Tahawolat

طق.. طق.. طق.. منذ أنفاس الصبح الأولى كانت تتوسط الشارع الطويل الخالي، والمدينة مازالت ناعسة، يمزق طبلتي أذنيها صوت عكازك الرباعي.


  عجولاً تتحدى الطريق والسكون والنعاس.. طق.. طق.. طق.. تلاحقه رجلاك الرخوتان الطويلتان, حافيتين تنسحلان على الإسفلت.. يرتفع رأسك وصدرك إلى الأعلى حيوياً باسماً.. زمن مضى لم تبتسم فيه شفتاك، ولا التمع فيه سنك الذهبي الذي أحببناه صغاراً.. نفتح فمك لنراه بوضوح, وسعيداً تعض أصابعنا الصغيرة, ونضمك لتضمنا، وتطوح بنا في الهواء لتلقفنا من جديد, يملؤنا الذعر والفرح.


  طق.. طق.. طق.. تجاه النهر تمشي بأرجلك الست قابضاً على وجه عكازك بقوة وتحد, وكأنك تقول له:

أنا من سيقودك.. لن تقودني أنت.. مازالت يداي قويتين.


  مازلت قادراً رغم ارتخاء ركبتيك.. كأنك في رهان مع النهر.. كأنه قد قال لك لن تبلغني بعد اليوم.. وكأنك لم تفلق مياهه بجسدك آلافاً من المرات، لم يسبقك يوماً أحد من السابحين, وقد تخدعهم وتخدع النهر, حين تغيب تحت المياه فيخاف عليك الرفاق ويتصايحون, ولا يكاد النهر يفرح بانتصاره حتى تخرج له لسانك عند ضفته البعيدة.


  طق.. طق.. طق.. مبهوراً كنت بالصباح والشارع والبيوت... زمن مضى.. طويلاً جداً تخاله , لم تر فيه الشوارع ولا البيوت ولا السماء.. للحظات توقفت أمام بناء جديد ما كان في ذاكرتك قبلاً, تُرى متى شيدوه؟! هل شيدوه يوم شيدوا لي عكازي؟!.. ليس مهماً.. المهم أن تكمل رحلتك.. حلمك أن تمضي في الشارع.. أن تبلغ النهر. كثيراً ما تكرر حلمك ورجلاك ميتتان على سريرك.. إلى متى؟؟ وتشتعل الكلمات على لسانك لتطال الدنيا والذين حولك وتسب عجزك ومرضك، ويسكت كل من حولك حزناً أو خوفاً.. نعم، كنا نخافك وأنت عاجز,  ليس خوف الجبان، بل خوف المحب، فما كنت يوماً ظالماً, كنا نقدر شعورك ونعذرك، ونتمنى أن نعيرك أرجلنا لتمشي بها، أو تركض ولو مرة واحدة. كانت غصة تعترض حلوقنا. كلماتك القاسية.. أين منها كلماتك الحانية ونحن نضع رؤوسنا على ركبتيك, وأنت تمرر أصابعك على وجوهنا وكأنك تحفظ ملامحنا؟ تغمض لنا عيوننا، وكنا نغفو كل يوم دون أن نعرف نهاية الحكاية.


  يا لركبتيك! ما الذي أضعفهما؟! شعور بالذنب ينتابني، هل نحن السبب حين كنت تركض خلف الحياة لتمسك بها لأجلنا؟ أم وأنت تمشي على أربع في ليالي الشتاء فيما نحن نمتطيك فتلف بنا حول المدفأة المزروعة وسط الغرفة ونحن نحدو لك / بعير السوداني/، وتقهقه عالياً وتقلبنا على السجادة، وتنهض يغطي وجهك ندى المحبة والدفء؟!


  طق.. طق... طق.. طويل طريقك إلى النهر، وأنت بستة أرجل.. أربعة منها تطقطق لتسحب اثنتين خلفهما, ما كان طويلاً قبلاً يوم كان لك اثنتان.


  ترى هل كنت تعرف إلى أين أنت ذاهب، وأنت تبدو في عالم آخر.. سعيداً شارداً, متعجلاً, كأنما نداء خفي يهتف بك /تعـال.. تعـال.. تعـال / لا تتأخر؟.


  هل اشتاقك النهر؟ أم اشتاقتك الشطآن؟ أم هي الأسماك التي كنت تلعب معها لعبة الصياد فتضع لها الطعم وحين تخرج عالقة في سنارتك تلمسها وتبتسم وترميها من جديد؟ ويهيأ لك أنك تسمع صوتها السحري.. (سأمممنحك جوووهرة)... كما في الحكايات.


  كنت مذبذباً بين حبك للصيد ورقة عواطفك, فلا أنت تقلع عن الصيد، ولا تستطيع أكل سمكة اصطدتها بيديك...


  هل ناداك النهر حنيناً؟ أم هو مثل شخص غادر نظنه صديقاً فتكشف الأيام لنا زيفه وغدره؟ ناداك ليتشفى بك, عاجزاً مثقل الجسد برجلين رخوتين فارقتهما الحياة, وأبقتهما كذكرى مؤلمة لرجلين قويتين كانتا يوماً.


  طق.. طق.. طق.. مازلت سائراً وطويل دربك.. والنهر يبتعد وأنت تحث أرجلك خلفه... يركض... تحاول الركض. لكن كيف والركض حركة متناوبة بين رجلين؟! وأرجلك تحركها يداك. تنهضها عن الأرض من ثم ترجعها ساحباً خلفها رجلين طويلتين بمفاصل ميتة.


  النهر صار قريباً. هل لحقت به أم أنه توقف مبكراً مثل الأرنب الذي سابق السلحفاة, ليدعك تقترب ثم يركض من جديد؟.. أم أنه أشفق عليك؟.. وهل للنهر قلب رحيم؟! وهو الغادر أبداً!!. مازلت حثيثاً تمشي تجاه النهر, صرت قريباً.


  لقد توقف النهر، لاح شاطئه بشعره الأخضر الطويل المشعث مثل ساحرة تنهض من فراشها.


  طق.. طق.. خطوتان, التماع المياه ساكناً, رائقاً, رائعاً عليل النسمات.. يزداد اقتراباً, تزداد اقتراباً.. لاشيء سوى المياه... تباطأت خطواتك. هل هو التعب؟ أم أنك تستمتع بمنظر المياه التي طال عطش عينيك وتوق روحك إليها.


  لا متسكعين على الشاطئ, لا سابحين في النهر....


  من بعيد يلوح الجسر المعلق, يتمدد مثل مهرج تعب, متوسداً إحدى الضفتين، وملقياً على الضفة الأخرى قدميه المحشورتين بخفين أحمرين.


  زورق بعيد يتهادى في مكانه. قد يكون فيه صياد... أين أنت أيتها الأسماك الصديقة؟ أهديني ركبتين بدلاًَ من جوهرة، ها أنا أحتاج إليك، نفذي وعدك.


  بطيئاً ما زلت تتقدم، تتزود من نداوة الصبح.


  ها أنت تدوس الرمل أخيراً, تتخيله ينزلق تحت قدميك, تسترجع إحساسك بالرمل من ذاكرة عتيقة , وتفرح بوهم شعورك.. خطوة أخرى.. ما عادت أرجلك تطقطق، فالرمل لا يفضح الأسرار.. كان يدري أنك آت خلسة عن عيون المدينة, وشرطة المنزل /لا تستطيع –لا يمكن ـ لا يسمح الطبيب/.. ابتسمت متقدماً خطوة أخرى, متلذذاً بتباطئك.. سابحة عيناك على النعومة الرائقة واللمعان الرائع.. تستدعي إحساسك القديم بالبرودة اللذيذة على جلدك.. تغمض عينيك كي لا تفلت اللحظة. تبزغ سمكاتك الصديقة حاملة شيئاً تلفه في شبكة. يطير قلبك على متن ابتسامة ذات أجنحة. يفلت عكازك الرباعي. تسقط متدحرجاً. هل كنت غافياً؟! أم كنت حالماً؟! أم أنك كنت ذاهباً لتأخذ هديتك؟!


  أخيراً صار إحساسك بملمس الماء حقيقياً على جلدك. سعيداً جداً كنت لحظتها, مشرعاً ذراعيك, رافعاً رأسك. تحضن المياه فتحضنك.. تغيبك... ترى هل ستظهر على الضفة البعيدة لتخرج للنهر لسانك؟؟ الضفة تمل انتظارك... تأخرت كثيراً.


  لن تبلغها أبداً.. لن تخرج لسانك.. لن ترى هدية الأسماك... قد تكون ركبتين أو تكون جوهرة.


  هادئاً عاد النهر يسترخي.. غادراً كان إذاً .. وسعيداً كنت. لا يهمك غدره أو وفاؤه. أبقيت له عكازك على الشاطئ الأقرب، بدلاً من لسانك تخرجه له على الشاطئ البعيد.


  لغزاً سيبقى عكازك مزروعاً، يحار في حلّه الجميع.. ما الذي أتى بك؟! ما الذي أتى بك؟!....

 ويضحك النهر منهم محتفظاً بسرك.. لا وفاء.



آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net