سلمى.. سلمى.. يتكرر النداء في الغرفة، في المطبخ، في الشارع... سلمى. وتتلفت مذعورة ولا تجد أحداً.. تسرع خطاها إن كانت تسير.. تنهي حمامها قبل انتهائها، إن كانت تستحم.. تترك ما تفعله.. تهرب من النداء الشبح.. اللاشيء.
في الأيام الثلاثة السابقة تكثفت النداءات أكثر مما كانت من قبل عشر سنوات، والصوت يناديها... مرعوبة تفزع من نومها.. تغصّ في طعامها.. سلمى.. سلمى.. تشرد في حصة الدرس تنبهها المعلمة والنداء يعلو على صوت المعلمة أحياناً، فلا تنتبه لدرسها، توبّخها.. تبكي بحيرة وحرقة، تتمنى أن تحكي لها معاناتها، أن تنام على صدرها.. أن تشكو لها تسألها المساعدة ..
بحاجة هي إلى صدر حنون.. إلى يد تمسح شعرها.. دمعها.. تطبطب عليها.. تحضنها، وهي الفاقدة للعلاقة بتلك التي يسمونها أماً.. هي لا تعرف لماذا؟! هل هناك سرٌ ما؟ لماذا تكرهها أمها؟! لماذا تضربها؟.. تعنّفها؟.. تقسو عليها دائماً؟!.. قد تكون متعبة أو غاضبة من أمر ما.. أو أنها تشاجرت مع أبي! إن كان كذلك، إذاً لماذا لا تقسو على أخي؟ لماذا تدلّله؟!..
عقلها الصغير يحترق بحثاً عن إجابة، وقلبها يتفتت.. يمرض بالكره لأمها.. لأخيها.. لكل الناس، حتى أبوها الذي لا ينتبه لما يجري لها...
ضائعة هي والصوت يمغنطها إليه، تدور فيه وحوله ويلتف حولها.. يخنقها. دائخة.. غارقة في لزوجته وقرفه. لا هي تخرج منه ولا هو يتركها.. عقلها الطفل يفيدها أنها لو اجتهدت في دروسها ستحظى بحب أمها، وعندئذ ستحكي لها كل شيء، ستغتسل بحنانها من تلك اللزوجة، وتتخلص من الرعب. تدرس وتدرس.. تلحظ المعلمة تقدمها.. تثني عليها.. تتخافت النداءات وتتباعد المسافات بينها وأمها التي ما زالت لا تدري عنها شيئاً، ولا تغيّر من تعاملها معها.
تعاود النداءات نشاطها، والأيام تمضي وهي تلف في الدوامة، وتنعزل عمن حولها، وتفقد رغبتها في الكلام.
اليوم حصلت على الشهادة الثانوية.. تنبّهت لتجد نفسها صبية كبيرة مكتملة الأنوثة، وستدخل الجامعة وقد تصبح مدرّسة، لكنها مازالت طفلة تضربها أمها، وما زال النداء يحاصرها، وما زال يأتي لزيارة أهلها.. كانت تضطرب وتنكمش وقد تبلل نفسها وهي منزوية بعيداً في الغرفة.. تزداد كرهاً لأمها حين تناديها: تعالي سلمى على عمو.
مازالت تقول له (عمو) وكلها يرتجف وعيناها مثبتتان في الأرض، لم تر وجهه منذ ذاك اليوم حين طرق الباب ذات ظهيرة وفتحته له، وقد تركتها أمها لتطوي الغسيل وذهبت لتشرب القهوة أو تدخن النرجيلة مع صديقاتها.
أبعدها حين عرف أنها وحيدة وأن أمها ذهبت توّاً.. لم تستنكر دخوله.. اقترب منها، مسّد شعرها.. قرّبها إليه.. لم تجفل، متعطّشة للحنان.. احتضنها لبدت في حضنه، نظرت إليه ببراءة سنواتها العشر.. ابتسمت، ثم حاولت التملّص لتطوي الغسيل كي لا تغضب أمها.. شدّها إليه .. استنكرت وشمّت في نصرّفه رائحة غريبة زنخة لم تعجبها.. فحاولت الفكاك منه.. شدّها بقوّة.. جحظت عيناه وتهدّل فمه ولهث مثل كلب.. تشنجت.. لم تقو على مقاومته.. صار وحشاً كريهاً مرعباً.. اغتال طفولتها.. لوّثها بزناخته.. امتقعت وتجمّدت عيناها واحمر لسانها.. تسارعت حركاته وهو يتلفت صوب الباب. أوقفها أمامه وأشار إلى عنقها.. إذا أخبرتِ أحداً سوف أذبحك. فهمت وخرج مسرعاً.
لم تستوعب ما جرى.. لماذا يكرهني إلى هذا الحد؟ ولماذا يؤذيني؟
حاولت المشي لتكمل طي الثياب... دارت بها الأرض، تقيأت.
عادت أمها لتجدها مسمرة في مكانها لم تكمل طي الثياب.. ضربتها.. بليدة.. ماذا كنت تفعلين؟!
بكت، بكت.. صرخت وشدت شعرها.. دهشت أمها لردة فعلها هذه المرة.. مرضت.. أحضروا لها طبيباً. أياماً وأياماً وهي ترفض الشفاء.. ترفض الذهاب إلى المدرسة.. خائفة من كلّ شيء ومن لاشيء.. تفزع من نومها.. تتلمّس عنقها.. ترتجف حين تمرّ أمها إلى جانبها.. وتتمسك بها عند خروجها.. لا تريد أن تبقى وحيدة.. عيناها فزعتان.
بعدها صارت الأصوات تناديها: سلمى.. سلمى. صوته البشع الأجش: سلمى.. سلمى. صوت أمها الغاضبة دائماً، وهي تتلفت بهلع ولا تجد أحداً.. تهرب من ذعرها وترقّبها الدائم إلى كتبها، وهاهي قد نالت الثانوية.
هذا اليوم وقد وجدوه ميّتاً. انفعل الجميع لسماع الخبر.. تأزّموا.. تنفست الصعداء.. ابتسمت.. كشّرت.. السافل تفو.. بصقته بعيداً بصوته البشع وواجهت أمها مستجمعة شجاعتها: لا تبكي ذلك السافل وانتبهي لنفسك.
فوجئت أمها.. همّت بالكلام.. تركتها وخرجت.
