Tahawolat
بين الانهيار الآلي المدوِّي، والمأزق الجيو - استراتيجي في الشرق الأوسط، ناهيك عن الاضطراب المتمادي في إدارة الصراعات الدولية، يبدو العالم كله وأميركا بوجه خاص، في لحظة مراجعة حاسمة. وفي هذه الآونة على وجه الخصوص، تنصّبُّ التساؤلات في الجملة، ضمن ما يجوز تسميته بـ"وعاء البحث عن صورة أميركا المقبلة".
العقل الأميركي بما يُشهد له من قدرة على التكيُّف مع الأزمات الكبرى، مرشحٌ للقيام اليوم بتظهير هذه القدرة. وهناك من الخبراء ممن يتابعون السيرة الذاتية الحالية للولايات المتحدة، مَن يميل إلى ترجيح أهلية النخب السياسية والاقتصادية الأميركية لجهة ابتكار مخارج للأزمة الراهنة. بينما ينحو آخرون في أميركا وخارجها نحواً مخالفاً. ذلك أن الإعصار النقدي الذي يضرب المال العالمي يندرج ضمن مروحة متعددة الأضلاع من عناصر الوهن طفقت تلفُّ الولايات المتحدة مع بداية القرن الواحد والعشرين.
لو أخذنا "بفلسفة التكيُّف" كآلية تحليلية، سوف نقع في الفكر الاستراتيجي الأميركي على طائفة من العوامل التكوينية من شأنها أن تجعل من أميركا دولة مؤهلة للجواب على إشكاليات استعادة حيويتها كدولة عالمية.
عامل أول: اعتقاد الأميركيين بأن لا مناص من الاعتراف بعمق المشكلة، خصوصاً حين تكون المشكلة ضخمة وخطيرة كالتي يعيشونها اليوم. إن هذا الاعتقاد مبسوط في الأصل على قاعدة قوامها: إن لم يتم الاعتراف بالمشاكل التي تواجه أميركا، وإن لم يتم التنبؤ بها، فإن المخاطر ستكون أعظم. وبحسب فقهاء الفكر السياسي ـ فإن الاعتراف بالحقائق هو من السمات التأسيسية للأمة الأميركية. فربما كانت أميركا المعاصرة ـ على ما يقول هؤلاء ـ هي الأكثر انتقاداً لنفسها من أي دولة أخرى. فالتقارير القومية غالباً ما تكشف إخفاقات المجتمع، وتتضمن انتقادات كبيرة لنواقص القومية، وكلها تعكس مزاجاً قومياً يُكثرُ من التأمل في ذاته.
عامل ثانٍ: الذين يعاينون التجربة الأميركية الحديثة، وتحديداً تلك التي جرت خلال القرن العشرين المنصرم، يحيلون أسباب القدرة على احتواء الأزمات، إلى التزام الشعب الأميركي فكرة التغيير الديمقراطي. وتالياً إلى كون التقليد الأميركي الخاص بالحوار الداخلي الحر، وبالتعبير المفتوح عن عدم الاتفاق، أو الاختلاف في إطار هرم تنظيمي صارم، شكل عاملاً مهماً وحاسماً في تطوير هذا التجاوب للتغيير. بل أكثر من ذلك، فإن هذين العاملين السابقين أدَّيا إلى احتواء حركات الاحتجاج، اليسارية والدينية المحافظة وتحويلها إلى فائض تاريخي يخدم عقيدة التفوض الأميركية.
عامل ثالث: رغم وجود العنف السياسي والاجتماعي، إما بسبب العنصرية الأنكلوساسكونية، أو لأسباب تتعلق بالتفاوتات الطبقية، وغياب العدل الاجتماعي، فإن الحياة الأميركية ظلت مفعمة بالنمو السريع الذي أحدثته التكنولوجيا وتطورات العلوم، وأخيراً ثورة المعلوماتية والاتصالات. ذلك ما ولَّد ضروباً من السكينة السوسيو ـ اقتصادية جعلت المجتمع الأميركي المتعدد أكثر المجتمعات العالمية قدرة على امتصاص الصراعات الطبقية، أو النزاعات الناتجة من ديناميات التمييز العنصري، أو حركات الاحتجاج السياسي الناجمة من التداعيات الكارثية لحروب أميركا في العالم.
عامل رابع: شكلت حالة الالتحام بين ديناميات الواقع الاقتصادي الاجتماعي والاتجاه السياسي المحافظ، عنصراً إضافياً في توليد نظام تعددي أثبت جدواه في احتوائه للتغيرات غير العادية. هذا النظام التعددي هو نظام مرن إلى درجة استثنائية. إذ بسبب من تمتعه بخاصيَّة بنيوية قادرة على التوليد والابتكار، فإنه أفلح في الغالب في تفسير إشارات التحذير التي كان يطلقها التوتر السياسي ـ الاجتماعي المتصاعد...
عامل خامس: إذا كانت إحدى أبرز سمات الظاهرة التاريخية الأميركية هي القدرة على التواؤم مع تقلُّب الأحوال والأزمنة، فذلك يعود في شطر وازن منه إلى حيوية اللاهوت الديني البروتستانتي الذي ساهم في ولادة الظاهرة. ذلك، أنه اللاهوت الوحيد الذي امتاز بالقدرة على التحول إلى "دين مدني" يجمع بين التديّن الحاد والعلمنة الحادة، ضمن وعاء عجيب التركيب من التنوعات العرقية والإثنية والدينية والثقافية والحضارية.
عامل سادس: إلى تحقُّق التلاؤم والتناسب في جدلية الديني ـ العلماني، كان ثمة مركب تكويني آخر في أطروحة التكيَّف، هو المركَّب الخاص للقومية الأميركية. فالمعروف أن قومية الأميركيين لم تظهر على نصاب ما ألفَته  أوروبا حين أطلقت إمبرياليتها الحديثة. ذلك أن قومية أميركا هي من طراز تَرَكَّبَ على الجمع بين عمومية المفهوم وخصوصية المكان. بل يمكن القول أن القومية الأميركية هي قومية مفارقة للمفهوم الكلاسيكي كما عرفناه في أوروبا القرن السابع عشر، وهي متحدة معه في الوقت عينه. في الجانب المعرفي الأنثروبولوجي المخصوص تعني الهوية القومية الأميركية الولاء للفكرة.
وهذه الأخيرة ـ أي الفكرة ـ تعني أن أميركا بوصفها رسالة حضارية، هي في آن، جغرافيا ذات بعد ميتافيزيقي. وعلى هذا النحو غدا الولاء للفكرة لازماً منح الولاء إلى حاملي تلك الفكرة، باعتبارهم الصنف البشري الخاص المؤهل لحمل هذه الرسالة. وهم ـ بحسب التنظير العقائدي الأميركي ـ الانكلوساكسون البيض البروتستانت (Wasp).
صحيح أن أكثر الأمم لديها ما يكفي من الزعم بأنها الشعب المختار. لكن لا يوجد أمة في التاريخ الحديث تهيمن عليها فكرة، أن لها مهمة خاصة في هذا العالم كأميركا. ولذا فليس من العجيب في شيء أن يتحدث الأميركيون دوماً عن عراقة دولتهم باعتبارها أقدم دولة حديثة في العالم، وبالتالي أقدم جمهورية، وأقدم ديمقراطية، وأقدم نظام فيديرالي، بل وأقدم دستور مدوَّن، وبأن لديهم أيضاً وأيضاً، أقدم أحزاب سياسية حقيقية.
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net