Tahawolat

•  العنوان بسيط بل مطروق جداً لا يوحي بالكثير. بل يوحي بالرتابة حيث أننا أمام رثاء لصديق، وهل من شاعر ليس لديه صديق يرثيه!  فكيف إذا كنا نعيش في شرق لا تنتهي مراثيه على المستوى الفردي والجمعي؟


نحن البكّائين كيف لنا أن يجذبنا عنوان آخر للبكاء!

لكن كل ما يبدو هنا مختلف:


•  على غير العادة المتبعة في أن تكون قصائد الرِّثاء من الشكل العمودي، اختارت سارة عاصي قصيدة النثر أو الشعر المنثور أو النثرية كحامل لرثائها، وهذا بحدّ ذاته تحدٍّ اختارته بملء إرادتها، ولها كل الحق في ذلك.


•  لكن سارة عاصي من أول سطر شعري لها تفك ذلك اللغز عنها وعن ذلك الصديق،  اللغز أو التساؤل الذي أثاره العنوان.


هل هو صديق بعمرها؟ هل هو مَـثـَلٌ أعلى أم هل هو صديق يمثل حالة إنسانية مكثفة؟

فبدأت تقول في بداية المقطع الأول :


"لم أكن أعرف في صغري

أن وجهك الباسمَ كان معبراً

ليقين الخطيئة تحملها عجلات كرسيك

في أروقة الشكوك التي صلبتك."


هنا ندرك أن الصديق يكبرها بمقاييس السنين فتجيبنا عن تساؤل واحدٍ لتفتح لنا تساؤلات عدة، فمن هو ذلك الصديق إذن. وماذا يمثل لدى سارة عاصي.


•  للخطيئة يقين. هذا يعني أنك ترتكب خطأً لكن يقينك يحدوك للإستمرار،  حتى لو كان في هذا الإستمرار احتمال في أن لا تحدث  الخطيئة، فإن مجرد وجود احتمال في أنّ ثمن هذا الإستمرار هو تمضية بقية حياتك على كرسي مدولب فإن الإستمرار هو الخطيئة بعينها.


فما الذي يدفع شخصاً ما للسير بين المخاطر وهو الذي يدرك أن احتمالاً واحداً كافٍ لأن يغير حياته إلى الأبد.


إن السبب في رأيي هو أن الحياة التي قـُيـِّــضت لهذا الصديق موجودة بين تلك المخاطر- الألغام - فراح يمارسها أو يبحث عنها لأن لا بديل متوفر لديه.


لذلك كان وجهُه باسماً وكأنه كان في كل لحظة يتوقع ما سوف يحصل له، بل إن الحياة كانت جديرة بأن تعاش هكذا،  إنها إرادة الحياة.


لذلك كان وجهه المبتسم جسراً عبر عليه " يقين الخطيئة"

الخطيئة التي تجسدت في إعاقة جاثمة على كسري مدولب، هذا الكرسي الذي حمل "يقين الخطيئة " في "أروقة الشكوك التي صلبتك".


سارة عاصي تقلب الموازين. أن يكون للإيمان يقين فهذا أمر طبيعي بل أن يمرّ الإيمان في أروقة الشكوك فهذا أمر طبيعي أيضاً .


بل إن أكثر الإيمان يقيناً هو الإيمان الذي مرّ في مراحل الشك.


لكن أن يكون للخطيئة يقين فهنا المفارقة بل وأن يمر يقين الخطيئة في أروقة الشكوك فالمفارقة جميلة ومدهشة.


إذاً هو الشك الذي يكرُّس يقينَ الخطيئة ِويزيده يقيناً على يقين.


لذا هذا الشك ليس ندماً، كيف يندم من دفعته إرادة الحياة إلى ارتياد مخاطرها.


"لم تكن بسمتك إلا كفناً"

إنها ابتسامة الطيب العارف. الإبتسامة البيضاء النقية وربما الشاردة أو الباردة كالكفن.


"وكنـّا، عندما نشرب قهوتنا وأسمع صوتك،

كنتُ أنا عرافة أنحت المسامير، وأتلو مراسم دفنك."

سارة عاصي تنقلنا من الداخل إلى الخارج.


تقفز بنا إلى جلسات القهوة مع الصديق وهي تتوقع موته.


كلنا نتوقع موتَ بعضنا بعض، لكن أن ننظر إلى جليسنا على أنه سوف يرحل فهذا حدْسٌ أو خوف زائد على صديق أو أن الصديق كان يعاني من حالة صحية ما غير إعاقته.


لذلك كانت "العرّافة "سارة عاصي تشرب القهوة مع صديقها وهي تودعه في كل نظرة وتصنع له المسامير وتتلو مراسم دفنه.


فكانت تعزيه وتأخذ بخاطره وتشرب قهوة العزاء مرات ومرات قبل فِعْل الموت نفسه.


وأنا لا أحسدها أبداً على فناجين قهوتها تلك.


لا يسعني إغفال المفردة الموحية ( أنحت المسامير) كانت كلمة  المسامير مفردة معبرة وكافية عن النعش الذي تصنعه دون أن تأتي على ذكره.


المقطع الثاني :

"حذفك هذا اليوم

وأنت المشلول على كرسيك المكسورة

حذفك"

وصف يبدو للوهلة الأولى بأنه عادي، بأن هذا اليوم من عمر الزمن قد ألغاك فقبض روحك. لكن في النص إدانة مبطّنة لهذا اليوم الذي استقوى على شخصٍ مقعدٍ على كرسي .


فتعيد سارة في نهاية السطر الشعري كلمة " حذفك " فتشحن جملتها بطاقةٍ شعرية شعورية إنفعالية عالية جداً، مع التأكيد على فعل الإدانة .


وأنا شخصياً لا أتوقع أن تكون الكرسي مكسورة ماديا،ً أي فيها عطل ما، بل هي كرسي مكسورة الخاطر على صديق لم يفارقها منذ زمن.


هنا تسقط سارة  مشاعرها على الكرسي المدولب .


سارة عاصي ( العرّافة ) هي المكسورة على فراق صديق لها.


فما حال الأصدقاء "غير العرافين" إذاً! هنا تظهر المأساة أكثر عمقاً في نفس سارة .


"ربيع مقعدٌ في خريفِ وعودِ اللون المطحون"

ترى سارة عاصي في صديقها الذي يكبرها في العمر ترى ربيعاً مقعداً في خريف وعودِ... إلخ. هو ربيع الأمل المقعد، الطاقة المقعدة، فتنقلنا من حالة الجسد المقعد في كرسي إلى حالة الأمل أو الربيع المقعد

 " في خريف وعودِ اللون المطحون".


 خريف طَحَن وشوّه كل الألوان، خريف سرق الأمل،  سرق كل ما هو جميل .


" وأنا ألعب الدور

أجلس على كرسيك.


أكسر المزهرية القديمة.


وأرمي بباقة الزهر في الهواء.


تعال . تعال

أنا ربيعك المحتجب

نواحٌ تسكنه إشارات اللون المبعثرة "

عندما تفيض شحنة سارة العاطفية تجلس على الكرسي تكسر ترمي وتعبر عن حزن عارٍ من أية بلاغة لغوية لتفرُغ الساحة لبلاغة الحزن وحده.


كسرت سارة في أحد أسطرها الشعرية قاعدة هامة في الشعر المنثور وهو التكثيف، فكان يمكن لها أن تقول: (وأرمي بباقة الزهر) وتسكت، فلا داعي لكلمتي ( في الهواء) لأن الرمي حتما ً سيكون في الهواء.


لكن حزن سارة وصدرها المفعم بالعواطف الجياشة دفعها لتفريغ صدرها من شحنة عاطفية كبيرة فخرجت هذه الشحنة مع كلمتـَي: في الهواء.

فكانت موفّقة في ذلك. أن تهدم بمعول الصدق كي تبنيَ على طريقتها العفوية.


سارة تصل إلى قمة الشحن العاطفي فتنادي صديقها :

( تعال . تعال

أنا ربيعك المحتجب)

من منّا لم ينادي الميْت أنْ: قــُــمْ قـــم. من منا لم يحلمْ بأن الميت حقاً قام.


ثم تغريه في العودة لتقول له: أنا ربيعك المحتجب، هنا يندمج فعل الإغراء مع الصدق وهذان فعلان لا يجتمعان عادة. لكن هذه المناداة مكسورة، ربيعها مكسور، هي ربيعه المحتجب لكنها أيضاً هي :

 ( نواحٌ تسكنه إشارات اللون المبعثرة ).

الألوان الرامزة إلى الأمل والإشراق والتفاؤل عند سارة هي ألوان مطحونة تارة وتارة ألوان مبعثرة. والدلالة كافية هنا.

III

مذْ رحلتَ، أضعتُ عالماً كنتُ أنا فيه.

أخذَ مكانَك الهواءُ. وحيدةٌ هي الذاكرةُ أمامَ

تلاشيكْ. هل هو سحرٌ؟ أن أقولَ

اظهرْ من القبعةِ؟ أو أن أحركَ قطعةً من ثيابكَ

فأُلاقيكْ. من أين لي أن أطحنَ

قمحَ بيادرِ العوالمِ المجهولةِ.

وأعجنُه, وأخبزُه. علني أجدكَ.

من أينَ لي.


من أيةِ قصيدةٍ ذاهبةٍ خرجتَ. أنا لم

أكنْ إلهةُ الخلقِ ولا الموتِ. إنما إيماءةٌ

مُقعدةٌ تُحاكي كرسيَّك المكسورَ

على رصيفِ الطريقْ. ربما في سفرِ

قصيدةٍ آتيةٍ تلتقيكْ.


مقطع حزين وجميل، متدفق ورقراق، فبعد رحيل الصديق في قطار الموت، أضاعت شاعرتنا العالم الذي هي فيه، إنه إحساس بالضياع من هول الصدمة وهو شعور معروف عند تلقي الخبر، لكنها تعبر عن ذلك بطريقة خاصة.


فهي تنظر إلى الحيّز المكاني الذي كان يشغله الصديق فلا ترى سوى الفراغ/ الهواء، حتى الذاكرة فارغة غير قادرة على استحضار أي شيء.

هنا تعود سارة إلى مناداة صديقها بعفوية واعية لكنها جميلة جداً فتقول له:

"تعال. تعال أنا ربيعك المحتجب."

طريقة يظهر فيها الوعي مجبولاً بالأمنية المستحيلة فتستحضر ذاكرتها معجزات السحرة والأساطير معاً.

فكان تساؤلها تساؤلاً واعياً: ( هل هو سحر؟ أن أقول إظهر من القبعة)

فلعلّه يستطيع أن يظهر من قبعة الإخفاء المعروفة.


أو ربما تجده بين قطعة من ملابسه وهي كل ما تبقى من ذكراه مادياً .

هي تدري أن شيئاً من ذلك لن يحدث فتلجأ إلى قصة الخلق، إلى الأسطورة القديمة لتعجنه – ليس من طين كما فعل الإله- بل من قمح عوالم مجهولة – قمح خاص قمح سحري من غير عالمنا، وتدري استحالة ذلك فتستدرك لتقول: "من أي لي." فتلخص كل عجزها أمام الموت في عبارة: "من أين لي" ، وليس أمام القارئ إلا أن يتعاطف مع هذا العجز.

-  صديق سارة خرج من قصيدة الحياة، عندما مات لم تكن تقصد سارة أن تـُحْيي أو تـَنعي صديقها بقصيدتها بل كانت تودّ أن تشير إشارة مكسورة للحدث مكسورة ككرسي صديقها المكسور.

ربما في قصيدة رِثاء آتية سوف تلتقي سارة صديقها لقاءً حقيقياً تفرغ فيه كل حزنها، أو قصيدة تستطيع أن تشعر سارة أنها نعت صديقها بما يليق بحزنها وذلك عندما يخف قليلاً هذا الحزن.


"لم تحترقْ الأرضُ عندما رميتَ بعودِ ثقابِكَ إلى كلمِتَكِ الأخيرةِ.

ترنَّحَ العالمُ مثلَ دخانِ سيجارتِكَ. وزفرْتَ آخرُ أنفاسِك مثلَ ركامْ.

من براكينَ هامدةٍ تنفثُ سحبَ الغبارْ."

عندما قال الصديق كلمته الأخيرة وقد تكون كلمة أثناء الإحتضار وقد تكون الكلمة هي نفسها آخر نـفـَسٍ له في الحياة.

عندها لم تحترق الأرض لكن العالم ترنّح كترنّح دخان سجائره، كانت أنفاسه الأخيرة أنفاس بركان أطلق كل ما لديه من "ركام"، نعم ركام وليس أكثر من كلمة معبرة هنا، ما هذا الركام الذي في صدر ذلك الصديق.

تقوم سارة بوصف آخر أنفاس الحياة دون أن تغيب ذاتها ومشاعرها عن الحدث فالعالم يترنح مثل دخان سيجارته. تدمج سارة بين الذاتية والموضوعية بسلاسة مطلقة وناجحة.

"أذكرُ أنتَ الذي قلتَ لي لما كنتٌ صغيرةً،

أن أباكَ بنى منزلاً نابضاً.

دفَنَ تحتَ عتبةِ المدخلِ ربعَ ليرةْ. لربَّةِ البيتْ.

سألتكَ. من ربَّةُ البيتِ؟

أنتِ. أجبْتْ."

استذكار واضح جداً لحدث صغير بين سارة وصديقها الراحل. لكنه في السياق العام هو استراحة المكلوم من النواح والندب. وهو نفسه استراحة للقارئ من فيض مشاعر وكنايات لغوية دفاقة. هو نفسه الإيقاع الداخلي لسارة في أن تلتقط أنفاسها بهدوء "ذكرى".

"أنا كنتُ ربَّةُ اللهوِ وقتَها. أبني ناعورةً من أقاصيصِك الورقيةِ.

تطوفُ فوقَ كرسيِّكَ المكسر.ْ

فصلُ شهقةٍ تعلو على كتفيكَ.

وفصلُ زفيرِ انحدارٍ إلى الأرضِ في دورةِ المقعدين.

وأنا، أعرفُ الآنَ، أني لستُ إلهةَ خلقٍ وموتْ.

مذْ رحلتَ أصبحتُ عرافةٌ تقرأُ في زوايا البيوتْ.


أرسمُ من وجهكَ النائمِ في عيْنَيَّ دِيَمَاً.

أمزجُها مع ما تبقَّى من رمادِ سجائرِك نَقْشَا.

أدقُّه في أوردةِ معصمي وَشَمَا."

ماذا تبني سارة من أقاصيص صديقها الورقية، نواعير فوق كرسيّه المكسور فيشهق اندهاشاً ثم يزفر شهقته ربما لالتقاط لعبة سارة.

تجربتها في موت صديقها جعلتها عرافة تكشف شبح الموت المختبئ في زوايا البيوت رغم أنه ليس لها يد في الموت والحياة.

في أكثر من موقع في النص لا تنفك سارة تؤكد أن لا يد لها في الموت والحياة لكأنها تعبر عن عجزها أمام الموت الذي سلبها أعز صديق لديها.

ثم أن سارة تصنع وشماً لها لكنه وشم غير مصنوع كالعادة من الرماد ودماء الموشوم في موضع الوشم – كما كان يفعل أجدادنا في الريف – بل هو وشم مصنوع من رماد سجائر صديقها ومن اخضرار صورته المعلّقة دوما في عينيها، وهو وشم في أوردة معصمها فهو وشم مرئي دوماً لها وللآخرين، وفوق الوريد حيث يكون الوشم أكثر وضوحاً حيث مجرى الدم.

"وأحملُ مطرقةً.

أكسّرُ فيها المداخلَ والعتباتْ.

أنقِّبُ عن وجهِ إلَهَتِكَ.


لأشهقَ من فمِها حِمَماً.

ومن بيتِكَ المتداعيَ نَبَضا.


وأزفرُ, نفَّاثةٌ كالثعابينَ, من عتباتِ هيكلِكَ المحطمةِ نارَ عهدٍ جديدْ".


تكسر سارة عتبة البيت التي دفنت فيها ربع ليرة (لربة البيت= الإلهة سارة) كي ترى وجهها هي وتتنفسه ناراً وتشهق النبض الذي بُنيَ البيت منه، لتستمد منه القوة فتعيدنا إلى مقطع سابق يتحدث كيف بنى أبُ صديقها ذلك البيت.

باعتقادي أن هذا المقطع يصلح أكثر لو كان يلي مباشرة المقطع الذي يتحدث عن المنزل النابض وبناؤه.

3

I

"غريبةُ كانت وحشتُك في بلادِ الظهيرةْ.

حيثُ ترتدي الآلهة معطفَ الرجالْ.

وكنتُ أرى الدخانَ الأسودَ من قمةِ الجبلِ

ترسلُه إيماءةُ يدكَ فوقَ النار.

وكنتُ أشعلُ النارَ على السطوحْ.

وأرسلُ إسمي إليكَ.

كنتَ مقعداً تشدُ الرحالَ على الطرقِ الصاعدة.

وأنا أتسلقُ السلالمَ خلفَ البيوتْ.

كي ألتقيكَ. في حلمِ الأرضٍ ساقطةً إلى القممِ العاليةْ.

لتطلقَ منها سحابةَ اسمِكَ يظللُ إسمي.

في بلادِ الظهيرةِ والآلهة."


نعم فالصديق المقعد في كرسيه المكسور غريب في بلاد الشمس حيث كل شيء واضح. والرجال الأقوياء والأصحاء هم معاطف الآلهة فلا مكان في هذه البلاد للضعيف المقعد بلاد موحشة مادياً و معنوياً لا ضمانة فيها للحياة من أحد.

وهناك تواصل دائم بين سارة وصديقها بالنار والدخان فما هو هذا التواصل!!

هل هو دخان رحيل الصديق. وهل هو النار التي أشعلتها هي من بخور له. هل هو دخان ذكراه،  وهل هي نار حزنها؟

تقوم الشاعرة بمفارقة فالصديق يشد كرسيه المدولب المكسور صعوداً ويجهد في ذلك فتقول: تشد الرحال، هل هي رحال الرحيل إلى العلياء؟ بينما هي برشاقة طفلة صغيرة تتسلق السلالم خلف البيوت كي تلتقيه هو الغريب في بلاد الشمس التي لا ترحم الضعفاء لكن اسمه يظلّلها ويحقق لها الطمأنينة.

يبدو أن هذا المقطع يتحدث عن الصديق عندما كان حياً وبنفس الوقت عندما مات دون فيصل واضح في الحدث بين الشخصيتين.

II

"أنتَ كنتَ إلهَ الظّلالْ. وأنا سيدةُ الأدراجْ.

كنتُ مثلُ كرسيكَ. أتسلقُ السلالمَ الخشبيةَ المكسرةْ.

في طريقي الصاعدةِ إلى بلادِ الدخانِ.

وحريقِ الشجرِ وإيماءةِ اليدِ فوق النارْ."

هو من تستظل باسمه كإلهٍ للظلال، للإحتواء كحضن وهي سيدة تسلق الأدراج إلى جبل الدخان الذي يصنعه بإيماءة من يده فوق النار.

4

"كنتُ أسمعُ  في حديثِك صدىً.

لزمجرةٍ من رياحٍ بعيدةْ. تهبُّ

على السُّهُبِ وتأتي إلى حيثُ

تبتدأُ المدنُ. مثلَ الفريسةِ

تعوي. لا. لا أنتَ. بل الطرقِ.

أنتَ كنتَ نزيلُ العواءْ. عندَ فصولِ

التحوّلِ. ولم ترتدِ معطفاً يقيكَ

العواصفْ. ولم تنكسرْ عندَ دروبِ

السؤال - أيُّ فصلٍ أتى؟ كان صوتُ

انكسارَ الخريفِ إلى لونهِ الأوليّ.

في العشبِ. تساءلَ أي الفصولِ

أتى. ومضى. إلى الأرضِ مثلُكَ.


كانَ شتاءٌ. يشقُّ الترابَ بالزمهريرْ.

وأنا أرتدي معطفكَ وأرحلُ عند هبوبِ

المطرْ. أقرأُ اللونَ في شقوقِ الترابْ.

دليلُ طريقٍ في هجرةِ العصافيرِ إلى

قوسِ قزحٍ أسودا.

حيثُ تبني لها منزلا.

حيثُ أنا الآن في هجرتي.

كي ألتقيكْ."

في حديث الصديق شيء من زمجرة الماضي البعيد. ماضٍ يوحي لنا بأنه بريّ نقي طيّب تصل رياح الماضي إلى المدن التي هي عكس البرية. تلك الرياح تجعل في مسيرها الدروبَ تعوي. فكل تلك الرياح مؤلمة.إنه عواء الطريق وليس عواء الرياح حين تهب. عواء ألم لأنه عواء الفريسة.


نعتقد لوهلة أن الصديق هو من يعوي ثم توضّح لنا الشاعرة أن الطريق هو الذي يعوي بفعل الرياح، رياح الماضي المؤلم، لا فرق هنا بين عواء الطريق وعواء الصديق. لكن كلمة عواء لا يليق إطلاقها على صديق،  ولكن لأنها مفردة معبرة وتخدم المعنى ألصقت الشاعرة صفة العواء بالطريق، فعلت ذلك بلعبة فنيّة ذات دلالة شاعرية. هنا تظهر صنعة شعرية في المقطع لكنها صنعة لم تؤثر سلباً على التدفق العاطفي لموضوع الرثاء. لكن كلما تقدمنا في القصيدة يتّضح أن الذات الواعية للشاعرة أصبحت أكثر وضوحاً على قلتها، ثم تؤكد نفيَ صفةِ العواء عن الصديق لتقول كنتَ نزيل العواء عند فصول التحول.


توحي لنا الجملة الشعرية بعواء الذئاب عند تحول القمر إلى بدر، الوقت الذي تُرتكب فيه كل الجرائم ويستفيق فيه مصاصو الدماء، حيث كل شيء يدعو إلى الخوف والعواء. لم يكن الصديق جاهزاً لتحمل ( فصول العواء) التي حدثت في حياته فلا معطف لديه ولا شيء يقيه البرد (مجازياً) ثم تنتقل إلى التعبير غير المجازي، ولم تنكسر عند دروب السؤال.


هنا أصبحت الصورة واضحة فالصديق أصبح مقعداً وواجه تحولاً في حياته المعيشية وواجه ضنكاَ في العيش، فتتساءل ما هذا الفصل الذي أتى منه الخريف الذي ظهر في العشب الأخضر الذي هو رمز الحياة. ليصبح التساؤل هو: أي فصل أتى ومضى مثلك في الأرض.

فتختم الشاعرة مقطعها الشعري متساءلة لتأخذنا من قصة الصديق وتغير حاله أو فصوله إلى الفصل الأخير من حياته وهو؛ رحيله .


هناك تساؤل ضمنيٌّ فالفصول تتبدل ولا تموت فأي فصل رحل نهائياً مثلك إلى الأرض.

يبدو أن رحيل صديق الشاعرة كان في فصل الشتاء والبرد قارس يشقق التربة وعندما تمطر كانت تتدثر به ( بذكراه ) وترحل .


كل هذا البرد كانت ذكراه هي الدفء الوحيد لها.

كانت شقوق الأرض التي عملها البرد القارس إشارات واضحة دالة للعصافير المهاجرة إلى قوس قزح أسود. الشاعرة هي العصفورة المهاجرة وقوس قزح الأسود هو دلالة على عالم مشاعرها الحزينة التي رحلت إليها ولا يصحبها إلا ذكرى صديقها. والتي لن تخرج منها بل سوف تبني منزلاً دائماً لها هناك. ثم تقفل المقطع بالتصريح: "حيث أنا الآن في هجرتي كي ألتقيك".


القفلة هنا لم تخدم المعنى لأن المعنى ذو دلالة واضحة كما أشرنا لكن بالقفلة تلك ظهرت ذات الشاعرة مرة أخرى لأنك مهما تكلمت عن الحزن ببلاغة فلا بد من التصريح بأنك حزين حزين، ومن حضر ندب أم لإبنها مثلاً يستطيع أن يلتقط ذلك المشهد.


5

"رحلتَ بعد أن نفذت رصاصة القاتلِ في جذوع الشجر الأول.

وأنتَ كنتَ نزيل الحرائق في الحقول. تعجن من غبار الفحم

و"المشحرة" خبزاً لأفواه أولادك الجائعين.


نلتقي حيث تشاء السهوب.

في رحاب الأفق الوارف.

حيث تشاء الرياح التي تحمل طبقات المدن المهاجرة.

في مواكب عرش كرسيك الكسير. حيث لا زلت

تخبز البسمة الداكنة على الوجوه.

للمقعدين.

الذي يجرون كراسيهم المكسرة في وطن الشظايا.

والحاقدين.


وأنا، مثلك، مقعدة. أجر متاعاً فقيراً وأشلاء قتلى.

وصِيفة عرشك في شرفات المدائن حيث يعلو الحريق.


فوق السهوب.

يعلو.

صواري دخان.

يلقي الرحال على النائمين.


قوس قزح أسود.

للجباه التي ما عرفت غير عبور

المياه العميقة.

فوق. فوق. يعلو.

على الريح.

نلتقي حيث تحملنا السهوب.

في الهواء.

بعد حين."


لم يمت الصديق خلال المعركة  بل بعد أن استقرّ الرصاص القاتل في جذوع الأشجار.

قد يكون قد مات بقذيفة  أو بلُغمٍ أرضي لا أعلم . لكن سارة تشير إلى الرصاص القاتل في جذوع الأشجار، رصاص لا يقتل الأحياء من البشر بل يقتل الحياة؛ كل الحياة التي أشارت إليها سارة بأنها الأشجار الواقفة أبداً.


إذن أصيب الصديق وهو يضع في مشحرته الفحم كي يقوت عائلته ومن المؤكد أنه كان يستخدم الأشجار القتيلة التي أصابتها القذائف. إنه صديق يحول الأشجار الميتة إلى سبب آخر للحياة ليطعم عائلته.


تعود ذات كاتبتنا لتظهر في النص حيث تلتقي صديقها في السهوب والأفق الوارف، وهو موقع أشبه بالجنة منه على الأرض. موطن اختارته رياح القدر. حيث برحيل صديقها ترحل المدن معه في موكب تشييعه لكرسيه المكسور الذي هو عـَـرْضٌ، إنه موكب جنائزي يليق بالملوك.


" والابتسامات الحزينة على وجوه (المقعدين) ". في وطن هو كذلك مقعد بالشظايا والحقد.


سؤال: هل المشيعون أيضاً مقعدون؟

ليس بالضرورة، هنا تحول سارة الإقعاد إلى إقعاد أشمل وأوسع إنه ذو معنى مجازي.


فهذه هي سارة السليمة جسدياً تصف نفسها بالمقعدة فهي ذات متاع فقير وأشلاء، ورغم ذلك هي وصيفة عرشه الذي هو كرسيه المتنقل على منصة شرفات مدن الحرائق.


تدخل ذاتها في النص بشفافية فهي وصيفة صديقها الميت والدلالة جميلة وواضحة.


والحريق يعلو فوق المدن والدخان يصل إلى السهوب حين يمكن للغافلين النائمين عما يحدث أن يروه.

إن الجباه دليل الكرامة -الجباه التي خاضت أعماق الحياة- نصيبها هوقوس قزح أسود قاتم لا ألوان للأمل فيه.

6

"أنتَ كنتَ شاعر هذه الأرض.

ولم تكتبْ كلمةً واحدة.

ولم تنتظرْ عربات القطارات المسافرة.


أنتَ سافرتَ على تراب الحدائق.

مداوراً عجلة كرسيك الذي تصطك مفاصله.

مثل كواكب تتفكك.

وما انتظرتكَ غير هذه العربات.

وكان كرسيك دائماً الأخير.

تنظر إلى الخلف.

إلى الزنود القوية. والأوجه الباسمة.

ترشرش ماء الورد. وزهر البرتقال.

على المقعدين."

صديق سارة ملتصق بالأرض. شاعر دون أن يكتب شعراً، عبارة تختصر علاقته الوثيقة بالأرض... فلم يرحل أو يهاجر في عربات القطارات المسافرة، بل تنقّل على تراب الأرض الخضراء وهو على كرسيه المهلهل التي تصطك مفاصله ككوكبٍ يتفكك. صورة واضحة الجمال ورائعة. فعلاقة الصديق وثيقة بهكذا عربات، وكرسيه هو آخر عربة ركبها. يبدو أنه نفس الكرسي/ العرش في الموكب الجنائزي الذي يشيعه المقعدون وهو صانع ماء الورد يرشه على المقعدين المشيعين له.


هنا تقلب الشاعرة الصورة فالميت هو من يرش ماء الورد على المشيعين وليس العكس كما يحدث عادة في الجنائز. لكأنه بموته يشيع أيضاً مشيّعيه المقعدين، فصديق سارة رمز يموت بموته كل شي يرمز له. أو أنه صديق ذو قيمة عاطفية كبيرة لها بحيث مات كل شيء بموته ومن ضمنهم المشيعون.

7

"أسقَطَتْكَ السماءُ من حساباتِها.

كان يوماً ماطراً فهويتَ أمامي.

ودخلتُ. بسمتُكَ تقتحمُ دخانَ السجائرْ.

جلستَ امامي. نشربُ القهوةَ.

أذكرُ طعمَها الحادْ. ليس مراً.

هيَ المياهُ تجري مريرةً على الأسفلتْ.


كأنها الأرضُ منتهى الخلقْ.

وهذا المقهى رسالةُ الأنبياءْ.

قلتَ لي: نرتقي للمياهْ. سوداءَ! لا بأسْ.


كانَ ذاتَ مساءٍ ماطرٍ.

تتراءى لي الضفادعُ تقفزُ في البركِ الموحلةِ.

أذكر أني كنتُ ملاكاً. أبيضَ مثل غيمٍ قديمٍ.

أبحرُ على السطحْ.

أذكرُ ثوبي. الذي غابَ عني مثلكَ الآنْ.

ردائيَ الجديدُ مثلُ كرسيِّكَ. للمقعدينْ.

لونُهُ يرتعدُ أمامَ أبوابِ المقاهي التي أقفلتْ.

مثلُكَ الآنَ أنا. مقعدةٌ أبحرُ في الماءِ الذي شقَّ دربَهُ في الصخرْ.

مثلُ بسمتِكَ بطعمِها الحادْ.

تَرَكَتْ لونَها. مثلَ ثوبْيَ الجديدْ. وهَوَتْ في طريقِها إلى الأرضْ."


لو كان صديق سارة غير مقعد في كرسيه المكسور لكنّا قلنا أنه كان واقفاً ثم جلس أمامها. لكنه جالس دوماً لأنه مقعد في كرسيه المكسور.

رغم ذلك فهو قد هوى أمامها، يبدو أن السماء حين أسقطته من حساباتها ومدت في عمره المقعد ورمت به إليها. فهوى أمامها.


ثم جلسا في يوم ماطر متقابلين هو يدخن وهما يشربان القهوة الثقيلة الحادة الطعم رغم أنها محلاة وليست مرة . هنا وصف، لكنه يمهد لحالة أخرى فالمياه مرة الطعم وهي تسيل على الإسفلت الأسود الصلب القاحل بلا حياة، أو هي مياه سوداء –القهوة- حادة وهي تسيل إلى إسفلت داخلنا أو في جوفنا.


إن عدم حصر المعنى في بعدٍ واحدٍ هو أجمل ما يهدينا إياه الشعر، إنه إطلاق جميل للمعنى.

إنها جلسة في مقهانا الخاص حيث تنزل أو تكتب رسائل الأنبياء إنه المقهى الوحي المقدس الذي يرسل رسائله إلى الأرض، أكمل وآخر الخلق.


ماذا أقول بعدها! تتدفق سارة برمزية موحية كتدفق الماء الذي يعرف طريقه عن ظهر حب.

المساء ممطر، وهي لا ترى بل يتراءى لها طقس الشتاء الخارجي، فضفادع تنق وبرك موحلة،  ملاك وغيم أبيض قديم وهي تبحر كملاك على السطح.


هنا تظهر الذات الواعية أكثر عند سارة دون أن تفقد زمام التدفق الشعري في بقية المقطع.

وهذا يُحسب لها جداً. فسارة تعقد مقارنة بين ثوبها الأبيض الذي كانت فيه كالملاك والذي غاب اليوم بفعل الزمن. وبين غياب صديقها الآن.


مقارنة بين ثوبها الجديد وكرسي صديقها الجديد.

أجمل ما في المقارنة أنها تخبرنا أن ليس كل جديد جميل أو خير. هي مقارنة للمفارقة وليس للتشبيه.


هو ثوب مثل كرسيه. ثم تفاجئك سارة بكلمة : ( للمقعدين). إذن إنه ثوب جديد للمقعدين غير الثوب الأبيض الخاص بالملائكة. حيث تفقد سارة بهجة الثوب الجديد. التي لا يمكن لها أن تحاكي ثوبها القديم الأبيض حيث كان صديقها حياً أو سليماً معافى.


ثوب ذو لون ما، يرتجف حزناً، خوفاً، ألماً.. أمام المقهى أو المكان الذي كانا يشربان فيه القهوة والذي أقفل برحيله، هذا المكان لا يعني شيئاً بدون صديقها.

بدأت سارة تخبرنا عن نتائج موت صديقها دون أن تفقد تدفقها الشعري الجميل. فهي تشق دربها في الحياة وهي مقعدة مثله. بل مثل بسمته بطعمها الحاد. البسمة التي تخلت عن إشراقها كما تخلى ثوبها الجديد عن لونه، بسمة سقطت نحو الأرض ربما في نظرة وداع إلى صديقها. أو لأنها ابتسامة منكسرة .


1-   رغم أن سارة أكثرت من الأفعال الحسية : (تحمل، صلبتك، نشرب. أنحت، أتلو، حذفك، ألعب، أجلس، أكسر، أرمي، تسكن.) إلا أنها استخدمت عدداً لا بأس منه من تلك المفردات بطريقة موحية ضمن التراكيب مثل: "لم تنكسر عند دروب السؤال"، فهو انكسارٌ معنوي.

"نلتقي.. حيث تشاء الرياح التي تحمل طبقات المدن المهاجرة".

" يلقي الرحال على النائمين".


فخرجت المفردة من معناها القاموسي لتُنشئ رابطاً بين الشاعر والنص والمتلقي. وهذا طبعاً يحسبُ لها.

2-  إن نص سارة بالعموم يتحرك ضمن مسارٍ واحد تتداخل فيه مشاعر النص لتتحرك باتجاه لحظة شعرية صافية.

فلا تبدو سارة أنها تستنفر طاقاتها العقلية رغم أن ذاتها الواعية تنبثق من النّص في أكثر من موضع أشرنا إليه. فتبدو أنها لا تحاول أن تصقل قصيدتها باستنفار طاقاتها العقلية أو أنها بذكاء استطاعت أن تخفي ذلك مما أعطى النص عفوية تتناسب مع موضوع الرثاء، فأغنى ذلك العفويةَ التي يتدفق بها الحزن وهذا جميل.


3-  تكرّر الكاتبة صفةَ الكرسي بأنه مكسور مع أن صفة الكرسي بأنه  مدولب فهو للمقعدين، تبدو أكثر رفقاً وتجعلنا متضامنين أكثر مع الصديق الراحل. لكن يبدو أن سارة وجدت في مفردة " المكسور" صفة لنفسها المكسورة هي. فراحت ترددها في كامل النص. فظهرت ذات الشاعرة محتجبة بذكاء.


4-  الإيقاع :

أ‌-  اعتمدت سارة قصيدة النثر أو النثرية في نصها الشعري.لكن من حيث الإيقاع الخارجي وتحديداً الوزن العروضي نجد أن مقطعها الأول يكاد أن يكون موزوناً عروضياً على تفعيلة " فاعلاتن " وما يلحقها من جوازات مثل فعلن. مما أغنى مطلع قصيدتها بالموسيقى الخارجية فكان افتتاح جيد للنص الشعري بالمجمل. 


ب‌-  إن الإيقاع الكيفي الذي يقوم على النبرة في الكلمة يغيب في مقطعها الأول ويحلّ محلّه الانسياب العادي للجملة الشعرية، أما على مستوى التنغيم الذي يحدد أصوات الجمل بانحدارها وصعودها فنجد أن الشاعرة تبدأ مقطعها بجملة طويلة تنتهي بنقطة كعلامة ترقيم. وكأنها "آه" طويلة ترفض أن تقف عند أية علامة ترقيم أخرى غير النقطة. ينطبق ذلك على باقي المقطع.


قامت سارة في جملتها: ( لم تكن بسمتك إلا كفنا وكناً،....) بوضع الفاصلة بعد " كنـــّا " وليس قبلها، وكأنها تؤكد على الجناس اللفظي بين الكلمات ( تكن، كفناً، كنّا ) كجِناس لفظي خدم الإيقاع الخارجي للقصيدة. ثم كأنها أرادت بوضع الفاصلة هنا أن تنضم بسرعة إلى صديقها الذي عبرت عنه بابتسامته، كأنها تفضّل الإنضمام لابتسامته أكثر من انضمامها لجلسة القهوة  تعبيراً عن اللهفة.


ج- لم يكن للفراغ دورٌ في تحقيق الإيقاع الداخلي بل كان الدور لعلامات الترقيم.

د- تقوم سارة في المقطع الثاني بإغناء الإيقاع على المستوى الصوتي باستخدام التكرار ( حذفك هذا اليوم ... حذفك) ( تعال . تعال....) .

وعلى المستوى الدلالي للكلمة باستخدام الطباق ( ربيع، خريف) .

إن الجملة الشعرية أو الآه الطويلة في المقطع الأول تتحول في المقطع الثاني إلى نبرات متتالية لجمل قصيرة : (أجلس على كرسيك... أكسر المزهرية... ، أرمي بباقة الورد....) ليرتفع إيقاع القصيدة الخارجي والداخلي عما كان عنه في المقطع الأول، ثم قفلت المقطع موسيقياً وليس بلاغيا ً بجملة شعرية تتهادى : (نواحٌ تسكنُهُ إشاراتُ اللونِ المبعثرةِ.).


هـ - تستخدم سارة -في المقطع الثالث- على المستوى الدلالي طباق يحدث بين "( أضعتُ) عالماً "... وبين " (أخذ)  مكانك الهواء...).مع ملاحظة الإنزياح في معنى كلمة أخذ والتي قصدتْ بها ( حل ، وجد) المناقضة لكلمة أضعت، وكذلك الإنزياح في دلالة ( وأطحن قمح البيادر... وأعجنه) الذي يذكرنا بطين الخلق.

ثم تقول: ( من أيّ قصيدة ذاهبة خرجت) هنا "خرجت" بمعنى أتيت أو طلعت فهو أتى من قصيدة ذاهبة، إنه طباق آخر يظهر بعد أخذ الانزياح الدلالي للمفردة.

يتكرر ذلك في مثل: الخلق/ الموت ، سفر/ألاقيك.

في هذا المقطع تحقّق سارة إيقاعها الداخلي باختيار الألفاظ والإنسجام بينها بشكل جيد سواء من حيث الصوت أو من حيث الدلالات التي تجرها وراءها.


ز- في أمكنة أخرى من القصيدة تحقق سارة إيقاعها الداخلي بنفس الطريقة لكنها أكثر دلالة، كمثال عن الطباق الذي حققته في المعنى أكثر منه في اللفظة: ( وزفرت آخر أنفاسك مثل ركام/ كم براكين هامدة تنفث سحب الغبار). هنا طباق دلالي بين البراكين التي ترمز إلى الإنفجار والثورة وبين هامدة، إذن براكين هامدة!!!

لكنها ليست هامدة بل إنها تنفث سحب الغبار فتأخذنا الدلالة إلى مدى الضغط الهائل داخل البركان الذي يعبر عنه الدخان المنفوث.


ح-  تقول في المقطع الثاني : ( وفصل شهيق ... وفصل زفيرِ انحدارٍ إلى الأرضِ في دورةِ المقعدين) هذا الزفير المنحدر إلى الأرض يغنيه من حيث الإيقاع حركات الكسر الممدود والطويل في الجملة الشعرية .


ثم تقول: ( إني لست آلهة خلق وموت) وهنا كسر آخر فأنا ضعيفة ليس بيدي قصة الخلق والموت وهنا أيضاً طباق بين الخلق والموت.

و- لا يمكننا تتبّع الإيقاع جملة جملة وإلا طالت القراءة. ولكن عموماً اعتمدت سارة مايلي :


1-   لم يُعِرِ النص أهمية كبيرة للفراغ أو البياض في تقسيم الإيقاع الداخلي للقصيدة. فكان حزناً يريد أن يقول وينوح لا أن يبكي بصمت المتعبين المرهقين.

ولم يكن يسمح نفَسَها الشعري في أن تستخدم الفراغ في التعبير عن حزنها الدفاق فكانت أقرب إلى العفوية وأبعد عن الصنعة والتكلف.


2-  تراوحت جملتها الشعرية بين الطويلة والقصيرة في تنغيم يخدم الحالة الشعورية بل يعبر عنها بصدق ويغني الإيقاع كثيراً .

3-  استخدمت طباق الكلمات وطباق الدلالة كما أشرنا سابقاً. ونزيد لنقول عن جملتها: ( الزنود القوية والأوجه الباسمة ) وليس الأوجه العابسة التي تتوافق من حيث المعنى مع الزنود القوية. إذن هو طباق دلالي بين الزنود القوية وبين الوجوه الباسمة.


4-   استخدت جناس التكرار: تعال . تعال – حذفك ...حذفك – فوق فوق.


5-  إن التكثيف الموسيقي تحقق عند سارة عن طريق علاقة الكلمات ببعضها وعن طريق دلالات الكلمة والجملة الشعرية، فكان تكثيفاً حَقّ لها أن تكون قصيدة نثرية تعالج موضوعاً صعباً هو الرثاء الذي احتكرته قصيدة العمود .


6-  بقي أن نذكر أن سارة التي تعيش وراء البحار تعلمت اللغة العربية بجهد ذاتي وهذا إبداع لا يمكن إغفاله فيما يتعلق بنتاجها الشعري الإبداعي.




آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net