Tahawolat

(اللوحة: رسم غوستاف دوري وهي صور من كتاب الفريد تينيسون "جنان الملك آرثر" وهو مطولة شاعرية من القرن 19 عن حياة آرثر وغوينيفير وفرسان الطاولة المستديرة).


امرأة و حب، هما كل ما تحتاج كي تولد الأسطورة. ينهل من نبعها المبدعون كتّاباً، شعراء و فنانين. كل مرة بلبوس جديد، بمقولة جديدة و رمزية توافق غاية المبدع أو طابع العصر.


غوينيفر، كملكة عشقت فارساً من بلاط زوجها الملك آرثر- وُلدت كقصة في قصيدة لـ Chretien de Troyes  وتوالى حضورها في مسرحيات وقصائد وروايات تختلف باختلاف الرؤى. رغم أن /لانسلوت/ الحبيب في القصة لم يوجد في الوثائق التاريخية الرسمية، إلا أن خراب كاميلوت و انهيار عرش آرثر لم يكن ليروى بألق أكثر من جعله نتيجة لخيانة امرأة.. شمّاعة لجشع الرجال! غوينيفر – التي يجادَل بأنها " الهة السلطة في عرش انكلترا " يحارب الرجال لكسبها. لقّبَت أيضاً بـ " عروس الزهور " ممثلة لفصل الربيع – خرجت من عرش كاميلوت لتحلّ أسطورة تستعيد عرش ربّات الخصب و الخلق الأُوَل ..


و لعنتها أيضاً! الشاعرة سارة عاصي في قصيدتها " أصوات من غوينيفر " تكتب نسختها من هذه الأسطورة، تروي مفاصل الحكاية ضمن مقاطع، تزخر أبياتها برمزيّة تخطّت إطار الزمان والمكان لتروي رحلة المرأة - الملكة و المرأة – الأسطورة. ينساب النص بلغة شفافة، تتوالد موسيقاها الداخلية من رقّة الألفاظ والقدرة التصويرية الهائلة لدى الشاعرة – و يبدو تسكين الأحرف ضمن الأبيات كانقباض صورة لتولد أخرى. يظهر حضور العناصر الأربعة ( الماء – الهواء – التراب – و النار ) عودة الشاعرة إلى أساسيات الخلق لتنسج أسطورتها، وتشكيلها لشخصية غوينيفر من كل هذه العناصر في تحولاتها المختلفة، بما لهذه العناصر من رمزية وبعد نفسي. لرمزية اللون أيضاً حضور أغنى أبعاد المشهد الشعري و دلالاته خاصة من حيث التضارب بين حرارة اللون الأحمر و بين برودة الأزرق كما توحي القراءة.



منذ المقطع الأول، يبدو تجسّد التحول الأسطوري لغوينيفر " يشعُّ السحرُ من عينيّ /ولم أعرفْ أني لستُ الساحرةْ. " تعبّر غربة العناصر – المنتمية كل إلى الأخرى – عن وحشة قاسية " يرتعد الشاطئ من البحر .." كأن الحكاية ولدت مع وحشة القلب " ملكة تغرق " لتولد امرأة .. أما الحبيب فيأخذ من عنصر التراب مادّيته ليوجّه عينه شطر الصحراء بحثاً عن حبيبته، بما للصحراء من أبعاد العطش، القسوة، و اللامحدودية ! 2- لكن الملكة لا تنسى في غربتها بأن رسوخ الواجب أهم من اشباع العاطفة " ليس للملكة أن تحلم في ليالي الصيف "، تتكرر هذه الجملة في سياق النص، تدغدغ في ذاكرتنا الأدبية " حلم ليلة صيف " لشكسبير، بما تحمل من خيال وعشق ومرح، تظهر توق الملكة لقصة تخرج فيها من ماديتها لترقص في أرض الحلم " لكنّه السحر يا ليل .." وتُقلق أضواء الليل الحمراء زرقة غسق القلب مهدّدة سكينته، فالأحمر – الشغف يوازي برمزيته قوة الأحمر – الخطر.


توق كهذا أخرج الرغبة من قوقعة الحلم لتتجسد حدساً بحبٍ يمشي في الموكب خلفها، فارس يحميها في ممر الزهور، لتتواطأ هذه الكائنات الرقيقة مع الملكة " ألا انظري خلفك .." بعكس أورفيوس الذي كلفته نظرة الى الخلف، حبَّهُ إلى الأبد .. انها رأفة الربيع مع الحياة والحب ككينونة واحدة .. لكن.. في حياة الملكات لا شيء بالمجان! فها هي الملكة " أتغاشى ساقطة على الأرض " ليأتي الفارس المنقذ  تفتح عينيها على وجهه كأن بهما غبار الحب فتقع به.. استجابةٌ لنداء القلب..


و في هذا المشهد بُعد أعمق إذ يوحي سقوطها على الأرض بسقوط الآلهة الأنثى الى عالم الفانين، امرأةٌ من لحمٍ و دم، لا تخلو هذه السقطة من نذيرٍ بخطر كما هو بعاطفة " حمراء تعبر الليل.."


3- ومن يحمل الحكايا كالريح؟ تهِب الصوت جناحاً، و صدى، بتواطؤ مع عنصر التراب /الأرض/ المادّة – يبدو العناق اتّحاد نقيضين يخلق كلّاً يتماهى فيه الضد مع ضدّه، قطبا تيّار حياة تسري بينهما إلى الأبد " ففي فراقِنا لقاءٌ./كما كانَ من قبلِ في اللقاءِ فراقْ،/أبداً يعودُ في لحظةٍ من عناقِ "


4- لكن الصلة التي بدت سحرية إذ جمعتها بالحبيب تبدو الآن هشة كعالم من ورق، تتجلى غوينيفر كقارئة غيب أدركت انسحاب العالم من تحت قدميها، فتاجها البهي أضحى على رأسه.. الحبيب/ الرجل " صورةُ عالمِكَ الجديدِ الذي به أغيبُ،/وفيه تحيا! " مما يشي على مستوى الأسطورة ببداية عصر الرجل - الإله على حساب الأنثى – الآلهة.


5- يتجسد في المقطع الخامس هذا الهبوط التدريجي للأنثى كرمز وكموقع، لكن بها بقية من رمق، لا زالت عناصر الطبيعة متشبثة بتلابيب ربّتها، تضجّ بلغتها الناعمة تواطؤاً معها " .. في المياه طيف وامض / و شجن يهمس في الشجر.." و في لحظات التحول الكبرى تتبعثر العناصر لتستعير كل من ماهية الأخرى ما يشي بعبثية الكون و استنفار العناصر في لحظات كهذه " هل تتسلقُ الريحَ من أجلي؟ /في الرياحِ صخورٌ شاهقةٌ تعبرُ منها.." .. ذاك الذي بدا شلال سحر لم يكن إلا رغبة/صراعاً يملك مادية الرمال، شهوة الجسد شهوة السلطة، أينها من رؤى امرأة من ماء؟


6- هنا تعود الحكاية للتجسد في فارس هرب لحظة افتضاح أمر العلاقة، حيث يقرر العاشقان أن الأفضل للجميع أن يفترقا، لكن الأوان قد فات، فهرب الحبيب تاركاً حبيبته تواجه لاعنيها، خيبة دمرت صورته في عين غوينيفر، لتشكك بكل ما مرت به من حب، على سوية أعمق تهاوت في عينيها صورة الفارس- المنقذ، يتلاشى كيانها و كيانه المادي " ربما، مثلُه أنا، لا جسدَ/لي. جنيةٌ باكيةٌ عندَ الضفافْ" ما بدى سحراً على أرض الواقع هو خيانة، جريمة حكم على الملكة اثرها بالحرق، هنا تلامس الشاعرة عصب القضية، فما سمّي بخيانة لم يكن إلا توق قلب وحيد لإيجاد وطن في قلب نصفه الآخر " جنيةٌ باكيةٌ عندَ الضفافْ/أتَتْها في ليلةِ صيفٍ رؤىً من/عناقٍ طويلْ " تتجاوز الأنثى هنا بكيانها كطيف أو شبح، طهارة عدم ارتكاب الإثم إلى براءة عدم إدراك ماهيته! تعود للذهن مرة أخرى عشتار - إنانا.. صورة العاشقة التي تدمر حبيبها و كل شيء بعدما كانت الأصل.


7- تستمر الحكاية في تحدي " لانسلوت" لمن وشى به ليخرج من نزال حتى الموت في مقابل تحرير غوينيفر من مصير الحرق. تحررت من حرق الجسد، لكن حرق الروح والكرامة يبقى مع صورتها المشوهة في أعين الجميع، في زمن يمضي رتيباً، لا منفذ فيه لنفَس مختلف " هي السّنونُ تنمو في مرتعِ الأيامِ/ والشهورْ " لكن الملكة هنا تجد القوة للتمرد على صورتها الجديدة " لن أسكن السقوط ". تنتصر معنوياً باعتبار نفسها خالدة خلود فطرة الكون على الخطيئة.. فما بالها بحكم الفانين؟!


8- في المقطع الثامن كما على مر الحكاية تخاطب الشاعرة الرجل ككائن ينتمي للتراب، تذكره بعنصر النار المتمثل بالضوء الساقط على الرمل فاتحة بعداً آخر لكلمة ساقطة التي وصمت الملكة " انْظُرِ النورَ الذي سقطَ. مثلي أنا/ ساقطةٌ، قريبة من الرمل " تعود غوينيفر كرمز أسطوري و تغدو الأرض، جسدها الرمال، تتصالح أخيراً مع طبيعتها الأرضية، الصلبة الكيان، التواقة للخصب، و تطلق جسدها مرة أخرى " طلقة النار الأخيرة عند المغيب " ليغدو شمساً، الشمس ذاتها التي عبدتها الشعوب كذكر، و أنصفتها اللغة العربية كمانحة للحياة، كأنثى!


9- " الراهبة تقرع الباب " في الكنيسة حيث اعتزلت غوينيفر، بعد حديث لبق تعود لذاكرتها الجريحة عن اللقاء، حضور اللون في الزجاج يخلق صورة سحرية تأخذ من تضاد حمرة الشمس و زرقة الأرض التي تَذكرها في بيت لاحق بـ " زرقة الوهم الملون" في سخرية ربما- مما يعتبر واقعاً لها كامرأة عليها التزام البرود و الوفاء المطلق، حيث أن هذا الواقع المتوقع غدا وهماً الآن؛ بل ربما كان وهماً ولم تدرك ذلك حتى تقمّصت "حمرة الشمس" وعاشت مجد الحكاية. يبدو كل شيء الآن كحلم لحظة غروب، تنفث سارة عاصي الشك في الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم، يتخلخل، تعبر لانهائية الاحتمالات  " أذكرُ منه ارتمائي. أمْ حلمٌ هو الآنَ في/غرفتي عَفَّرَتْهُ ظلالُ النوافذِ.."..." كان ذلك وهماً في ممر المغيب " لم يبقَ من ألق الحكاية إلا ذكرى في الإحساس وفي الحواس، " من مواكب الزهور عند الممر عطراً " . و تبدو غوينيفر هنا المعشوقة الحلم، فينوس في السماء، البعيدة العاشقة دونما بوح "من شظايا لقاء ولِدتُ حلماً . و في شظايا/ الزجاج المكسر أعود كاذبة بأني لم أحبك "


10- تعود الشاعرة الى تجلّي غوينيفر- عشتار القديم كآلهة أم و في الصلوات إليها كانت الأم والعشيقة في آن " وأنتَ مثلُ جنينٍ تكوّرتَ في/رحمي. جسداً كنتَ، أخبئُ/فيهِ معبراً كي تمرُّ دروبُ الغوايةْ "، تخاطب القارئ عن تاريخها الذي تحكيه أوراق اتهمت الأنثى بكل الشرور و جعلتها ربّة الحرائق بعدما كانت ربّة الخلق، طمس قيمتها الأبدية كأمٍ أمام تحجيمها كرمز للمتعة، للإثم و الفجور" ..هنا النصُّ/يروي. كيف الجنينُ تهاوى/من يدٍ ساقطةْ"،  تمضي الشاعرة في ملحمتها، تصف مجيء عصر عبادة الذكر مجسّداً بالشمس، كما يبدو في خطابها " من أيّ شرقٍ/نجوتَ إليَّ؟ بعدَ السقوطِ/كنتَ تسارعُ خطوكَ للغربْ" و تجسد غوينيفر هنا حوّاء، تتحول إلى رمز للخطيئة" وأنا/نصُّ عراءٍ. من الخلقِ في/دروبِ الخطايا "، " احرق النص " تتابع، فالخلق لم يبدأ بكلمة، بل بإشارة .. سقطت!


11- نعود إلى عنصر المياه الطاغي في القصيدة، لمَ لا؟ ألم يخلق الكون في أساطير الخلق الأولى من الماء؟ أوليست مياه البدء و ماء الرحم من طينة واحدة؟ فما بالها تصمت عن الآلهة " الذين مضوا.. "، وإن نطقت " بماذا تبوح ؟" بدنسِ الأنثى أن واقَعَها رجل " بقيظِكَ كأنّه السحبُ ماطرةَ./يبعثرُ وجهَها في الهواءْ." بعدما كان يحتفي بالولادة المرتقبة؟.. هذه المياه غيم يطالعه الباحثون عن وحي يهبط من السماء، فما لها إلا صديقتها الريح في لحظة تحول جديدة، تحملها لتهطل في بئر عميق يحفظ السر، يتماهى عنصر التراب/ الرمال في الماء، أصل الأشياء و الطاغي الحضور في القصيدة، تخرج المرأة من أسطورتها، تعلقها كفانوس يحمل عنصر النار المنذر في أي لحظة بالضوء.. و الحريق، في لحظة تتوسط فيها الشمس – الجديدة - السماء " رمالٌ وذابتْ./علقْتُها على حائطي./خبَّأتُ في نارِها سقوطَ المدينةِ عند الظهيرة "، و بعدما بدأت القصيدة بملكة تغرق، ها هي تمضي كسفينة نوح حين يغرق كل شيء، تحويك بأمومة، تمنحك رسوخ الأرض، لتمتد قامتك وسعَ سماء " يشقُ دروبَ خلاصِكَ في الرملْ./وعلى قدميكَ تعلو سواري الرياحِ البعيدةْ.".


يرتفع منسوب الشاعرية و الشجن في القصيدة حيث خلفية المشهد دوماً غسق- شفق- غياب – رحيل –مغيب، وإن كان المتحمسون الفرويديون سيجدون في الغروب كلحظة لقاء رمزاً لاتصال جنسي يوحي به انغماس الشمس في البحر، إلا أن سياق القصيدة وتفاصيلها يجعل حدوث اتصال كهذا أمراً ثانوياً، بل مشكوكاً بأمره، إذ يبدو أثير الحكاية، صدى الحكاية و رمزيتها، أهم لدى الشاعرة من الحكاية نفسها.


و مع غياب القمر في القصيدة رغم تجسيده لحقبة الأنثى الآلهة، تبدو سارة عاصي باحثة عن أصل الضوء، كما نسجت عالمها من أصل العناصر و وصلت إسقاطاتها للأنثى الأصل. فلا يعنيها انعكاس. و يجسّد الغروب الحاضر ربما حالة سِحر منشود، نقطة تحول من ليل إلى نهار، بل و تصالح بينهما، بداية نهاية و نهاية بداية، تحوّلات اللون الغنية و روعة العناق الأبدي بين شمس و بحر: جنين أحمر في قلب هادئ.


و في تحوّل أسطوري أخير تبدو " أصوات من غوينيفر " غناء سيرينة تتوسط البحر، تنثر بذرة الالهام، ترمي سلال الغواية، تشدّ البحّار كي يمضي الى "وطن يومض في المياه "، يسبح في الرحم المقدّس، يعود طاهراً من جديد!


آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net