Tahawolat
 تدخل الطائرة المجال الجوي الصيني، وعلى رغم علوها المرتفع الا اننا نحس بأننا سنلامس قمم الجبال فيها. يخرق صمتها النهر الاصفر الكبير، خامس اطول نهر في العالم وثاني اطول انهار الصين. اما عن سبب تسميته، فيقول الصينيون بأنه يأتي من الجبال محملاً بالرمال الصفراء التي تصبغ لون مياهه.
نحلق اربع ساعات قبل ان نصل الى بكين. نمر على البحيرات الجبيلة، ويدركنا صقيع الثلج الرابض على السفوح، ويبهرك بياضه الناصع، لتبدأ بعدها التجمعات السكنية بالظهور رويداً لرويداً.

عاصمة السلام
هذا ما يحب الصنيون ان يطلق على مدينتهم... عاصمة السلام. نحط في مطارها. هو مدينة في مطار. بناء ضخم وتنظيم شديد. لا مجال للخطأ فيه. كل شيء يسير بنظامه الخاص ليتكامل الجميع في النهاية. مئات الطائرات بألوان فريدة وجميلة. تظن نفسك وسط "بحيرة البجع". ننتقل بالقطار الداخلي من مقلب الى آخر. يخيل اليك انك ذاهب من مدينة الى مدينة. العشرات يخرجون من القاطرة، والعشرات يدخلون، والعشرات ينتظرون كل دقيقة.
  نغادر المطار، وما هي الا دقائق قليلة حتى ندخل في "اتون العمران". مبانٍ شاهقة حديثة ومنظمة. شوارع واسعة مخططة ونظيفة. ما يذهلك في بكين تمدد العمران على العشوائيات. لقد وضعت العديد من الخطط لتحويلها الي تجمعات سكنية جديدة عبر مخططات منظمة لا تحدث خللاً في الحياة اليومية.
  وبعد عناء السفر، توجهنا الى فندق في العاصمة لنستريح كي نبدأ اليوم التالي بنشاط جديد، و"حشرية" اكبر للتعرف عليها. 
في الصباح، تقلنا الحافلة الى داخل المدينة. هناك اشياء كثيرة تلفت انتباهك وانت تشق طريقك الى الاسواق الداخلية. جسور ضخمة ما زالت قيد الانشاء. مجمعات سكنية على مساحة واسعة ترتفع الى الاعلى. والاهم، ترى صينياً (رجل ام امرأة) يستقل عجلته او دراجته النارية. تنظر اليه بنوع من الشفقة على وضعه المالي، فينظر اليك بثقة صلبة ويكمل طريقه دون ان يتأثر بتعابير وجهك الحزينة. هناك عمل في انتظاره يجب ان ينتهي. لا مجال للعواطف في زمن التطور.
  الكل يعمل في كل شيء، الهندسة، الطب، الشرطة، النظافة. لا تجد عاملاً غير صيني. ليس سبب ذلك فقط الطفرة السكانية في الصين، بل عدم التكبر على مصادر الرزق. اكثر ما تأثرت به اصرار المرأة على العمل. تراها تقود حافلة نقل عمومية يزيد طولها عن عشرة امتار، تعمل في محل بيع مواد البناء، تغسل السيارات، وحتى انك تراها في كاراجات الميكانيك، وتراها عاملة في حفريات الُبنى التحتية.
  تبدأ رحلتنا من المتحف الوطني. مخطوطات من الحرير وخزفيات يفوق عمرها ثلاثمئة عام. لا تزال تحتفظ بجمالها وخصوصيتها. عند تمحيص النظر فيها، لا يمكن لك ان تعرف بأنها صنعت باليد وليس بالماكينات الحديثة. قمة في الدقة والتقنية. من المتحف، انتقلنا الى الاستاد الاوليمبي. صمم على شكل اعشاش الطيور. تتشابك فيه الخطوط لتنسج تحفة عمرانية جميلة. كلفة انجازه بلغت حوالي 428 مليون دولار اميركي، وافتتح رسمياً في 28 يونيو/حزيران 2008 حيث استقبل بعضاً من مباريات الالعاب الاولمبية التي استضافتها بكين عام 2008.

  في اليوم التالي، تحركنا نحو ميدان تياننمان الشهير. الألوف من الناس تجتمع كي تشاهد جثمان الزعيم الصيني ماو تسي تونغ. قبل الدخول للضريح، يقف الزوار في صفوف يصل طولها عدة مئات من الأمتار وتلتوي على شكل ثعبان متعرج، ثم يدخلون ويمرون أمام الضريح. جسم ماو تسي تونغ يعرض لبضع ساعات في اليوم. حالة الجثة دقيقة، لذا يمنع الوقوف أمامها وتصويرها.
  بالقرب من الضريح، يقع القصر الامبراطوري. ايقونة من الفن المعماري الصيني القديم، تبلغ مساحته حوالي 72 هكتاراً، ويضم 9999 غرفة. تمر عبر بواباته الضخمة، تأخذك الى ساحات متعاقبة ليتوقف بك الامر عند "المدينة الممنوعة". هذه المدينة كانت حكراً على العائلة الامبراطورية فقط، اذ يمنع دخولها من قبل عامة الشعب. اما اليوم، فهي مفتوحة امام الجميع ويعرض في قاعاتها سرير الامبراطور وكرسي حكمه ومتعلقات ثمينة كثيرة، وخلفها تقع حديقة ضخمة تضم العديد من الاشجار المعمرة.
  عدنا الى الفندق في انتظار شروق شمس اليوم التالي كي نتجه الى سور الصين العظيم. لا تستطيع ان تعلم مدى القدرة الصينية في بناء السور دون زيارته. شيء لا يصدق. طوله يفوق 7000 كلم، بني بهدف صد الهجمات القادمة من منغوليا. تصعد الى الغرف التي يضمها السور، تنكشف امامك الارض رويداً رويداً. لكن الاهم هو مدى قدرتك على الصمود في الصعود. الارادة هي الاهم. التعب يذيبه الاغراء الممزوج بالتحدي. تخيل بأن الحراس كانوا يصعدون اليه ويهبطون منه ويتجولون عليه يومياً. جميل ذلك المنظر من فوق.
  وبعد استراحة قليلة، كان تحركنا التالي الى متحف العلوم. هناك ترى بكين مجسماً صغيراً على مساحة الخمسين متراً مربعاً تقريباً. تتجول في المعرض بين التقنيات المعروضة، وتتعرف الى تاريخ تطور العلوم في الصين.

"الجنة الخضراء"

نعود الى الفندق وفي الغد رحلة الى منطقة اخرى. صباحاً، نركب الطائرة في رحلة دامت حوالي الساعة والربع والوجهة تشينداو... تعني بالصينية "الجزيرة الخضراء"، لكنك لا تستطيع الا ان تطلق عليها اسم "الجنة الخضراء". قطعة من السماء سقطت على الأرض. لا يفارقك اللون الاخضر خلال تنقلك فيها. يسكن المدينة حوالي سبعة ملايين شخص. لقد كانت من المدن التي استضافت قسماً من المباريات الاوليمبية عام 2008، ويؤرخ لهذا الحدث المتحف البحري فيها. ابطال صينيون متواجدون هناك عبر انجازاتهم، ميدالياتهم المتنوعة، وثيابهم التي حصدوا الجوائز بها، وغيرها من المتعلقات الاخرى.
  في حي عادي، تتواجد شركة غير عادية. انه مصنع للخزف. ثمانية عاملين يخرجون من تحت ايديهم لوحات لا تمل من النظر اليها لساعات وساعات. كلما تعمقت فيها اكثر، وجدت تفاصيل غابت عنك في المشاهدات السابقة. بعض اللوحات قد تصل قيمتها الى سبعة عشر دولاراً اميركياً وقد يفوق هذا المبلغ احياناً.
  اما فخر الصناعة الصينية فهو في شركة "هايير". عملاق الصناعات الكهربائية والالكترونية. تتألف من عدد كبير من المباني الضخمة، وتضم آلاف العمال. تبدأ زيارتك بمتحف الشركة، الذي يضم ادوات كهربائية من العام 1920 تقريباً حتى يومنا هذا. تجول في بهوها الذي يضم قاعات للمحاضرات، اضافة الى متحف وثائقي يروي شهادات كبار الشخصيات العالمية.
  وخلال تجوالنا، لا بد من ذكر بعض الانجازات المهمة في تشينداو. تضم "الجزيرة الخضراء" نفقاً كبيراً يبلغ طوله ثمانية كلم، واستغرق العمل به سبع سنوات، يمر من تحت الماء بعمق يقارب الـــ 88 متراً، ليصل بك الى "الجزيرة الصفراء". وفي طريق العودة، استقلينا الحافلة واخذنا الطريق البحري. جسر ضخم دخل كتاب "غينيس" كأطول جسر بحري في العالم (48.8 كلم). بدأ العمل به عام 2003 وانتهى في عام 2011. يصل هذا الجسر الى ثلاث مناطق الجزيرة الخضراء، الجزيرة الصفراء، الجزيرة الحمراء. على جانبيه، تنتشر "مزارع اللؤلؤ" حيث تغطي مساحة كبيرة من البحر. للعلم فقط، تم افتتاح الجسر الضخم والنفق في اليوم نفسه
.
ناطحة السحاب


رحلة جديدة في الانتظار. نصل الى شنغهاي بعد رحلة دامت حوالي الساعة والربع. هي "مدينة السحاب". فيها، تخرج من كوكب الارض الى عالم آخر. ناطحات شاهقة تخترق الغيوم كإبرة في قطعة قطن. وابرز مثالين على ذلك "برج شنغهاي"، السكني الذي سينتهي العمل به العام المقبل، ويرتفع حوالي 638 متراً، وبرج الاذاعة الصينية الشهير، ثالث اطول برج في العالم، الرابض على نهر ملاحي تمر فيه آلاف الاطنان من البضائع كل يوم.
يقسم نهر بونغ دو شنغهاي الى شطرين، شرقي وغربي. عند خروجك من مطارها الضخم جداً، تلاقيك ابنية الفلاحين البسيطة بقرميدها القديم ذات الطراز الانجليزي والذي يحمل من الزمن ما يدل عليه. كان عدد الفلاحين الذين يسكنون هذه المنطقة عام 1992 مليون نسمة، اما اليوم فيقارب خمسة ونصف مليون نسمة.
فيها ميناء للحاويات العملاقة. تُصدر عبره كميات ضخمة من البضائع المتعددة اشهرها السيراميك. تقع على اطراف شنغهاي مدن "الشاي الاخضر"، وتنقسم الى سبعة عشر مقاطعة تلفها ثلاث طرق دائرية. بعد خمس سنوات، من المتوقع ان تضم اكبر واوسع شبكة مترو في العالم اجمع.
  ليل شنغهاي يختلف عن نهارها. زخمة وانوار وابنية تتلون بأزهى الحلى الضوئية. تتقاطع الرسوم لتخرج لك لوحة مساحتها مئات الكيلومترات. "اذا فاتك العرض... فاتتك شنغهاي". عبارة مكتوبة على بطاقة الدخول لحضور اشهر عروض الاكروبات في شنغهاي ويمكن ان نقول في الصين ايضاً. اشخاص يخاطرون بحياتهم من اجل رسم ابتسامة على وجهك. رقصات باليه، العاب خفة، تحليق في سماء القاعة... يرافقه صوت مغنية يترنح على موسيقى ناعمة تهدئ من روعة الحدث
.
مدينة الحرير

سوزو... مدينة الحرير بحق. اشتهرت بانتاجه منذ آلاف السنين. تدخل الى معاملها لتعيش تجربة حية. عشر مراحل تُشرح لك، تبدأ مع البذور حتى الشرانق الى خروج الفراشة منها. هناك تتعلم كيف تفرق بين الحرير وغيره من المواد. امر بسيط جداً. الحرير نوع من الخلايا الحية، لذلك تشعر به كأنه قطعة من جلدك. تحسه به يتنفس. تضعه على ذراعك. اذا كان الطقس بارداً اعطاك برودة، واذا كان الجو دافئاً، احسست بحرارة لطيفة. اختبار بسيط لقماش الملوك.
بالاضافة الى الحرير، هي مدينة التكنولوجيا. في العام 1994، وقع اتفاق بين الحكومتين الماليزية والصينية للتطور التكنولوجي. ولتأريخ هذا الحدث، افتتح في سوزو متحف للعلوم والتكنولوجيا، تواكب من خلاله مسيرة التطور الرقمي فيها، وشهادات كبار الرؤساء الصنيين ودول العالم.
اما المحطة الاخيرة، فكانت في حديقة سوزو. تدخل الى حي قديم ليفتح لك باب من "ابواب الجنة". هذه الحديقة تم ادراجها على قائمة التراث العالمي لليونيسكو لما تضمه من اشجار وطبيعة وصخور جميلة، اضافة الى الكثير من المقتنيات الثمينة.
وفي كل تلك المناطق، تلتقي بالنوعية نفسها من الشعب. حذر منك قليلاً. قد تفكر لبرهة انه لا يحبك او انه منزعج من رؤيتك. وما ان تقول له "ني هاو"، اي مرحباً، حتى يتغير المشهد بالكامل. تعلم حينها كم هو ودود.. يتقرب منك، ويحاول ان يتواصل معك على قدر معرفته باللغة التي تكلمه بها. قيل لنا ان عقيدة كوفوشيوس غرست فيه حب الغريب وإكرامه.
لقد كانت زيارة خاصة جداً وتجربة لا يمكن ان تنسى.
في الختام كلمة لبكين. لقد اعطيتك من عمري اقل من ثلاثين يوماً، واعطيتني من حضارتك ما يزيد عن ثلاثة الآف عام. لن اقول وداعاً بكين، بل سأقول الى اللقاء...
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net