Tahawolat
في القسم الأول من هذا البحث نظرنا في نشوء ترتبطالذاكرة العربية باللاوعي الجماعي لمفهوم الماضي، ولعدم الاكتراث بأهمية ما جرى في الزمن الذي سبق زمن الأمّة الحاضر، فالوطنفي أزمة وجود وهوية محدقة عائدة الى عامل نفسي متجذّر في أبنائه، ألا وهو الرفض، رفضالماضي، ليس لوعيهم بأحداثه، بل لجهلهم به جهلاً تاماً، فهم كما المريض المعقّد نفسيّاًيخشون العودة إلى الوراء تماماً بالعودة الى الطفولة كي لا يتذكر، ولكن ماذا؟ كي لايتذكر أساس علّته ومكمن عقدته وسبب مرضه. لذا فهو في حالة رفض دائمة للتاريخ، لا بلإن موقفه منه موقف ازدراء أو لا مبالاة أو عبثية وهي الأخطر على وجوده. من هنا اختلافمسؤولينا حول كتاب التاريخ، وحول كيف يكتبونه، ولمصلحة مَن أو ضد مَن، ولكأن التاريخهو تاريخ أشخاص وأفراد وأقزام وليس تاريخ جماعة وتاريخ وطن ومصير أمّة وأمجاد! إحساسمكبوت


قال الشاعر العربي:


ليس بإنسان ولا عاقل من لا يعي التاريخ في صدرهومن درى أخبار من قبله أضاف أعماراً إلى عمره ومَن أكثر من الشعر العربي معرفةً بمجاهلالنفس وأغوارها، فالشاعر هو ذاكرة الشعوب، فهو قد سبر أعماق النفس البشرية وأطباعهاقبل موجة علم النفس الحديث الممنهج على أساس ضعف البشرية وليس على مواضع القوة فيها.فالأطباع والأهواء هي سمة البشر في كل زمان ومكان وما من عيب في ذلك، ولكن العيب أنلا يتطور الإنسان ويرتقي عبر السنين، ويبقى يراوح مكانه تماماً كالمجتمعات الحيوانيةالتي ما زالت على حالها منذ وجودها في الأطوار الجيولوجية.


إذن، وعلى ذمّة الشاعر، ليس من عاقل إلا ووعى فيصدره التاريخ. وهذا صحيح، ولكن عن أي تاريخ يتحدث الشاعر؟ هل هو التاريخ الموضوعي،العلمي، المجرّد عن كل الأهواء أم أنه تاريخ العواطف والشخصانية والفردية والعشائريةوالقبلية والمناطقية والطائفية والمذهبية والعائلية والأحادية والإفرادية، وتاريخ الحسّالعاطفي الديني والروحاني والإعجازي المتزمّت والمتعصّب والمتقوقع؟ هل هو تاريخ العقلأم تاريخ النقل والتقليد والترداد الغوغائي والببغائي، الزجلي الغنائي الملحون أو الموزونأو المكسور الوزن أو المخلخل البنية أو...؟ هل هو تاريخ من لا يفقه من التاريخ اليومإلا تقليب المواجع والرجوع إلى أمجاد قريته أو محلّته أو “زاروبه” والبحث


عن مكامن الأزمة بينه وبين جيرانه وحتى بينه وبيننفسه؟ فإلى ماذا ترمي هذه الدراسات التاريخية التي تعدّ بالمئات والتي لا تذكر من التاريخإلا الأحداث الفردية




التي أدّت الى أزمة ومن ثم الى حرب ضروس بين جاروجار، ثم أدّت الى إشعال فتنة طائفية أطاحت بكل من شارك فيها؟ هل هو تاريخ ذلك الذييتحدث عن صراع الأخوة بين بعضهم بعضاً؟ هل هو تاريخ ذلك الذي يعيد الى الذاكرة ما حلّبالطوائف من تنكيل وتهجير لأبناء الوطن الواحد؟ من هنا فليس الخوف من هذا النوع منالتاريخ وحده هو المطلوب، بل الرفض الكامل له وإلغاؤه من الذاكرة ومحو آثاره الى الأبدلأنه عامل تفرقة وليس عامل وحدة وهو ذاكرة سيئة ومضرّة؛ فأبناء الوطن الذي يسرجون الخيولويتدجّجون بالسلاح من أجل مقاتلة بعضهم البعض ليسوا أهلاً أن تذكرهم الأجيال، لأن التاريخلا يتسع لمثل هؤلاء ولا مكان لهم فيه. ولكن ما هو التاريخ وأي تاريخ يكتب؟


فإذا كنا نرفض استرجاع هذا النوع من الأحداث الأليمةونرفض حتى تذكرها والكلام عنها، فكيف نكتب التاريخ إذن، وماذا نختار منه؟ نختار ماقاله تحديداً شاعرنا “ومن درى أخبار من قبله **** أضاف أعماراً إلى عمره”، أي انتقىمنه الأمجاد ومواقف العزة والبطولة والكرامة وليس تلك التي لعائلته، بل تلك التي للجماعةولأبناء الوطن كلهم دون أي استثناء؛ تلك المحطات المجيدة التي قالت


فيها الأمة قولاً واحداً ووقفت وقفة واحدة وأدّتواجبها بيد واحدة، أما غير ذلك فلتسقط كل أنواع التاريخ والذكريات ولتضمحل الى الأبد الى غير رجعة، غير مأسوف عليها! أزمة منهجعند مدّرسي التاريخ وفي هذا السياق، لا بدّ من التنويه أن مادة التاريخ ما زالت مهمّشةفي البرامج التعليمية بدلاً من أن تكون في صدارة العلوم لما لها من أهمية في إضافةأعمار على أعمار، أي لما تحمله من دفع نحو التطور والتقدم نحو مستقبل أفضل. ولكن، لازال التاريخ مادة مجهولة






تماماً ويدرّس تقليدياً كرواية وأسماء وتواريخ وحروب؛مادة جافة، دسمة ثقيلة الوقع الى ما هنالك من ردّات فعل ردّدها ويردّدها التلامذة علىمرّ السنين، تعكس كرههم لمادة التاريخ ومَن يؤرخون ومَن يدّرسون. والعلّة، في الواقع،تكمن في طريقة التلقين الببغائي لهذه المادة


التي بدل أن تكون مادة ربط بين الماضي والحاضر أيبين الأساس والنتيجة والسبب والنتيجة، باعتبار أن أحداث اليوم هي التحصيل الحاصل لماأسّس سابقاً، وهي تتابع طبيعي للتخطيط الذي وضع قبلاً مهما بعدت المدة الزمنية؛ فها إن كتب التاريخ ومن يدرّسها يشرذمون أحداث التاريخ ويقطّعونأوصاله بما اختاروه وما يتلاءم مع أحاسيسهم وتطلعاتهم وأهدافهم، فتأتي المعلومة مفكّكةالأوصال، مجزّأة في جمل غير مترابطة، لا نقرأ فيها سوى أسماء وتواريخ ليس إلا، صعبةالحفظ لكثرتها، أدرجت كمجرد معلومة مرمية من دون أي ربط






ودون أي تحليل للسبب والنتيجة، ونروح نجتر الأحداثوالنظريات في تفنيدها بمعزل عن مسبّبها الأساسي، فكيف يهمل السبب ويعوّل على النتيجةفقط؟ التاريخ منهجية علمية


إن التاريخ هو مادة المنهج العلمي بامتياز، شرطأن تطبق في كتابته المنهجيات الموضوعية وعلى رأسها المنهج التنقيحي، أو ما يسمى منهجإعادة النظرrévisionnisme( ( القائم على إعادة النظر في المعطيات الموروثةوإزالة الشوائب عنها على ضوء العلم والمنطق؛


أما المخوّلون تحقيق ذلك فهم المجرّدون عن كل العواطفوالأهواء الشخصية والفردية، المتصالحون مع أنفسهم، هؤلاء المنقّحون السليمو البنيةالنفسية، بمعنى آخر، هؤلاء الذين لا يخافون من التاريخ أي الذين يقرأون كل المعطياتبعين العلم القائمة على السبب والنتيجة، مهما كان وقع الحدث خطيراً باعتبارات الآخرين،فهم يقفون منه موقف العالم من تجربته في المختبر، هدفه أن تنجح هذه التجربة بكل ماأمكن من سبل، فلا يبخل عليها بأي شيء حتى لا تفشل. ولكن، كم عدد هؤلاء المخبَريّينالمؤرخين الذي يضعون أحداث الماضي على المشرحة ويحللونها؟ وهل هم موجودون أصلاً؟ معالجةنفسية ضرورية من أجل إيجاد هذه النوعية من المؤرخين لا بدّ من أن يخضعوا أنفسهم لمعالجةنفسية ذاتية، انطلاقاً من مقولة مارك بلوش في كتابه “أبولوجيا التاريخ أو مهنة المؤرخ،1949 ”، من أن “الأحداث التاريخية هي في الأساس وقائع نفسية”. وانطلاقاً من هنا، يمكنناتبيان أن أسباب الكراهية لا بل الرفض للتاريخ هي نفسية، وهي حالة كمن يكره العودة الىذكريات طفولته بسبب ما تحمله من آلام دفينة ومكبوتة تذكّر بماضٍ موجعوقاتم، أو كمن


يتجنّب النظر في المرآة ليتفادى رؤية جسده المكتنزوالذي خزن كل ما تناوله من أطعمة لم تحرق، فأصبحت هذه الذاكرة المادية المؤلمة لصاحبهامصدر إزعاج دائم،


يعالجها بسياسة النعامة التي تغمّس وجهها في الترابرفضاً لرؤية الواقع المرير، غير أن الضرر ما برح في تزايد مضطرد وسياسة النأي بالنفسعن الحقيقة لا جدوى منها ولا طائل. وهذا هو حال من أوكلوا كتابة التاريخ الحديث والمعاصرلوطننا ولأمّتنا. ومما لا شكّ


فيه أن هناك نيّة واضحة لا بل سياسة توجب كتابةالتاريخ في أفضل حالاته ولكن أدواتها غير متوفّرة لا بل مفقودة بالكامل. ومن أهم شروطكتابة التاريخ هو




وجود المؤرخ العالم والمحلل، المنهجي الرؤية الذييعتمد المنهج المقارن أساساً لعمله، مرتكزاً على منطق الأشياء، وهذا غير متوفّر البتة،ليس فقط بسبب عدم حيازته المنهج السليم والعلمي لكتابة التاريخ، بل والعائد أيضاً وبالدرجةالأولى لعدم جهوزيته النفسية




لمباشرة عمل كهذا، ومردّ ذلك الى الخوف والشك والريبةوالظنون والى ما هنالك من عواطف تختلج في صدره وتعطّل العقل والمنطق لديه. لذا فهوبحاجة للتخلص من كل هذه المؤثرات السلبية حتى ينجح في مهمته، ولكن أنّى له ذلك وهوجاهل هويته الفردية والجماعية؟


وإذا ما خضع هو لمعالجة نفسية تخلّصه من هذه العوائق،فهل يضمن الصحة النفسية لفريق عمله المساعد؟ وهل تكفي يد واحدة حتى يتم التصفيق للنجاحالمتوقع؟


ما هو التاريخ؟


في تحديد مختصر للتاريخ، نستعرض بعض تعريفات مؤرخينقدامى ومحدثين. يقول توثيديدوس المؤرخ اليوناني في مقدمة كتابه “حرب البيلوبونيز” إن“التاريخ هو اكتساب للأبد”. وقال أفلاطون إن التاريخ هو “القوة التي تقود العالم”.ويقول شيشرون في إحدى خطبه إن التاريخ هو “لمنع الأفعال التي أنجزها الإنسان من أنتمحى مع الزمن”؛ وعبّر باسكال بأسى عن تعريفه للتاريخ:


إن التاريخ لهو أصعبمن أصعب مأساة تراجيدية”؛ وقال كارل ماركس:” إن الناس لديهم تاريخهم الخاص، ولكنهملا يقومون به اعتباطياً بحسب الشروط


المتوفرة والتي أتت مباشرة موروثة من الماضي” ؛أما شومفور فعبّر قائلاً: “إن الغالبية العظمى من التاريخ ليست إلا سلسلة من الرعب”؛ويقول عالم التاريخ ميشليه: “التاريخ هو القيامة الكلية للماضي”؛ وعند روجيه غارودي- وهو من المدرسة الحديثة النافية


( التي تعيد النظرفي ما قيل في الأحداث التاريخية - فإن “السياسة هي التاريخ الذي هو في طور الحدوث”.إذن، تعددّت التعريفات للتاريخ باعتباره علماً واسع الأفق، بعيد الأهداف وشامل للنتاجالإنساني الطويل وخاصة الفكري ما هي شروط كتابة التاريخ؟


ولنستعن مرّة أخرى بأرباب التاريخ الذين يعتبرونمصادر ومناهج بحدّ ذاتها في هذا المضمار لمعرفة منهج كتابة التاريخ. يقول توثيديدوسفي “حرب البيلوبونيز” ) 1، 22 (: “أما بالنسبة للأحداث التي جرت، خلال هذه الحرب، فقدتجنّبت أن آخذ معلوماتي من أول شاهد وأن أثق أو أتكل على معلوماتي الشخصية، أكان بالنسبةللأحداث التي كنت أنا بنفسي شاهداً عليها أم بالنسبة لتلك التي نقلها الآخرون، بحيثبادرت في كل مرّة إلى التحقق الأكيد بقدر ما استطعت. ولم يكن هذا بالعمل السهل لأنهكان يحصل، أنه في كل حالة،


كان الشهود على الأحداث نفسها يعطون معلومات غيرمتوافقة مع ما أخرجه فريق آخر أو جبهة أخرى أو يقولون الأشياء بحسب ما رسخ في ذاكرتهمليس إلا”. فهل يستطيع توثيديدوس أو غيره كتابة تاريخ استناداً إلى هذه المعطيات المتضاربةالأهواء؟ وهل استطاع


غيره أن يعطينا منهجاً واضحاً لكتابة التاريخ؟“إن المؤرخ محكوم عليه سرد القصص. وبإمكانه أن يكدس ويصنّف في ملفات خاصة ما جمعه منمعلومات كما كان يفعل تلامذة هيزيوديوس الأغريقي؛ بمقدوره تجميع كل أنواع المعلوماتوالمعطيات التي تمتُّ للماضي بصلة والمتعلقة بالمجتمعات كما بالدول. غير أنه لا يصبحمؤرخاً إلاّ بعد عملية فرز كبيرة ومضنية لكل هذه المادة المتوفرة


لديه، أكانت تخبر عن أحداث أو عن وقائع حربية ومعاركأو أكانت تحلّل هذه الأحداث مستندة الى أمثلة ونماذج وإحصائيات دقيقة، أو أكانت تطرقالشؤون الاجتماعية أو تتطرّق لذهنية محدّدة الى آخره، فإن التاريخ يكمن ليس في الأحداثنفسها، بل في توليفها بما يخدم


المصلحة البشرية التي تحتويها المادة التاريخية.وكان توثيديدوس أول من لاحظ أن هناك طريقتين للمعالجة التاريخية، التاريخ القاسي والتاريخالحر.” هكذا عرّف دينيس روسل طريقة كتابة التاريخ. والسؤال: هل تقيّد الأقدمون بمنهجمعلّم التاريخ توثيديدوس وموضوعيته


التي تغنى أنه كان يعمل بها؟ وهل ننسى بوليبوس وتزويرهلتاريخ سوريا وتشويهه لسيرة الفينيقيين أصحاب الإمبراطورية العريقة التي سحقتها همجيةالرومان أسياده؟ وهل ننسى مؤرخي نيرون الذين كانوا يُقتلون إن لم يكتبوا ما يلائم جنونه؟وهل لنا أن نتغاضى


عن غيره من الأباطرة ودورهم السلبي في محو ذاكرةالشعوب؟ وهل لا زال الزمان يخرج إلى الوجود أمثال “فرجيل” اللاتيني صاحب ملحمة “الإنياذة”الشهيرة وقلمه المغرض بحق الفينيقيين وما نقله عنهم زوراً وبهتاناً وما نقله من تراثمشوّه لخدمة المشروع


الاستعماري الروماني الجديد، القائم على أنقاض أمجادسوريا ومستوطناتها في البحر الأبيض المتوسط؟ ألا يشبه هذا المزوّر للتاريخ كتبة التوراةالذين بنوا أمجاد دولة مزّيفة على ظهر تاريخ المشرق القديم وحضاراته




لألفية؟ ألم ينسب مثل هؤلاء الكتبة كل ما هو مجيدلهم وكل ما هو رذيل للأغيار؟ وألم يزل الى اليوم تاريخ الأمّة يزوّر على يد الممسكينبزمام الأمور وبرقاب المؤرخين والذين يبثّون الرعب في نفوسهم مانعين أي مجال لقول الحقيقةوالمجاهرة بها؟ وهل لكتاب التاريخ من مستقبل طالما أن يد الغول تمسك به وتتحكم بمضمونهوبما تمليه مصلحتها؟


ولكن، كفانا نعي أنفسنا ووضع اللوم على القوى المستعمرة،فإن أول شرط في كتابة التاريخ هو معرفة ذاتنا، ومن ثم تاريخنا وهو معرفة هويتنا. فهلمن أحد فقه حقيقة هويته؟ هنا مكن العلّة!








 


آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net