Tahawolat

اللوحة: مشهد طبيعي عند الغسق - فنسنت فان كوخ

في الأجزاء (1ـ4) اقتباس عن أساطير نارت الشركسية بتصرف واسع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


قبل اثنتي عشرة ألف سنةٍ حين كان الجليد يغطّي كلَّ الأرض، كانت ستناي الفائقة الجمال غافيةً في سرير النهر الذي يجري تحتَ الجليد..


وكان الراعي الشابُّ متجمّداً على قمّة الجبلِ مع كلبه وعنزاته المئة، بين أشجار الصنوبر البريّ..


وحينَ أذنَ إله الشمس للشمس أن تُعاودَ الشروق، سطعتْ في أول الضحى، وبدأتْ أغصان الصنوبرِ تتخفّفُ من أثقالها وترتجف.. ثم ذاب الجليد عن رموش الراعي ففتح عينيه، ونشر للشمس أصابعه العشر كأغصان شجرة جوزٍ يابسة، سرى دفء الدماءِ في أوصاله، وحرّك أصابعه فتحرّكت، وراح يعزف على ناي القصب.. ويرقص وحده، حتى استفاق كلبه وراح يراقصه واقفاً على قائمتيه.. وبدأت عنزات الراعي تستيقظنَ عنزةً تلو عنزة، وترعينَ بين أشجار الصنوبر البرّي.


ثم تكسّر الجليد الذي يغطّي سطح النهر، فأحّست ستناي الفائقة الجمال بالدفء، وطفتْ عاريةً إلى السطح، كان شعرها كقطعة من الليل تعوم في نهرٍ من النور المقدّس، وحين نبرتْ رأسها فوق الماء سمعَ الراعي صوتَ انفجارٍ قويّ فأوقف العزف، وبقي كلبه واقفاً على قائمتيه فاغراً فاه بلا حراك..


وحين تمخّض النهر عن نهديها ارتعدت مفاصل الراعي، وأصاب وجهه شيءٌ من رذاذٍ شهيّ له نكهةُ البُخور المحروق..


تابع الراعي عزفه وصار كلبه يدور على قائمة واحدة، ويمدُّ لسانه، بينما كانت عينا الراعي معلّقتان هناك..


ستناي الفائقة الجمال (2(


وحين علا جسدُ ستناي الناصع السحر، واقتربتْ من الضفّةِ تخوض في الماء الرقيق بساقيها الملآنتين الصقيلتين، ريّانةَ المخلخلِ، مدوّرةَ الكعبينِ، ليّنةَ القدمينِ كأشهى ما تكونُ النساء.. وقعَ الراعي على ظهره مغشيّاً عليه، وطار ماء شهوته من قمّة الجبل، وحطّ على الصخرة التي جلست ستناي قربها تتنشّفُ بنور الضحى، ففزعتْ ستناي حين علمتْ أنّ هناك من يراها عاريةً، وتوارت خلف شجرةٍ عظيمة الجذع وهي خجلانة..


ولمّا صحا، حَزِنَ الراعي، وقال في نفسه، هذه تكون ستناي العظيمة الموصوفة الجمال، وماكان ينبغي لراعٍ مثلي أن يقتحم عليها خلوتها على ضفة النهر.. وقام إلى عنزته الشهباء (أحبّ عنزاته إلى قلبه) فقال لها:

أنت اليومَ أقدّمكِ قرباناً للسيدة العظيمة، علّها تغفر لي، فمدّت العنزة رأسها قوق صخرةٍ مسطحةٍ، فذبحها واتخذ لحمها شواءً على الحطب، ودبغَ جلدها بأوراق الصنوبر حتى صار زكيَّ الرائحة، وانحدر يمشي إلى الخلف، كي لايخدش حياء ستناي العارية..


ودونَ أن يلتفتَ وضعَ صرّتين عند جذع الشجرة، ونادى:

ـ هذا لحم عنزتي الشهباء قرباناً لغفرانك ياستناي العظيمة، وهذا جلدها المدبوغ به تأتزرين، فابتهلي إلى الآلهة تغفر لي خطيئتي .


وتقبّلت ستناي قربان الراعي، وغفرت له، فأكلتْ من الشواء وسترت جسدها بجلد العنزة الشهباء، وحين غابت الشمس، رأت ستناي الصخرة التي وقعت عليها شهوة الراعي تتوهّج بلونٍ برتقالي، ففزعت من الفضيحة وغطّت الحجر بأوراق شجر الجوز اليابسة المندّاة برطوبة المساء.


ثم اتخذت ستناي من جذوع أشجار الغابة وأغصانها كوخاً واسعاً فوق تلك الصخرة ونامت في جوارها.. وكان النهر يجري بسلامٍ بلا جليد..


ستناي الفائقة الجمال (3(


بعد تسعة أشهر، وبينما ستناي في قيلولة الظهيرة سمعتْ هسيساً، وعبقَ الدخان الأبيض في الكوخ، كانت أوراق الجوز تتفحّم بغير لهبٍ فوق الحجرالذي بدا أكبر من ذي قبل ومال لونه إلى الأحمر الناريّ، فأخذت ستناي دلوها وصارت تسكبُ من ماء النهر على بطن الحجر، وانشقَّت الصخرةُ إلى نصفين عن مولود يتلظّى كجمر المواقد، فصعدت ستناي إلى أعلى شجرة الجوز الكبيرة ونادتْ ملءَ الجبال والوديان:


ـ يا إله الحديد والنار!..

ـ لبيكِ يا أمّ النارتيين ياسيّدةَ الجميلات، قال إله الحديد (لَبَش) وحضر في الحال.

ولم يسألها ماتريدُ حين رأى المولود يتوهّج كجمر المواقد، التقطه بكمّاشته العملاقة من ركبتيه وغطّسه في النهر سبعَ مرّاتٍ، وقال لها:


ـ هذا الصبي يكون اسمه (ساوسروقة) فارس النارتيين البطل الذي يطرد أتباع العفريت الغزاة من كلّ ودياننا وجبالنا.. وهو الآن قويٌّ كالفولاذ لاتخرقه السهامُ، ولايتغلّب عليه إلا من يصيبه في ركبتيه حيثُ الكمّاشةُ كانت تمنع الماء من تصليبهما..


وظلّت مياه النهر تغلي سبعةَ أيامٍ وسبعَ ليالٍ، بينما كانت فلقتا الحجر تبردان وتنكمشان، واستقر حالهما على هيئةِ ثديين عظيمين، كان ساوسروقة يغفو ملتقماً حلمةَ أمّه الحجر يرضع منها قسوةَ الفرسان ويتشرّب جلده من حضن ستناي النبَلَ والشهامة.. والشرف.


وحينَ شبَّ ساوسروقة قال النارتيون هو ذا ابن السيدة ستناي، تسري في عروقه دماء مقدّسةٌ، لأنّنا لانعرف زوجاً من البشر لستناي، وهي أرفع شأناً من البغاء، وكانت ستناي الفائقة الجمال وإله الحديد لَبَش يعرفان، ولا يُفصحان..


ستناي الفائقة الجمال (4(


وبينما كان مستلقياً وقت العصر وستناي تفلح شعر رأسه بأصابعها، وتحكي له عن الظلم الذي لحق بالنارتيين، أحسَّ ساوسروقة برغبةٍ لاتشبه رغبة الأبناء، وسمع صوتَ الراعي يستغيث على قمّة الجبل فركب الحصان (تَخونجي) العجوز ذي الثلاث قوائم، ركبه بلا سرجٍ وصعدَ الجبل، فطرد قاطعي أشجار الصنوبر ولصوص الماعز، وقتل منهم رجالاً كثيرين، وأخذ الجذوع التي قطعوها ربطها على زلاجةٍ وسحبها الحصان إلى كوخ ستناي..


ـ ماذا تصنعُ بهذه الجذوع (قالت ستناي(

ـ سأجعل الكوخ أوسع، وأجعل فيه حجرتين وخباءً لك تستحمّين فيه (قال ساوسروقة(.


فأدركت ستناي أن ساوسروقة لم يعد طفلاً، وقالت:


ـ هو ذا حصاني (تَخونجي) أقدّمه هديةً لك أيها الفارس، وهذا سيفٌ مرهفٌ صنعه إله الحديد (لَبش) يوم ولادتك، وانطلقْ أنت الآن على رأس فرسان النارتيين الشجعان لطرد الغرباء من جبالنا وودياننا.. أمّا الكوخ فدعه لي أنا سأفعل ماترغب ريثما تعود منتصراً..


وبعد مئةٍ شروقٍ ومئةِ غروب، رجع ساوسروقة ظافراً يسوق قطيعاً من الظباء والآيائل، بعد أن طرد الغرباء إلى ماوراء غروب الشمس، واستقبلت نساء النارتيين الفرسان العائدين بالزغاريد، ونثرنَ ورق الغار على ساوسروقة الفارس العظيم.


حدث ذلك بينما كانت ستناي الفائقة الجمال تستحمُّ في خبائها، إذْ دخل ساوسروقة فناء الكوخ الكبير..

 

ستناي الفائقة الجمال (5)


انتهى الاقتباس..


كنتٌ جالساً على كرسيٍّ صغير في (دكّانها) الفقيرة، بينما كانتْ شكيبةُ الأرملة ترتّبُ أقراص البندورة في صندوقٍ من الفلّين الأبيض، وتستمع إلى حكاية ستناي الفائقة الجمال، في ظهيرة إحدى الجُمَع، وحينَ انشغلتْ بتلبية طلب طفلةٍ أرسلتْها أمّها للشراء، تركتها ومضيتُ إلى غرفتي المجاورة.


منذ أشهر استأجرتُ هذه الغرفة المعزولة بمدخل خاص في الدار العربية المتناثرة الغرَف التي ورثتها شكيبة عن زوجها الذي أنهكته الأمراض وأفقر أسرته بأثمان العلاج قبل أن يرحل، تاركاً لشكيبة ثلاث بناتٍ صغيرات أكبرهن اليوم في الصف التاسع، مع قائمةٍ من الديون بعضها تمَّ شطبها من الدائنين إحساناً، وبعضها تسدّده شكيبة على أقساط.. بعد أن اتخذت من الغرفة المطلّة على الشارع محلاً لبيع الخضروات والفاكهة والسجائر وبعض الحلوى والمنظفات.. وحاجات أخرى لايربط فيما بينها رابط، فقد تجد زوجَ أحذيةٍ من البلاستيك المطبوخ، بجوار لعبة رخيصة، وفوقهما سلّة بيض بلديّ محفوظ بتبن الشعير.


كنتُ طالباً في السنة الثانية بكلية الآداب، وكانت شكيبة الأرملة قد جاوزت سقفَ الأربعين بسنين محتفظةً بحظٍّ وفير من رواء الشباب، وإرادة التحدّي التي لاتلين، وصبر الأمّهات، وطهر الصابرات.. لم يُفسد عليها بياض جذور مقدّمة شعرها المفروق جمالها الفطريّ الذي كان يعبّر عن نفسه بجاذبية وأنوثة طاغية رغم إهمالها كلّ زينةٍ تتخذها نساء جيلها، ولم تصبغ شعرها يوماً..


كانت شكيبةُ طويلةَ القامةِ مكتنزةً بارزة الصدر، بشرتها حنطيةٌ ضاربةٌ إلى البياض، وساقاها كساقي ستناي الفائقة السحر صقيلتين، ملآنتين، تبدوان تحت تنوّرتها السوداء المرتفعة عن قدميها شبراً واحداً والتي نادراً مارأيتها تلبس غيرها، كعمودين من رخامٍ ليّن... ملفوفتين على قصبتين باستقامةِ رمح.


وكان أكثر ما يؤلمني بادئ الأمر أنها كلّما ألقيتُ عليها تحية الصباح في طريقي إلى الجامعة تُتبع ردّ السلام بدعائها الصادق: الله ينوّر عقلك ياخالتي.


ستناي الفائقة الجمال (6)


بمرور الوقت كفّت شكيبة عن استخدام (ياخالتي) وصارت تناديني باسمي المجرّد، كنتُ سعيداً بذلك، عرفتُ أنّها حصلت على الثانوية وسجّلت في قسم التاريخ، ولكنها لم تتابع.. تزوّجت، وزارت أطبّاء ومقامات أولياء، ونذرت نذوراً على مدى سبع سنواتٍ من زواجها حتى أخصب رحمها بابنتها البكر( رزان) وبعد سنتين بالتوأم (حلا وعُلا).


ثمّ صيّرها القدر ممرضةً لزوجها الذي يعمل بلا ربّ عمل، يبيع جهده لمن يرغب، ويحلم بالصبيّ الذي سيحمل اسمه.. حفظتْ أنواع أدويةٍ كثيرة، وتأثيراتها الجانبية، فهذا يسكّن وذاك يعالج، وثالث يخفّف من أضرار الأولين.. وصارت تجيد قراءة الصور الشعاعية، ولاأدري لماذا تحتفظ تحت مفرش الأريكة بالمغلفات الصفراء وصور الأشعة وأوراق رسم القلب.. والوصفات كلّها.. هي اليوم مرجعٌ يسألها أهل الحيّ عن أحسن طبيب في هذا الاختصاص أوذاك.. وكثيراً ماتجود بخبرتها بلا سؤال.


رافقت المرض والسهر لسنين تكفي ليحفظ قلبها المخلص كلّ وصفات الطبّ الشعبي، وكلَّ عناوين المشافي والعيادات، ويتقنَ كيف يساهرُ الألم، وكيف يستخدم فرشة الهواء لتخفيف وجع تقرّحات جسدٍ لايقوم، ولاينام.. إلا لماماً.


كلّ هذا لم يكن يشغلها عن تمشيط شعر بناتها في الصباح، ولفّ عرائس اللبنة والزعتر، وتوديعهن بالوصايا والقبلات، وتشييعيهن بنظراتِ الحماية حتى ينعطفن إلى شارع المدارس.

قلتُ لها ذات إشفاق:

ـ عليكِ أن تتخلصي من هذه الملفّات الموجعة، ومن رُزم (الكروت) الملوّنة بأسماء الأطباء وأرقام هواتفهم.. فقالت:


ـ علّمتني الحياةُ أنَّنا لابدَّ أن نندمَ يوماً على شيءٍ رميناه وتخلصّنا منه. ونسأل أنفسنا لمَ فعلنا ذلك؟! لاترمِ شيئاً وهبته لك الحياةَ مهما كان مؤلماً. لاترمِه.. كي لاتخدعكَ الذاكرةُ ذات حنينٍ.. حنّط أحزانك واتركها في متحف الحياة.. تلك الملفّات تدوايني من ألمٍ أشدّ وأفدح.. إذا نسيتُ حجم الألم والعذاب الذي قاساه وقاسيناه معه سأبكي مجدّداً.. حين أفتّش فيها أدعو لروحه بالراحة بلا بكاء.. لقد استراح.


ستناي الفائقة الجمال (7)


في الصباح تكون خضروات شكيبة نديةً طازجة، أوصيها في طريق الذهاب أن ترفع لي حصّةً منها، وفي طريق الإياب أدفع، وتناولني أكياساً صغيرةً آوي بها إلى غرفتي.


مع مرور الأيام حفظتْ جدول محاضراتي، ومواعيد رجوعي، فصرتُ أجدُ الفاصولياء مقطّعة، والخيار مغسولاً .


ومع مرور الأسابيع صارت رزان تأتيني بسكبةٍ مما طبخته أمّها، وهذا اقتضى فكّ الحظر عن باب الحديد الخلفي لغرفتي، كي لاتضطر للخروج ومعاودة الدخول من مدخل غرفتي الخاص.. ذلك الباب الذي يُفضي إلى بهو الدار وصولاً إلى الغرفتين اللتين تسكنهما شكيبة والبنات، يفصل بين الغرفتين المتقابلتين مستطيل مفتوح، يؤدي من الداخل إلى المطبخ. 


وقعتُ تحتَ حملٍ ثقيل محرج، إذْ كيف أدفع ثمن سكبةٍ مطبوخة؟!، خصّصتُ وقتاً للبنات الثلاثة أكون فيه مدرّساً أساعدهن في إنجاز الواجبات المدرسية، وأشتري لهنَّ أقلاماً وورقاً ملوّناً.. قالت شكيبة:


ـ طعام أربعة يكفي لخمسة، لاتحمّل نفسّكَ حَرَجاً لاداعي له.

كنّا على أبواب الشتاء، بعد إجازة قصيرة في القرية، كانت أمّي تصرُّ في أكياس من القماش الأبيض تشكيلةً من البرغل والعدس المجروش والكشك، وراحت تشرح لي كيف أطبخ الكشك بلحم الدجاج لعلمها بولعي بتلك الأكلة.. ابتسمتُ.. وحكيتُ لها قصّة شكيبة صاحبة البيت والطبخ.. دعتْ لها، وفتحت الأكياس وزادتها ضعفين أوثلاثة، وزادت عليها زبيباً ولوزاً.. ومن كلّ مايحتويه بيت المونة الريفي المزدحم بالخير.. وحمّلتني سلامها وامتنانها لأم رزان..


صار لي أمّ هنا وأخرى هناك، ولكنَّ أمّ المدينة كانت برائحة الدرّاق، وكان هذا مادفعني لأحكي لها عن ستناي الفائقة الجمال، وساوسروقة المولود من جوف حجر.


ستناي الفائقة الجمال (8)


بدأت رزانُ تسشور شعرها قبل أن تأتي في المساء، تتعمّد أن تصل قبل أختيها، أوتتأخر بعدهما، ومرّةً رسمتْ على الكتاب قلباً يخترقه سهمُ الحبّ ويدميه، وكتبت عند رأسه الحرف الأول من اسمي.. تجاهلت،قلت لشكيبة:


ـ لاتقلقي، أمانة.. صار بيننا خبز وملح.

ـ لستُ قلقةً منك، بل عليها، لاتزال طفلة، تعال أنت، هنا سنكون كلّنا لن تجرؤ على حركات كهذه..

(في المساء التالي قلتُ لشكيبة، مُدّعياً، على مسمع بناتها الثلاث:)

ـ سأدعو زميلتي على فنجان قهوة، لتعطيني رأيك إن كانت حلوة.

وبعد يومين وجدتُ رسالة غرام بدائية في كتاب رزان، من شاب اسمه عاصم، قرأتها، كان واضحاً لي أنّها كُتبت بخط رزان، أعجبني انتقامها، ووجدتها فرصةً لتثبيتها بعيداً عنّي، قلتُ لها:

ـ عادي الحبّ ليس حراماً، المهم ما نغلط.

فاستراحتْ البنيّة لأنّني صدقت، وأكلت الطعم.


كان إبراهيم مستودع سرّي، حكيتُ له، قال لي:

ـ يامجذوب، اترك الصغيرة يتعلّق قلبها بك، ريثما تتخرج وتوضّب أمورك تكون قد أوشكت على التخرّج في الجامعة.. البنت حلوة، ماذا ستسفيد من مهارشة الأم بحكاياتك السخيفة؟

ـ أحبّها يا إبراهيم، والله أحبّها..

ـ (مبتسماً باستهزاء) تحبّها يا (أوديب الملك) بعمر أمّك مجنون أنت!

ـ بلا أوديب بلا بطّيخ.. الحبّ عابرٌ للزمن.. هو ينتمي للأمكنة وحسب.


استراحت شكيبة لشهامتي مع الصغيرة، حين رجعتُ كانت قد صبغت شعرها لأوّل مرّةٍ بلون الليل، وعلّقت قرطين فضّيين، وغيّرت تنوّرتها السوداء بأخرى ملوّنة..استبقتْ أي تعليقٍ محتمل منّي على جديدها وقالت بحياء الهارب من فعلته:


ـ وماذا بعدَ أن دخل ساوسروقة الكوخ بينما كانت ستناي تستحمُّ في خِبائها؟؟ ألن تُكملَ الحكاية..


كانت تبدو أصغر من سنّها بكثير، وكانت ساحرةً معطارةً برائحة أنثوية جذّابة، مشرقةَ الوجه ريّانةَ الشفتين، في بريق عينيها مزيجٌ من التردّد والحياء، والإشتهاء، والعفّة، والبساطة والمكر.

ابتلعتُ ريقي بصعوبةٍ أدمعتْ عينيَّ، وبالكاد استطعتُ أن أهمس:


ـ عندي لكِ حكاية أجمل.. ولكن ليس الآن.. ومضيتُ إلى غرفتي باحثاً عن سقفٍ لايدور وأرض لاترتجف، كي أستعيد توازني.. 



ستناي الفائقة الجمال (9)


في المساء تقفلُ شكيبة باب دكّانها، وأفتحُ أنا بابَ الحديد الخلفيّ لغرفتي، ونجتمع كما كلّ الأسر بلا دهشةِ زائر أو ضيف، ويحدثُ أن أزجرَ إحدى الصغيرات إذا تقاعست في إحضار دفاترها، أو نظرت إلى التلفاز وأنا اقرأ لها نصّ السؤال.


رزان صارت أميلُ للإعتماد على نفسها، وغالباً ماتقول لي: (خلّصتْ). اليوم أيضاً استغنت عن مساعدتي، ولم تُلقِ بالاً لحضوري.. صارت توهمني بأنّها تنعمُ بدفء أحلام اليقظة مع (عاصم) المزعوم إمعاناً بالإنتقام لبراءة حبّها الذي ولد ميتاً.


كانت شكيبةُ مكفهرّة الوجه ترتدي روب المنزل الشتوي العتيق الكالح، وأظنّها لو استطاعت غسل الصبغة عن شعرها لفعلت، وكأنّها تريد محو خطوةٍ إلى الأمام بخطوتين إلى الخلف، وكانت تحثّ الصغيرتين التوأم للانتهاء بسرعة لأنّ (عمّو عنده دراسة أيضاً).


رجعتُ إلى غرفتي وأنا أحسُّ بالطرد، كانت ليلةً مريرةَ الوقتِ لاتُنسى، أفعلتْ ذلك تردّداً على مشارف السقوط؟ أم خيبةً من ردّة فعلي الغبيّة الباردة؟


  1. لو تزيّنت ليَ اليوم امرأةٌ كما فعلت شكيبة في ذلك الظُّهر لتصرّفتُ بشكل مختلفٍ تماماً، ولكنّني كنتُ يومذاك غرٌّ في قراءة النوايا على وجوه النساء.


ليس بالأمر اليسير أن يتوصّل شاب في العشرين إلى فك ألغاز امرأة تسبقه بثلاثة وعشرين عذاباً، أن يقضم جيلاً يفصل بينهما ويحدّثها هكذا قلباً لقلب.. وكأنّ عمراً لم يمرّ.


ينبغي أن تكوني أكثر صبراً على قلبي الجاهل يا شكيبة، كنتُ أذرع الغرفةَ جيئةً وذهاباً كنمرٍ حبيسٍ أضاع فرصة صيد ثمينة وبات ساغباً بلا عشاء.


أتكونُ تزيّنت بحكم ميل النساء للزينة؟ وأنا أنسج الأوهامَ حول نفسي كدودة قزّ؟! هذه الحكايات التي أقرأها هي السبب.. كتّاب الروايات وصنّاع الأساطير قساةٌ ليس في قلوبهم رحمة، يُفسدون علينا حياتنا ويجعلوننا نعتنق الوهم.. سأتوقف.


ولكن هي التي طلبت منّي أن أكمل الحكاية؟!


يا إله الحكاياتِ فسّر لي ماجرى.. وياشمسُ حثّي الخطا لعلَّ الصباحَ يبدّد بالرضا ماكان.. قبل أن أسافر للتحضير لامتحانات الفصل الأول بعد يومين.. لاأريد أن أسافر بلا حلم.


كانَ ليلُ كانون يشلحُ المطرَ في مهبّ الريح، وكان وجهي الملتصق بالنافذة الباردة ينغسلُ بالماء الذي يسحُّ على الزجاج.. يحدثُ لنا جميعاً أنْ نبكي بصمتٍ وتتكفّل السماء بالباقي.. يحدث ذلك لنا حين لانكون قد حزمنا أمرنا بممارسة طقس البكاء كاملاً.. بكلّ شعائره.


ستناي الفائقة الجمال (10)


سلّم على أهلك وخصوصاً (أمّ علي)، ترجع بالسلامة، أسبوعين في القرية من المطر والدراسة تحت (بوري المدفأة) كان الحلم يخبو حيناً، ويتوهّج حيناً آخر كنار مدفأتي.. ومايقرب من شهر بعد عودتي كانت شكيبة فيه تعاملني كأمّ تسهر على نجاح ضنى قلبها في امتحان، تطبخ الكشك بالدجاج، وتُناولني بنفسها كأسَ البابونج الساخن في السهرة.. وتوصيني ألا أنشغل بقراءة الحكايات عن دراستي وتنصرف راضيةً.


وكانت قد قررت المثابرة على صبغ شعرها، وتعليق قرطيها، ليقرَّ في ذهني أن ليس ثمّة رسالةٌ في تلك الظهيرة الفاشلة من كانون الأول.


في العاشر من شباط رجعتُ من إجازة منتصف العام، فاستقبلتني بلهفة أضرمت نار الحلم من جديد، جلستُ على الكرسيّ الصغير في الدكّان، وبعد لحظاتٍ قامت كمن تذكّر شيئاً مهمّاً، وناولتني تمثالاً صغيراً من الجبس لحصانٍ جامح:


ـ كل عام وأنت بخير، اليوم عيد ميلادك، هذا حصانُكَ (تخونجي) ياساوسروقة.


تذكّرتُ أنّها تحتفظ بصورة من هويتي مع عقد الإيجار، وأنّها امرأة لاتكفُّ عن نبش مغلفّاتها الصفراء من تحت مفرش الأريكة.. ومراجعتها.


ومع أنّني لم أحتفل ولم يحتفل أحدٌ من قبلُ بعيد ميلادي، فقد ادّعيتُ أن كلّ الذين عايدوني قبّلوني على كل خدٍّ قبلةً.. فضحكت:


ـ أنتَ جِنّيٌّ مصوّر.. الدكّان ليس مكاناً مناسباً لمثل هذا، يصلح فقط للحكايات.. لازلتُ أنتظر أن أعرف ما الذي حصل بعد أن عاد ساوسروقة منتصراً ودخل الكوخ، بينما كانت ستناي تستحمُّ في خبائها..


تدحرجَ قطٌّ وقطّة يتعاركان بعشقٍ على الرصيف المقابل وأصدرا مواءً شباطياً مفزعاً، وبعد أن هدأَ روعها قلتُ لها:


ـ كلّ الأماكن مناسبةٌ للقُبل بالنسبة لمواليد هذا الشهر.

ـ أما قلتُ لك؟ أنتَ جِنّيٌّ مصوّر!!


ستناي الفائقة الجمال (11)


ـ يابرهوم العزيز، أنا أقصُّ عليكَ ماجرى لأنّ قلبي هلكان لايقوى وحده على كلّ ذاك الفرح، حين تركتُ الحقيبة الكبيرة في الدكّان عرفتْ أنّ مافيها لنا كلّنا.. تبعتني إلى الغرفةِ تحمل بكلتا يديها برتقالاً.. مددتُ كفّيَّ تحت كفّيها.. تدحرج البرتقال وتشابكت أصابعنا تغزل في غبش الشوق والشهوة والبرد كنزة صوق ملوّنة.

سحبتُها فاستجابت.. كان ثدياها يغوصان بصدري كموجتين من حنان.. وكانت القبلةُ التي سرقتُها برضاها أشهى ماحدث لي في كلّ عمري.. أرجعتْ رأسها إلى الوراء ونظرتْ بعينيَّ عن قرب.. كان خدّاها كجمرتين.. قبّلتني على كلّ خدّ قبلةً.. وابتسمت مباركةً أول العشقِ بـ :

ـ (كلّ عام وأنتَ بخير) لقد صرتَ كبيراً، هل وصلتكَ المعايدة الآنَ أيها الجنّي.. ورجعت مسرعةً إلى دكّانها..


ـ اسمعني فقط يا إبراهيم، لاتسخّف هذه الملحمة بأسئلتك البليدة.. عن جدوى حبّ امرأةٍ تكبرني بأكثر من عمري .

الحبُّ يابرهوم حينَ يأتي لاينبغي أن يُسألَ: لمَ جئتَ من هنا؟ هو يعرف طريقه إلى أرواحنا.. للحبّ عينان ثاقبتان، وليس أعمى.

نحنُ من يَجدرُ بنا وصف (العماء) حين نُنظّر للحبّ بوصفه تكتيكاً ذكياً للزواج الناجح.


الحبُّ ياصاحبي طاقة وليس علاقة.. هو طاقةٌ أقوى من قوالب الشرع والأعراف والتقاليد، عصيٌّ على معادلات المنطق والعقل.. ولذلك كلّما حاولنا تجميده في تلك القوالب نصحو على انفجارات تكسر كلّ شيء.


الحبُّ حالةٌ من تمدّد الروح كسائل، ينبعثُ في سراديب أوردتنا كغازاتٍ قابلة للاشتعال..

بعض السوائل إذا وضعتها في قالب وتركتها في الثلاجة ينكسر القالب، لأنّها ترفضُ الإنكماش والجمود.. ابحث في ملفّات الطلاق تجد أغلب ضحاياه عشّاقاً سابقين.


أنصحكَ ألاتعيش حبّكَ لـ (حسناء) بوصفه مقدّمةً للزواج، أحببها هكذا لأنّك تحبّها وحسب، ثم إذا حصل أن تزوجتما يكون ذلك مناسباً.. اسأل نفسكَ أولاً، واسألها هل أنتما جاهزان لتركِ الحبّ سائلاً بعد الزواج؟


لن تفهمني أعرف أنّ مخّكَ سميك، على كلّ حالٍ، إذا كنتَ أميناً ستنقلُ عنّي ذات وجعٍ وخيبة أنّ مجنوناً مرّ في حياتي وقال لي:


أصدق تعريف للإنسان أنّه (كائنٌ عاشق.. متى توقّفَ مات)


ستناي الفائقة الجمال (12)


كلُّ أيّامِ شكيبة تبدأ مع غبش الفجر لاستلام البضاعة من موزّع الخضار والفاكهة، ماعدا يوم الجمعة، فالموزّع لايأتي وشكيبة لاتفتح دكّانها إلى مابعد الظهر.. لها طقوسها التي لاتحيد عنها صباح كلّ جمعة، تستيقظ في السابعة (وهي بذلك استمتعت بنوم مديد) وتترك البنات نائمات.. يحلو لها ارتشاف قهوتها بعينين منتفختين، مع صمتِ التأمّل وترتيب جدول الأعمال المنزليّة، ثم ينطلقُ صوتُ فيروز ويبدأ التنفيذ..قالت لي ذات جمعةٍ:

ـ إذا غسلتُ وجهي أولاً لا أتلذّذُ برائحةِ القهوة.


في وسط الباب الحديد ثقبٌ صغير مدوّر، أستخدمه منظاراً للإستطلاع عن بعد، كان ليلُ الجمعة الأولى من آذار قد رشرش الأرض بمطرٍ خفيف، والشمسُ تعدُ بنهار ربيعيّ دافئ، وينعكس شعاعها الذهبي على بُقَع الماء الصغيرةِ فوق الرصيف الممتد أمام غرفتيْ شكيبة التي قامت للتوّ تنشّف الرصيفَ بمسّاحةٍ وقد دَرَجت بيجامتها الحمراء على شكل كعكة إلى ماتحتَ الركبتين بقليل، كانت بطّتا ساقيها كتمثالين من مرمر يمتزجُ بياضهما الصقيل بذهب الشمس وظلال حُمرةِ الكعكتين.. ملآنتين فوق الكعبين امتلاءً مثيراً.


حينَ اقتربتُ وقفتْ متكئةً على عصا المساحةِ تستعد لردّ تحيّة الصباح، شعرها المجموع تفلّتت منه خصلتان، ووجهها المرتوي نوماً وجمالاً يزاحم قرص الشمس تحتَ القبّة الزرقاء المزدانة بغيوم كأسراب الإوز الأبيض السابح على مهل في بحيرة مقلوبة.


كنتُ أسعى لإدهاشها دوماً فلم أُلقِ التحيّةَ، اتكأتُ على جذع الليمونة التي يبّستها ليالي الصقيع الغابرة.. وقلت لها:


ـ كانتْ ستناي الفائقة الجمال تظنُّ أن ساوسروقة لايزال بين جموع المحتفلين بالنصر، فخرجت من خبائها الذي تستحمُّ به عاريةً..


ـ انتظرْ، (وأسندتْ المساحةَ إلى الجدار، وأحضرتَ كرسيين وعدّة القهوةِ)

الآن تحلو الحكايات.. هات.


ستناي الفائقة الجمال (13)


ورآها ساسروقة عاريةً بكل تفاصيل سحرها فاشتهاها، غطّى عينيه ودخل مخدعه وراح يضربُ رأسه بجدار الكوخ المجدول من جذوع شجر الصنوبر البريّ.. أيشتهي فارسٌ نبيلٌ أمَّه؟؟، يالي من وضيعٍ دنيء.. فلتغفري لي أيتها الآلهة..


ـ ياويلي، قالت ستناي، وأسرعتْ إلى إزارٍ معلّق لفّت به كلّ جسدها، وهي حزينة لأجل ساوسروقة. وخرجتْ إلى جموع المبتهجين وصاحت:

ـ يا إله الحديد (لبش)!

ـ لبيكِ ياسيدة الجميلات، هو ذا أنا، قال إله الحديد، وخيّمَ الصمت على الجميع.


ـ أيها النارتيون الشجعان: هاهو إله الحديد (لبَش) وأنا فقط نعرف الحقيقةَ، واليوم أنتم مثلنا تعرفونها.. إنّ ساوسروقة فارس النارتيين الذي لا تخرقه السهام ولا تأخذ منه السيوف هو ليس ابني الذي في بطني حملته، ومن بطني لم يولد ولدٌ ولم يدخل رجلٌ إلى مخدعي بعد.. ساوسروقة الفارس الصلدُ مولود من جوف حجر.


ـ أنا إله الحديد، أشهدُ.


ـ فلتشهدِ اليوم وليشهد كل النارتيين أنّي ضممته إلى صدري صغيراً كأمّ، وأنّني من الليلةِ أضمّه لصدري عاشقةً وأمنحه رغبتي وأتوسّد ذراعه من المساء إلى الصباح.


علا صوتُ الزغاريد ورقصت نساء النارتيين، وشرب الرجال نبيذاً مقدّساً من دنان ستناي، وأكلو شواءً من لحم الظباء والآيائل التي استاقها ساوسروقة.. بينما دخلت ستناي الفائقة السحر، وحلّت إزارها وبدأتُ تدور عاريةً في بهو الكوخ، ثم أدخلت ساوسروقة إلى مخدعها.


كانت أصوات المزامير وأغاريد النساء تصخبُ خارج الكوخ، والفرسان يتبادلون الأنخاب، ورائحةُ الصنوبر البريّ تنبعث من مخدع ستناي، وفي الصباح كان خيطُ الماء المغليِّ بورق الغار يسيل من خباء ستناي وهي تستحمُّ مع ساوسروقة.


كلّ النارتيين كانوا نياماً بينما يسيل خيط الماء بين البيوت ويلتفُّ حول الحجر التي ولد من جوفها الفارس ثم يخترق ماء النهر هبوطأً إلى القاع.. هناك حيث كانت ستناي تنامُ حين كان الجليد يغطّي كلّ الأرضِ.. جميعها.


ستناي الفائقة الجمال (14)


كانتْ شكيبةُ تحدّق بي بدهشة طفلة، وحين عبقتْ رائحة الصنوبر والغار في مخدع ستناي السيّدة انتفضتْ شفتها العليا وأرنبةُ أنفها كأنّما تنشّقتها، وتَتبعتْ خيط الماء المغليّ بورقِ الغار بنظرها وغاصت معه إلى قاع النهر بشرودٍ حزين.


تجمّدتْ يدها في منتصف المسافة بين ثغرها والطاولةِ الصغيرة حاملةً فنجانها، بينما ارتسم على شفا شفتيها خطٌّ بنّيٌّ خفيف من أثر آخر القهوة.

لم تنبس بحرفٍ على طول الحكايةٍ.. كانت تعيشها بلذّةٍ ممتزجةٍ بالقهرِ والفرح..

وبلا أيّ تعليقٍ قامت وأمسكت مسّاحتها لتكملَ تنشيف الرصيف، شطبت وجهَ البلاط اللامع بنصف قوسٍ واسع المدى وضربت المسّاحةَ بالأرضِ بعنفٍ وكأنّما تنشّف روحها من وهم المطر.. وتنشّف دمَها من وهم اشتهاء.


كنتُ أراقبها بفضولٍ وخوف، اتكأتْ من جديدِ إلى عصا مسّاحتها كمحاربٍ خسرَ المعركة الفاصلة، واتكأَ على رمحه المكسور وقالت:


ـ دائماً يحدث لغيرنا مانشتهيه لنا، ويحدثُ لنا ما لانريده.. ينعمُ الآخرونَ بأحلامنا وتبقى لنا الحكايات.. لو كانت ستناي في زماننا لرجموها، واتهموا ساوسروقة بالخبَل.


اذهب إلى دراستكَ واتركني لما خُلِقتُ له، اذهب أيها القرويّ الطيّب.. ولاتهدر المزيدَ من وقتِكَ في ملاحقةِ الحكايا، واصطياد الفرح الموهوم.


لم أجدْ ما أخفّف به من حزنها، قمتُ مهزوماً أنا الآخر، يحدثُ أن ينصرف الجميع مهزومين في بعض المعارك.. خطوتُ خطوتينِ كسولتين، والتفتُّ إليها بنصف استدارةٍ، كانتْ لاتزالُ على وقفتها.. غيرَ أنَّ حبّتينِ من الجُمانِ كانتا تلمعان على مشارف الجفون.. وتحلمانِ بمنشفة.


ستناي الفائقة الجمال (15)


بعد زيارة عاصفة قام بها (عمُّ البنات) القادم من بعيد، تغيّر كلُّ شيء، طرقتْ شكيبة باب الحديد المفضي إلى ردهةِ البيت في المساء، لم تدخل حدّثتني واقفةً وهي تبكي:


ـ لو كنتُ مخطئةً لما زعلت منه، لابدَّ أن فاعل خير من الجيران وشى بنا، لم يتّهمني صراحةً لكنّه يعنيني أنا لا البنات كما ادّعى.. قال لي (بناتك صبايا، ولا يناسبنا أن يدخل غريبٌ بيتكم) كان على وشك أن يطلب منك إخلاء الغرفة في الحال، رجوتُه أن يصبر هذا الشهر فقط لينتهي العام الدراسي، وفي العام القادم أُسكنُ فيها بنات.. تعرفُ أنّ إيجار الغرفة يعينني على مصاريف الحياة، فسكت.


تصوّر الغباء، يظنُّ أنّ من تريد إقامة علاقات تحتاج لمستأجر يسكن غرفةً في بيتها، مقهورةٌ بعد كلّ هذا الصبر أن يُنظر إليَّ باتهام، أنا التي داست شبابها وعاشت أمّاً وأباَ وممرضةً ثمَّ بائعة في دكّان.. يأتي على آخر الزمان من يحاضر بي عن الشرف والأصول.


ـ خفّفي عنكِ، ربّما أكونُ أنا من أخطأ بحقّكِ ولم أحسب حساباً لكلام الناس، لم يبقَ سوى شهر، إذا أردتِ أرحلُ في الحال.. (ناولتها مفاتيح الباب الحديد) اقفلي الباب كما كان، وعيشي بسلام ياغالية.


ـ لا، أنت على مشارف امتحانات نهاية العام، لن أربكك في هذا الوقت الحرج. ولكن دعنا نكفُّ ألسنةَ الوشاة.


حدثَ ذلك في منتصف أيّار، كفّت شكيبة عن صبغ شعرها، وعادت الجذور البيضاء ترسم مفرقها، ونزعت قرطيها، وصرنا نتبادل التحيةَ كغريبين، ولم أعد أجلس على الكرسيّ الصغير في دكّانها، وصارت ترتدي أعتقَ ماعندها من أسمال الفقر، وتعامل زبائنها من الجيران بغلظةٍ وعتب صامت.


ولكنَّ شيئاً ما كان يدفعني لقراءة المزيد من الحكايات..


ستناي الفائقة الجمال (16)


هذه المرّة انصرفَ (عمُّ البنات) محبوراً، واصطحبهنَّ معه إلى بيت جدّهن، بعد أن رأى بأمّ غيظه أغراضي محزومةً للرحيل، سيرتاح أخيراً من هذا الثقيلِ الذي يطعجُ شرفَ العائلة.


كان ينوي اصطحاب الجميع لقضاء بعض الصيف هناك، ولكنّه تأخّر عن سيّارة الضيعة، فاضطرَّ أن يتركَ شكيبة لتستلم مني المفتاح بعد أن أُخلي.. وتلحق بهم في اليوم التالي.


لعبَ القدر في مصلحتنا على غير عادته، وانشغل أخي الأكبر فلم يحضر بسيارته لنقل أغراضي إلى القرية، وكان عليَّ أنّ أقضي هذه الليلةَ الأخيرة هنا.


في المساء أقفلتْ شكيبة الدكّان وأوتْ إلى وحدتها، ولم يعد لي بعد أن حزمتُ كتبَ الحكايات سوى الجلوس خلف الثقب المدوّر الصغير في الباب الحديد لأقضي ليلةً من الرصدِ والحسرةِ في وداع حُلمٍ غير ناجز.


كانت ليلةً يغيب عنها القمر، ويغشيها حزيرانُ بنسمةٍ لطيفة، وكان شبح شكيبة يتحرّك على الرصيف الفاصل بيننا جيئةً وذهاباً تتذرّع بنقل غرضٍ من هنا، وسقاية وردةٍ هناك.


أمِنتْ عيونَ الرقيب من البيوت الغافية قربَ منتصف الليل، فاقتربت من الباب الحديد اقتراباً جعل قلبي ينبض في سقف حلقي لا بين أضلعي.


جلستْ على دكّة الرصيف، تسترها ياسمينةٌ تعرِّش كاسرةً ظلام الليل بنجومها البيضاء، أسندتْ ظهرها للباب، وقالت هامسةً:


ـ أعرف أنّك لستَ نائماً، فوجهك يحجب الضوء المنبعث من ثقب الباب..

احكي لي حكايةً أخيرة، فما بعدَ هذا الليلِ من حكايا.. يا صغيري. 



 

ستناي الفائقة الجمال (17)

(الاقتباس هنا من رواية الياطر لـ (حنّا مينة) بتصرّف واسع)


في طريق عودته عبر غابات كسَب، رأى الصياد زكرّيا المرسنلي شكيبةَ التركمانية الراعية الخمسينية، وقد تجاوزت الحدود دون أن تشعر.. كانت ترتدي درّاعةً سوداء مطرّزة بالأحمر وجزمةً صفراء طويلةَ الساقين.. وكان زكريّا يرتدي صدّارة البحر بلا أكمام وشعر صدره الماسي يابسٌ منفوش من ملح البحر، يحمل سلّةً من السمك والقريدس معلّقةً بعصا على كتفه..


ولما اقتربَ توجّستْ منه خيفةً وأدارت ظهرها راجعةً باتجاه اللواء المحتلّ، حينذاك وضع زكريا السلّة وخلع صدّارة البحارة، ووضع يده على قلبه وأخذ يرقص لها رقصة الأمان.. ويغنّي:


ـ (أنا رابط الحوتِ في الماء، الراقص على ظهره فوق الموجِ، أفجّر كعبَ الديناميت بأصابع قدمي وأتركُ السمكَ العائم للصيادين.. أنا عاشق البحر ومعشوق النساء، عندي لك سمكٌ وحبّ)..


أَنستْ شكيبةُ الصيّاد العجوزَ وخلعت درّاعتها وراحت تدور وتقترب منه وهي تغنّي:


ـ (أنا الراعيةُ شكيبة، أجوب في الغابات وأشوي الكستناء على الحطب، أنا عاشقةُ الصنوبر البرّي، ومنسيّةُ الرجال).


أوقد زكريا حطباً، وأعدّت شكيبة سمكاً، وكستناء، وأكلا.. وأطعما كلبَ شكيبة الراعية من السمك.


كانت شمس الضحى تتسلّل من بين أغصان الكستناء والصنوبر كدنانير الذهب، وحين حلّ زكريّا إزارها لمعت فخذاها السمينتان كعمودين من فضّة، وكان كلبها يدلّي لسانه، ويسيل منه اللعاب وهو يراقب كعبيها يحفران التراب شهيقاً تحتَ سياط العاشق البحريّ الخشن.


كانت شكيبتي تسندُ ظهرها للباب بقوةٍ أكبر، وكعباها يحفران في تراب الحديقة.. وتحسستُ شعر صدري بأصابعي فشممتُ زنخة البحر، ثم همدت شكيبة حين انتهت الحكايةُ وقالت:

ـ احلف أنّ اسمها مسجّل في الكتاب (شكيبة).

ـ وحقّ عينيكِ.

ـ أتدرسون هذه الحكايات في الجامعة؟

ـ نعم.

ـ وتسمّونها (أدباً رفيعاً) ثمّ إذا حصل مثلها في الواقع تقولون (قلّة أدب)، أعندكَ تفسير لهذا؟؟!!


تركتني شكيبة غارقاً في صمتيَ الأبله وقامت متثاقلة الخطا بلا وداع.


فككتُ حزام فرشة الصوف، واستلقيت فوقها على أرض الغرفة العارية، لم أفكّر من قبلُ بإجابةٍ لمثل هذا السؤال الصعب.. ما أشقاني وأنا العاجز عن كسر الحواجز بيني وبينك ياشكيبة.. كلّ الحكاياتِ طيّرتها الرياح التي تسكنكَ ذُعراً وخوفاً.


اختلط تفكيري بحلمٍ غير متجانس الأمكنة والأحداث، وأنا أستسلم للنوم بنصف أرقٍ ونصف تعب واشتهاء وخيبة.

وتخلّل الحلمُ صوتاً يشبه صوت تدوير المفتاح في قفل الباب الحديد، فانتبهَتُ..


انتهتْ.


 

ستناي الفائقة الجمال (مُلحَق بقلم رزان)


مساء الخير أستاذ، أنا الدكتورة (لـ..........) التي أسميتها رزان، لم أشأ الظهور أو التدخّل أثناء سردك الحكاية، أحزنتني اليوم كلمة (انتهت) تمنّيتُ لو تطول أكثر، أشكركَ لأنّكَ صدّقت رسالة (عاصم) المزعومة في حينها ولم تجرح مشاعري.


تُوفيتْ أمّي، منذ سنة وبضعة أشهر.


أزورها كلّ جمعةٍ في الصباح، موعد قهوتها وأحكي لها ماكتبتَ،،

أقول لها (صرتِ أنت الحكاية بعد أن كانت لأجلكِ تُروى حكاياته) وأبلغها سلامكَ، أعرفُ أنّك تسلّم عليها وإن لم تقلْ، أشعر أنّها تستريح وتبتسم،،


كنتُ أبكي من فرط سعادتي وأنا أكتشفُ أنّ هناكَ لحظاتٍ ملوّنة عاشتها أمي ذلك العام.. ولم يكن كلّ عمرها بالأسود والأبيض بعد وفاة أبي.. ممتنّةٌ لك لأنّكَ منحتَها بعض الفرح.


كم أتمنّى أن يكون المفتاح قد دار بالفعل في قفل الباب الحديد في تلك الليلة الأخيرة، سأحترم خيارك بأن تركتَ الأمر مختلطاً بين الحلم والواقع، ولكنّي أؤكّد لك أنّني ماكنتُ لأشعرَ بالعار لو أنّ ذلك قد حدث.


تحيتي لك وتقديري أيّها المعلّم... (رزان)


آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net