Tahawolat

إن معركة الوجود هي معركة
الحضارة بنفسها. وعبارة معركة تفيد المعنى بدقة لأن الصراع على البقاء يعادله الصراع على الإلغاء، بل هو متوازي معه، فبقاء فريق رهن بزوال فريق آخر وهي حلقة مفرغة تدور فيها البشرية منذ «قصة الخلق»


غزو الفضاء وبصمة المستقبل

  يطالعنا اليوم حدثان مهمان هما موت نيل أرمسترونغ عن عمر 82 سنة ونجاح مهمة النازا بإرسال روبوت الى المريخ، تحت إدارة العالم اللبناني شارل عشي. لا شك أن خطوة أرمسترونغ هي التي مهّدت لنجاح خطة النازا في الوصول الى المريخ وسعيها الى تحقيق حلم دولة بلغت قوتها حدّاً أنها لم تعد تكتفي بالأرض، بل تعدّتها الى الفضاء وهذا شأن الدولة القوية في كل زمان ومكان وهو أن تتخطى حدودها في كل الاتجاهات، تعبيراً عن قوتها وتقدّمها وتثبيتاً لهيبتها وهيمنتها. إنه السعي الى تبؤ المركز الأول  في السباق الى تخليد الاسم في الوجود. وهو سعي البشرية الدائب منذ بداية الخلق وقد تداولته كل قصص الخلق، إنه السعي الى الخلود. وبحسب نظرية داروين، فالبقاء دائماً للأقوى والقوة هي العنصر الفاصل في هذه المعركة. ولكن يبقى السؤال: ما هي هذه القوة؟ هل هي قوة البطش العسكرية؟ قوة الهمجية المدمرة والقاضية على الوجود أم قوة السلاح النووي الذي لا يبقي حتى أثراً بسيطاً للحياة ؟ ما هو السلاح الأمضى في معركة الوجود؟ والحقيقة هناك سلاحان لا سلاح واحد وهما سلاح الجهل وسلاح الفكر، الأول مدمّر والثاني مدمر أيضاً ولكن بطريقة بناءة وهنا المفارقة: فكيف لسلاح أن يكون بناءً؟ فإذا كان الجهل هو أقوى الأسلحة المدمِّرة للحضارة، حضارة الأخر ولكن أيضاً حضارة المعتدي نفسه ويهدد وجوده ويقضي عليه، لأن الجاهل أول من يدمر نفسه، تخيلوا مثلاً
كبسة زر طائشة لقنبلة ذرية، فماذا تكون عواقبها؟ إن سلاح الفكر هو على العكس تماماً، إذ أن مبدعه يسعى الى بقائه وبقاء الآخر معه وذلك بعد أن يكون قد قضى على الجهل قضاء تاماً وصارعه بأقصى ما أوتي من قوة ودمّره وأحلّ مكانه فكراً حضارياً بنّاءً يسعى الى خير البشر وتطورهم ورقيهم الفكري والحضاري والوجودي. إنه سلاح المحبة وهو الضامن الوحيد للخلود.
فكر ناجز وتام غير قابل لا للتغيير ولا للتعديل
  ولكن من مبدع هذا الفكر وما هي فعاليته وهل أنه ناجز وتام أم أنه عرضة للنقصان وحتى الى الزوال؟
  في الواقع، منذ أن سعى الانسان الى تطوير ذاته ومجتمعه، أي منذ العصور الما قبل تاريخية حيث لم تكن الكتابة قد أوجدت بعد، راح إنسان الكهوف يصور على جدرانها معتقداته وتطلعاته وأحلامه وكتب بلغة الصورة ما راوده من أفكار وهواجس وتخيلات أو عبّر، من خلال الصورة، عن طبيعته وبيئته وهذا التعبير هو خير دليل على إحساسه ووعيه بوجوده المادي، وكذلك المعنوي والفكري الذي يتخطى البشر، من خلاله، طبيعتهم الحيوانية الى الطبيعة الخلاقة والإنسانية. فطبع إنسان ما قبل التاريخ آثار يديه وقدميه في تربة الصلصال أو على حوافي المغاور وهكذا خلد أثره الذي من خلاله تعرّفنا عليه وأيقنّا وجوده ومراحل تطوره، فعرفنا أنه لم يكتف بالابداع المادي بل تخطّاه الى الابداع الفكري باختراعه أداة تخليد عبقرية، ألا وهي الكتابة، وكأن الصورة لم تعد تكفيه بل تعدّاها الى الرمز والرمز المشفّر المعقد الذي يضمن له قوته الفكرية واحتكاره المعرفة والعلوم، فكان تطور الكتابات من تصويرية(الألف الرابع ق.م.) الى مقطعية (الألف الثاني ق.م.) الى أبجدية (الألف الاول ق.م) وهذه الأخيرة، بخلاف سابقتيها، أدخلت  الإنسانية في النهج الديموقراطي في تعاطي الإنسان مع أخيه الإنسان، إذ فتحت لكل الأقوام السبيل الى المعرفة والثقافة وكان مبدعوها هم أنفسهم من أبدع الفكر البنّاء، أمضى سلاح وهو سلاح المحبة بين البشر والتسامح والإخاء المبني على التعليم والتنوير ونشر العلم والمعرفة والحق والجمال أينما كان.
  إنهم السوريون، سكان المشرق القديم! لقد بلغت بهم فلسفة الإرتقاء والسمو، منذ جلجامش وحتى المسيح ( راجع بهذا الصدد بحث د.عاطف خليل الحكيم: بيروت، طائر الفينيق والتنين»، دراسة في الفكر الديني القديم، في إطار «بيروت عاصمة عالمية للكتاب، بالتعاون مع وزارة الثقافة وحلقة الحوار الثقافي، بيروت، 2009، ص 277-326)، درجة لم تبلغه ولن تبلغها حضارة أبداً. لقد أنجزوا فكراً خالصاً، غير قابل للتغيير ولا للتعديل بأي شكل من الأشكال ولا يمكن خرقه بأي قوة كانت، ولكنه فكر يحتاج لقوة تسانده وتدعمه وتدفعه، ليس فقط من أجل إحيائه والمحافظة عليه، بل من أجل نشره. وهكذا فإن السلاح الذي استخدمه السوريون كان من أجل بناء الصرح الإنساني وليس من أجل تهديم الانسان والقوة البناءة وحدها كانت كفيلة أن
كان له ما كان، والدليل انتشاره في كل الفكر الإنساني وتغلبه على كل فكر آخر وكل فلسفة أخرى إن وجدا، وانصهار الكون في بوتقته. إنها قوة دولة قادرة أن تحمي مبادءها وإبدعاتها، إنها الدولة -الإمبراطورية السورية القديمة. ولست أدري إذا كانت ثمة رياح أو غبار سوف تغطي أو تزيل طبعة قدم أرمسترونغ على سطح القمر أو أن قوة أخرى سوف تمحيها، أما الأكيد فهو أن الفكر السوري خالد ولا يمكن محوه بأي طريقة من الطرق ما دام الإنسان إنساناً لأنه ماهية الإنسان نفسه وليس شيئاً آخر، وهو مبدأ اعتنقته كل الإنسانية ولم يعد حكراً على قوم أو أفراد أو جماعة، إنه ببساطة حرية الإنسان وكرامته ويتعلق بوجوده.

هذه آثارنا تدلّ علينا

  إن بترول العرب ما هو إلا وسيلة الغرب الاستعماري لضرب العرب بمال العرب أنفسهم، هذه هي كل أطماع الغرب الإستعماري التي طالما يُتحدث عنها. إنه مجرد وسيلة للاستعمار بيد لصوص الاستعمار وقراصنته وقد أوجدتهم دول عظمى من أجل ضمان وجودها منذ الرومان، مروراً ببريطانيا وقراصنة ملكتها وفرنسا ووصولاً الى الولايات المتحدة الأميركية. واليوم، يستمر نهب ثروات الشعوب العربية باسم ما يسمى استعمارياً بالربيع العربي من أجل دعم الإرهاب والتطرّف لصالح المستعمر الأميركي الذي اخترع الإرهاب ويموّله من جيوب العرب لضرب العرب، بحسب شعار السي أي إي: «ليس المهم من يحمل القنبلة المهم على من تقع!».
  ولطالما ناقش النقاد مسألة النفط هذه وأطماع الغرب فيها واليوم يتحدثون عن الغاز وبعضهم الآخر عن الماء وغيرهم عن أي مصدر طاقة يطمع الغرب الاستعماري في الاستيلاء عليه في أرض العرب. ولكن هل من أحد تنبّه الى مسألة الفكر والحضارة والإبداع  وأطماع الغرب الإستعماري فيها، ليس لامتلاكها بل لتدميرها؟ هل من باحث أدرك أن هدف الغرب الإستعماري هو أولاً وأخيراً القضاء على ثقافتنا وحضارتنا وبالتالي وجودنا وهويتنا إنطلاقاً من مبدأ «إذا أردت أن تقضي على أمة فاقضٍ على ثقافتها»؟ هل فقهوا معنى لهذا المأثر العظيم للقائد سعادة الذي لم يدرك ولم يتدارك أحدٌ غيره، في زمنه أو بعده، أبعاد ما يصبو إليه من مقولته الشهيرة هذه وما يحذِّر منه شعبه؟ وإن لم يفقهوا سعادة وفكره الحضاري القومي وهمّه الوطني (باعتبار الجهلة كلهم، وهم كثر يرفضون هذا الفكر النهضوي لمجرد الرفض والمعارضة!)، أفلم يقرأوا وهم الباحثون الأفذاذ مؤرخي الحضارة العربية وعلى رأسهم وربما آخرهم ابن خلدون في مقدمته الشهيرة والتي طالما يستشهد مثقفو العرب بمضامينها الاجتماعية وغيرها من الشؤون التاريخية؟ فهل قرأوا أن ابن خلدون، في عرضه للتطور في المجتمع وبحثه في العمران، قد ذكر ما يسمى «بالمتخلفات» وهي الآثار التي تبقى بعد زوال العهد الذي نشأت فيه، فتكون رواسب لأحوال قديمة ومنها نستخلص العادات والتقاليد، وأنه على، حدّ تعبيره، تكثر الآثار الضخمة في الأمم العريقة في حضارتها ومجتمعها الراقيين وتقلّ الى درجة الصفر في غير ذلك وأن كل أثر يدلّ على ماهية الشعب الذي حققه؟
  وهذه آثارنا تدلّ علينا. إنها ضخمة، إنها عريقة وإنها ماثلة للعيون تتحدى الزمن والبشر والطبيعة... فإذا كانت آثار بعلبك، على سبيل المثال لا الحصر، بهذه الضخامة اليوم، فكيف كانت في الأساس قبل الدمار الذي حلّ بها؟ والشواهد المادية للحضارة السورية تنتشر في متاحف العالم بموجوداتها التي لا تقدر بثمن من أدوات عظمية وحجرية ومعدنية وفخارية تعود الى الإنسان الأول، مروراً بما ابتدعته عقول وأيدي أبناء سوريا من صناعات وفنون، وصولاً الى الرقم والتماثيل والأثاث والزجاجيات والخزفيات والمسكوكات واللوحات والمنحوتات الناتئة والنافرة الى النواويس والآنية على أنواعها الى الحلي... وانتهاء بالمخطوطات واللفائف والمدوّنات التي احتوت فكرهم وتاريخ علومهم وإبداعاتهم،إلخ... فكيف لا تدل على عظمة أجدادنا الذين أرادوا ثقافتهم منيعة وعملوا جاهدين حتى تخلد ومن خلالها يخلدون؟ لقد نقشوا الصخور الضخمة ووسموها بأسمائهم فكانوا من الذكاء أن خلدوا على الحجر وجودهم وهو ما لن تستطيعه أي وسيلة تكنولوجية اليوم وحتى لو كانت الأعظم والأكثر عبقرية، لأنها تعمل على الطاقة فإذا اضمحلت الطاقة فهل يضمحل ويمحى أثر مبتكريها؟ وحتى قدم أرمسترونغ على سطح القمر، فإذا لم تتوفر الطاقة للذهاب لرؤيتها، فتكون عبثاً ونكرة لأن ما من أحد يستطيع رؤيتها أو التأكد من صحة وجودها إذا ما صدف وعلم بشأنها في الأجيال المقبلة!
  إنما أجدادنا قد فهموا أهمية الوجود والاستمرار وأن الإنسان يعيش بذكراه وليس بشيء آخر، فمن امتلك الذاكرة امتلك الوجود، أما ما يقال عن النسيان وإنه من حسن الحظ أن الانسان ينسى (الإنسان نسى)، وما ينصح به، خاصة علماء النفس، مشجعو الغريزة الحيوانية منذ زعيمهم المهدم للسمو الإنساني والرقي، فرويد، من رمي الماضي وذكرياته الى دون رجعة وكأن كل المسائل عاطفة وحزن وقلوب مكسّرة وخيبات جنسية وعجز وهستيريا فردية وجماعية، فما هو إلا محو للماضي وللذاكرة وهو هذيان وضرب من ضروب التخريب. فهل نسي أعداؤنا، ومنهم فرويد نفسه، ذاكرتهم وتاريخهم؟ أبداً حتى أنهم ما برحوا يصطنعون تاريخاً مزيفاً للبرهان عن وجود حضاري مزعوم لهم في التاريخ، فحبذا لو تعلمنا! وما فتيء العرب يتغنون بأنهم ينسون بسرعة ويبدأون من جديد ويضربون المثل بطائر الفينيق الذي هو منهم براء فهو يموت ويقوم من أجل مجد أكبر مما كان عليه من قبل، يجدده كل فترة للتطور الدائم، أما هم، وبلسان شعرائهم وما أكثرهم! فعلى أي أساس ينهضون؟ على أساس الخرافة والكذب على النفس وانتهاج سياسة النعامة وتعليل النفس أن قوتهم في ضعفهم، متجاهلين أنهم ما زالوا ينامون نوم
أهل الكهف منذ هزيمة الأمة سنة 1516. والمطلوب بإلحاح اليوم وأكثر من أي يوم مضى في معركة المصير والوجود التذكّر ووضع التاريخ نصب أعيننا حتى نفقه ما هو مستقبلنا وماذا ينتظرنا وما هو مصيرنا الذي يتحدد عبر قراءة الماضي والعودة الى التاريخ.

الفكر صناعة سورية

  ولعل الاكتشاف الأهم في مسيرة الإنسان أنه وعى باكراً، في هذا المشرق القديم، أي في سوريا، فلسفة وجوده، فمنذ جلجامش الذي ذهب في رحلته الشهيرة، بحسب ما ورد في النقوش السومرية (الألف الرابع ق.م) والأكدية والبابلية (الألف الثاني ق.م.) والأشورية والفينيقية (الألف الأول ق.م)، ولاحقاً في المخطوطات السريانية والعربية والتي نقلت الى الفارسية والسنسكريتية الهندية (من القرن الثالث ميلادي الى القرون الوسطى وعصر النهضة)، للبحث عن نبتة  الخلود، كانت النتيجة الخيبة الكبرى التي انتهى إليها في اكتشافه، في آخر المطاف وبعد المشقات التي عاناها خلال مغامراته وترحاله، أن الخلود ليس للبشر وإنما هو حكراً على الآلهة ومصير الإنسان الحتمي هو الموت والفناء وأن الخلود للإنسان لا يتم إلا بالأعمال الصالحة والذكرى الطيبة. فكانت نشأة فلسفة المحبة وبذورها الأولى والتي سوف ترتقي من جلجامش الى أدونيس الى السيد المسيح الى الرسول العربي، مؤسس الإمبراطورية العربية، حتى تصبح القوة الحضارية الأزلية (راجع أيضاً بحث د.عاطف خليل الحكيم: بيروت، طائر الفينيق والتنين»، دراسة في الفكر الديني القديم، في إطار «بيروت عاصمة عالمية للكتاب، بالتعاون مع وزارة الثقافة وحلقة الحوار الثقافي، بيروت، 2009، ص 277-326). وهكذا هي الحكاية منذ جلجامش الذي صارع قوى الشر من أجل البقاء والخلود. إنه باختصار صراع الخير والشر والذي تناقلته كل الفلسفات عند كل الشعوب وفي كل الأزمان. هذه الجدلية الحتمية عند الإنسان تعبّر عن ماهيته وطبيعته التي لا يمكن له أن يتخطاها إلا بالسمو والرقي وأداته المحبة والسلام ليس إلا، فلا التحنيط قديماً ولا التناسخ حديثاً يمكنهما استنطاقه، وحدها أعماله هي التي تتحدث عنه وتخلّده الى الأبد.

التدمير، وسيلة لإلغاء الهوية فاشلة

  وبمقابل الخير والمحبة هناك تيار الشر الذي أبداً يسعى الى إلغاء الآخر والقضاء على وجوده ويتمثل بداية في «قصة الخلق» بصراع الأخوة الأعداء الذي بقي لنا شاهد عنه في التوراة، ناقلة الفكر السوري القديم، صراع قابيل وهابيل والجريمة الأولى في التاريخ كما يقال. هي باختصار قصة إلغاء الآخر من أجل التفرّد في البقاء، مردّها الى السوء الكامن في البشر وكأن الأرض لا تتسع لاثنين معاً (للأسف لم تتسن لهم الفرصة آنذاك أن يستمعوا الى هيلاري كلينتون وهي تتوجّه للصينيين اليوم بقولها إن المحيطات في آسيا تتسع لأميركا وللصين معاً، فلم التزاحم؟ وكأني بها تقول لهم: «تحالفوا معنا اليوم حتى نقضي عليكم غداً بعد إرهاقكم بالتسليح وإضعافكم»؟)
  دائماً يسعى الإنسان الحضاري، صاحب الفكر والإبداع  الى البناء والرقي وأبداً يسعى صاحب النهج الهمجي الى تهديم تلك الإنجازات الحضارية والفكرية والروحية السامية، ليعود بالبشر الى الحضيض والفناء. لقد مرّ الغزاة بوحشيتهم على أرضنا حتى أنه لا يتسع المجال هنا  لذكر ولو بعض أسماء هؤلاء الغزاة الذين تضافرت جهودهم، على مر السنين، للقضاء على سوريا، فمن الفراعنة والفرس واليونان والرومان والتتر والمغول والإفرنجة الذين حملوا رمز الصليب زوراً وبهتاناً باسم «شهود يهوه»، الى البرجيين والأتراك والعثمانيين والغرب الإستعماري اليوم، كلهم مرّوا ودمروا تراثنا وإرثنا المعماري والثقافي وأحرقوا مكتباتنا، من يوليوس قيصر وحرقه لمكتبة الإسكندرية (48 ق.م)، حتى جينكيزخان الذي وحّد القبائل المغولية (1215) وعدّها لغزو سوريا والاستيلاء على عواصمها ابتداءً ببغداد، واضعاً حدّاً لخلافتها العباسية الماجنة، الضاربة عرض الحائط بالهوية العربية وإمبراطوريتها العظيمة التي أسسها أجدادنا بدمائهم، هذه الخلافة العباسية الخرفة التي انتهت بموت آخر الخلفاء العباسيين، المعتصم، الذي مُثل بجثته (تماماً كما فعل التتر الجدد بجثة معمر القذافي اليوم، فهم همجيون ولكنهم يقرأون التاريخ من أجل مصالحهم!) وأحرقت بغداد ومكتباتها و»بيت الحكمة» فيها على يد هولاكو وجنده (10 شباط 1258)  (تماماً كما أحرق الهمج الجدد اليوم متاحفها وبيوت العلم والمخطوطات فيها) وسنة 1401، إحتل تيمورلنك حلب ومن ثم دمر سوريا وميراثها المعماري والفكري...
  فلماذا يدمرون وما هو مرماهم وهدفهم من ذلك؟ لماذا سوريا ودائماً سوريا؟ فإذا كان العالم الأثري بارو ( Parrot) قد صرح منذ أقل من قرن أن على المرء أن يكون له وطنان بلده الأم وسوريا، فلماذا تدمّر ولماذا الغرب تحديداً يسعى لمحوها عن خارطة الوجود؟ بالتأكيد هي لن تزول جغرافياً، رغم قلع جبالها وتلويث أرضها، ولكن ماذا يدمرون منها؟ إنه فكرها الماثل في حضارتها ومن خلاله استمرار وجود شعبها وهويته. إنه دائماً صراع شرق غرب. 
  لقد حسمت سوريا أمرها وقالت كلمتها الأخيرة، في معركة الوجود، أن أحبوا بعضكم البعض والسلام عليكم، بينما ما زال الغرب يتخبط خبط عشواء بكل ما أوتي من ذكاء ودهاء ومكر وخداع وتقنية وسلاح وعملاء، حتى ليكاد يدمر نفسه، فهو تارة يسوّق الغرائز والقرصنة والأفلام والروايات التي عُبئت بفلسفة الدمار التي ينتهجها من خلال تسويقه مناهج العنف والإباحية والدم والقتل الخ... يدمرون وينشرون الخراب والفناء ويسوّقون لأبوكاليبس قادم ينتهي معه العالم الى الأبد، وهو دينهم وديدنهم، ثم يدعون نشر السلام والمحبة والديموقراطية والحوار والاعتراف بالآخر الى ما هنالك من فضائل تسوّقها جمعياتهم الخيرية على كثرة
أسمائها وتوجهاتها وكذلك أصحاب الجلابيب السود، عملاؤهم... ومن دواعي السخرية أن أهم جائزة في العالم اليوم هي جائزة نوبل للسلام، فتصوروا هذه المهزلة: مخترع الدمار يُوضع اسمه على جائزة للسلام ويصدق العالم هذه الحيلة، فكيف ذلك؟ إنه ببساطة حق يراد به باطل! فهذا السلام هدفه الخفي الدمار، فالجائزة تمنح الى من يخرب بلاده ويتعامل ضدها ويضع يده
بيد المحتل والمستعمر ويعمل لمصلحته، تماماً مثل جوائز المغنيين التي تمنح الى الأقزام ومهدمي الفن من قبل شركات التسويق والتسويف العالمية.
  والسؤال: هل حركة الدمار نجحت في التاريخ أو سوف تنجح مستقبلاً؟ هل ألغت وجود سوريا؟ والجواب: لا لأن الوجود مرتبط بالوجود الفكري الذي أرسى دعائمه دعاة الفكر السوريون، بحيث أنجزوا فكراً ثابتاً لا يمكن لأحد تعديله البتة، فهو غير قابل للتغيير لأنه تام وناجز وكامل، هو فكر المحبة والسلام الذي يعم فلسفة العالم الأخلاقية التي تسعى الى الرقي والسمو بالإنسان. ودليلنا هو تبنّي أداة الشر نفسها لهذا الفكر وإلا لو فعل المدمر العكس لدمّر نفسه قبل غيره. وباختصار: لو جاء الغرب الإستعماري يقول علانية: سأدمركم! فهل من أحد يرضى؟ لا أحد يرضى بطبيعة الحال، باسثناء المرضى والجهلة وعميان البصيرة والمخدّرين وهم كثر للأسف في شعبنا اليوم! بينما لو جاء يقول: أحبكم والسلام لكم وعليكم، فهل ننصاع؟ بالتأكيد والكون كله معنا! وبهذا يكون، حتى أشرس المعتدين، قد انصهر في قالب الفكر السوري الذي انصهر فيه قبله كل الغزاة ويكون بذلك قد عاد الى سوريته الأولى، الى مبدأ المحبة الذي لا زوال له، ومن هنا خلود سوريا وأزليتها بفضل هذه القوة التي لا تضاهيها قوة، قوة المحبة التي ترزح تحتها القوى الزائفة كلها.
أستاذة الآثار والفكر القديم في الجامعة اللبنانية
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net