتأثير الأهل الكبير على الأولاد. يقول أن والده كان يشرح له ولأخوته مسائل حسابية، تحكي عن بائع بيض اشترى عشر بيضات، كل بيضة بخمسة قروش، انكسر منها ثلاث، فباع الباقي كل بيضة بعشرة قروش. فكم ربح أو خسر؟ أما الأخوة فتباروا على السبق بمعرفة الجواب.
 
ويعكس حبيب حياة التلاميذ وكيف كانوا يتقدمون للشهادة الابتدائية، ثم الانتقال إلى المدارس الخاصة، وتكاليف التعليم الباهظة التي تقع على أكتاف الأهل. مما فرض على التلاميذ العمل الصيفي لتأمين بعض نفقات التعليم الخاص. ويقول إنه عمل مع شركة البارودي، إحدى أوائل شركات التجارة البيروتية، ويرجح أنها تعود لأهل الكاتبة منى بارودي التي روت عن رأس بيروت. كما كان التلامذة يتعلمون في مدارس ليلية كي يتمكنوا من العمل نهاراً. وكانت المدرسة تفتح حتى التاسعة ليلاً، لم يكن ما يمنع العودة الآمنة للمنزل، التي تتم بواسطة الترامواي من محطة العكاوي، إلى محطة المزرعة، وتستغرق الرحلة نصف ساعة، ورغم عناء العمل نهاراً، والدراسة مساء، كان الأولاد يعودون لمراجعة دروسهم ليلاً قبل أن يخلدوا للنوم.
 
يتابع حبيب كتابه عن تطورات العمل في بيروت، وتجربته الحية فيها، وتنقله في العديد من العواصم العالمية لمتابعة أعماله التجارية، ويذكر المضاربات التي كان يمارسها التجار اليهود في بيروت، والتي ما زالت عاداتهم في الولايات المتحدة لتفليس كبريات الشركات التجارية. وينقل أشياء من المعاناة اللبنانية حتى يومنا.
 
أمين الباشا: بيروت
في كتاب فني وثقافي قيّم من نحو مئتين وأربعين صفحة، من الحجم الكبير، تزدحم مئات لوحات مائية لأمين باشا في كتابه المعنون "بيروت"، ويشحنه بشهادات لكبار الكتبة والشعراء والمفكرين الذين مال جلهم إلى اعتبار بيروت الأنثى الجميلة، والعروس، والمرأة التي تستحق كل إطراء وغزل. الكل جنّ بها، بجمالها، وبسحرها، ويكاد الجميع يجمع على اعتبارها عروس احلامه، ومبتغاه.
 
لم يترك أمين الباشا زاوية من المدينة، أو مشهداً إلا وكانت ريشته تصبغ ما يرى، وتلون ما يقال. وبين الانطباعي والتجريدي، يفتح الباشا آفاق الذاكرة البيروتية، حتى إذا بقيت ثغرة، سدّها بأبيات شعر، أو كتابات لعشاقها.
 
لوحاته جسّدت أعياد المدينة، أحياءها الشعبية، سطوحها، الحدائق والشرفات، الشاطئ، حكاياتها كلعب الورق، وشاي الساعة الخامسة، وبائع الشكلتس،.. أماكنها: ساحة البرج، شارع الحمراء، عين المريسة، الحمام العسكري، حديقة الروضة، الروشة، سينماتها، نوافذها، مقاهيها وشخصيات في المقاهي: الباليت، الهورس شو، السيتي كافيه، مقهى الزجاج، الكيت كات والحاج داود.. لوحات على مدّ النظر، تبدأ ولا تنتهي، ولا تفوت مشهداً أو موقعاً إلا وتجسّده بالألوان القزحية.
 
وفي الكلام، استهلالاً له، يقول في بيروت: "هي مجنونة بجمالها، تتجمّل كل صباح، وتظل جميلة طوال النهار والليل. تستيقظ، هي لا تنام. كيف تنام وهي مفتحة العيون... تقول أنتم أنا.. أبقوني جميلة.. الجمال هو الذي أبقاني حية...".
 
ولجمانة حداد قول: هي امرأة.. مغوية.. قدرية.. لا تقاوم. طالعة من تاريخها لتنام في حلم لوحته. ندوبها لا تحول دون الجمال. هي امرأة فحسب وتدعى بيروت.
 
وللراحل كمال الصليبي - المؤرخ الباحث: كنت أحب المشي في بيروت عندما كان المشي متيسراً، شكلها منخفض ضيق من الأرض، وهضبتان على جانبيه، من الشرق الأشرفية، ومن الغرب المصيطبة. في الأيام التي كنت أمشي فيها من المنارة إلى فرن الشباك، أو كرم الزيتون المطل على مزارع سن الفيل، كنت أميز المباني التي يعود عهدها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أو اوائل العشرين. هذه البيوت زالت بمعظمها، لكني ما زلت أراها في مخيلتي.
 
ومن هشام شرابي: كانت المقاهي البلدية في رأس بيروت فارغة معظم الأوقات، فالجلوس في مقهى الروضة أو مقهى دبيبو ممتع بشكل خاص. كنا وصديقتي البولونية نركب الترام من بوابة الجامعة حتى آخر الخط، ثم نسير في طريق المنارة والروشة، نجلس في مقهى الغلاييني إلى طاولة نائية تطل على البحر، ندخن سجائر البافرا، ونتماسك بالأيدي من تحت الطاولة، وفي الخريف، نركب الترام إلى باب ادريس، ونجلس في أحد مقاهي الشاي، حيث كان الضوء منخفضاً، والموسيقى خافتة ونرقص على أنغام التانغو الساحرة.
 
ومن محمود درويش: جئت إلى بيروت في السادسة من عمري، ركبت الترام. نظرت من نافذته. رأيت بنايات كثيرة، فيها نوافذ كثيرة، تطل منها عيون كثيرة، الترام يسير، والبنايات تسير، والأشجار تسير.. لكل قادم إلى بيروت بيروته الخاصة، ولا نعرف إلى أي حد يشكل مجموع هذه المدن مدينة بيروت.
 
وللأخطل الصغير قصيدة "بيروت": فدت المنائر كلهن منارة/ هي في فم الدنيا هدى وتبسم/ كم ليلة عذراء جاذبة الهوى/ أنا العنادل والربى والأنجم.
 
ومن نزار قباني في "بيروت الأنثى مع حبي": آه يا بيروت.. يا أنثاي من بين ملايين النساء/ يا رحيلا برتقاليا على ورد وبرقوق وماء/ قومي من تحت الموج الأزرق يا عشتار/ لا يوجد قبلك شيء.. بعدك شيء.. مثلك شيء/ انت خلاصات الأعمار.. يا حقل اللؤلؤ. .يا ميناء العشق.. ويا طاووس الماء/ آه يا عشاق بيروت القدامى/ هل وجدتم بعد بيروت بديلا/ إن بيروت هي الأنثى التي.. تمنح الخصب وتعطينا الفصولا.
 
 الكلام عن بيروت ينتهي ولا ينتهي، وتبقى بيروت متجددة أبداً، تستولد عشاقا جددا، وتراكم ذكريات جميلة لا متناهية.
 
الكتب الثلاث صادرة عن دار نلسن البيروتية.
 
 
 
 
 
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net