Tahawolat

 
مثلت الحروب البونية (بين روما وقرطاجة، والتي انتهت بتدمير قرطاجة التام) نقطة التحوّل النهائي من المرحلة المتأخرة للمجتمع المشاعي البدائي الى مرحلة المجتمع العبودي الذي جسّدته روما تماماً واستعبدت بموجبه شعوب العالم المتحضر القديم. وظهرت الديانة المسيحية (الإيمان بمجيء المسيح ـ المخلص) كردّ فعل على انتصار روما والمجتمع العبودي، وكشكل من اشكال النضال الإنساني ـ الاجتماعي ـ السياسي ـ الايديولوجي ـ الديني ضد العبودية الرومانية وضد ملحقها وخادمتها الاستغلالية والفسادية اليهودية. وانتشرت العقيدة المسيحية اول ما انتشرت في البلدان التي تُعرَف اليوم بـ"الوطن العربي الكبير"، وكان لها الفضل الاول في تقريب شعوب تلك البلدان وتآخيها في الاطار الديني المسيحي، مما مهد لبلورة الامة العربية وظهورها لاحقاً. وهذا البحث المتواضع يحاول ان يلقي الضوء على هذه العملية التاريخية، التي هي من اكبر العمليات الحضارية في التاريخ والتي تؤكد ثلاث حقائق جوهرية: الاولى ـ حضارية الامة العربية. والثانية ـ ان الامة العربية ولدت في الكفاح ضد الاستعمار والاستعباد الاوروبي والفساد اليهودي. والثالثة ـ ان المسيحية هي الأس الأساسي لولادة الامة في العالم العربي
 
 
نستخلص مما تقدم:
1 ـ ان المجوس هو تعبير واسع الاستخدام وكان يعني:
أ ـ الاشخاص الاذكياء الذين يستخدمون ذكاءهم بالمعنى السلبي لممارسة التنجيم والشعوذة والسحر (ولا تزال كلمة "سحر Magic " بالانجليزية، وشبهها بكل لغات العالم الحية، تعود بجذرها اللغوي الى كلمة "مجوس").
ب ـ الاشخاص الاذكياء الذين يستخدمون ذكاءهم بالاتجاه الايجابي لاكتساب المعرفة بواسطة الاختلاط والمطالعة، ولا سيما في الكتب القديمة والنادرة والاجنبية، ويخدمون السلطة والناس بعلمهم ومعرفتهم وآرائهم الأكثر سداداً، وكانوا يسمون "الحكماء". وهم يساوون اليوم من يسمون: العلماء، والخبراء، والمثقفين، والتكنوقراط والمستشارين الخ.
2 ـ أن المكان (او الأمكنة) الذي جاء منه المجوس يشمل مروحة واسعة: من جنوب شبه الجزيرة العربية حتى بلاد فارس، مروراً بالعراق العربي وبابل واشور وكلديا. وبالمقارنة بين التحديد الدقيق للانجيل عن مكان مجيء الرعاة "كان في تلك الناحية رعاة يبيتون في البادية"، من الخطأ الاعتقاد ان الانجيل المقدس أبقى مكان مجيء المجوس ضمن دائرة الالتباس "سهواً!!" او "خطأً!!" او "جهلاً!!". فالاناجيل الاربعة هي منسوبة الى انجيليين محددين كنسياً، ولكنها قبل اعتمادها ونشرها قرئت ومحصت تماما من قبل آباء الكنيسة الاولين، اي انها مرت على مطبخ (او اكثر من مطبخ) للرقابة الكنسية المشددة، قبل نشرها على الملأ. وانا شخصياً اميل الى الاعتقاد القريب من الجزم، بأن ترك مكان مجيء المجوس ملتبساً، كان لأحد سببين او الاثنين معاً: الاول ـ عدم الثقة الكاملة باستمرارية العلاقة الكنسية ببعض "المجوس" المعنيين. والثاني  ـ عدم كشف "المجوس" الذين هم على علاقة مع الكنيسة، وحمايتهم من ردود الفعل الانتقامية.
3 ـ ان "المجوس" كانوا اما عرباً من شبه الجزيرة العربية، واما كلدانيين او بابليين، واما فرساً؛ واما من هؤلاء جميعاً.
ج ـ فرار العائلة المقدسة الى مصر وإقامتها فيها الى حين وفاة هيرودس:
جاء في الكتاب المقدس ان الملاك ظهر ليوسف النجار وطلب منه ان يهرب بالطفل يسوع الى مصر.
ولكن الكتاب المقدس لا يعطي اية تفاصيل عن هذه الرحلة الطويلة والشاقة والمحفوفة بالمخاطر من بيت لحم في فلسطين الى داخل مصر، وهي مسافة تقدر بمئات الكيلومترات في ارض صحراوية وساحلية حارة وجافة وصعبة.
الا ان المصادر المسيحية، ولا سيما المصرية منها، لم تهمل البحث في هذه الرحلة، من جهة، لإضفاء القدسية على الانتشار المسيحي في مصر، حتى في المناطق التي ربما لم تصل اليها العائلة المقدسة، ومن جهة ثانية، للتبرير القداسي للانتشار المسيحي ونشاط المؤسسة الكنسية ذاتها بالزعم ـ الصحيح او ربما غير الصحيح في بعض الحالات ـ بأن "يسوع مر من هنا!".
وفي دراسة بعنوان "رحلة العائلة المقدسة الى ارض مصر" (يمكن العثور عليها في الاثير الالكتروني) من اعداد Ava Tony ومن اصدار الكنيسة القبطية الارثوذكسية المصرية، جاء فيها ان العائلة المقدسة سافرت الى مصر، فامتطت السيدة العذراء مريم حماراً والطفل يسوع على ذراعها ويوسف يقود الحمار. وكانت برفقتهم ايضاً عجوز من اقربائهم اسمها سالومي او سالوما كانت تسير خلف الحمار. وتقول دراسة Ava Tony ان يوسف لم يكن يعلم "إلى اين يمضي؟ لم يكن يعلم كيف سيعيش فى أرض غريبة! كيف سيأكل هو ومن معه؟ أين يحتمي من حر الصيف وبرد الشتاء؟".
وتضيف الدراسة "هناك ثلاث طرق للقوافل للقادمة إلى مصر"، "ولكن المصادر الكنسية والتقليد الكنسي... تقودنا إلى اعتقاد أكيد أن العائلة المقدسة سلكت طريقاً خاصاً يختلف عن الطرق الثلاث المعروفة في ذلك الزمان" والسبب حسب رأي الأنبا غريغوريوس أسقف الدراسات اللاهوتية الذي استشهدت به الدراسة: يبدو أن هيرودس علم بعد فوات الأوان بهرب العائلة المقدسة إلى مصر، فأرسل عشرة جواسيس من قبله إلى مصر، وأمرهم بأن يفتشوا بتدقيق عن الصبي، ويأتوا به إليه حياً ليقتله بيديه". "وكانت العائلة المقدسة تغيّر مكان إقامتها فى مصر شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، ومات هيرودس قبل أن يتمكن من بلوغ مأربه الخبيث". "وقد دخلت العائلة المقدسة مصر عن طريق صحراء سيناء من الناحية الشمالية من جهة الفرما (بين مدينتي العريش وبورسعيد). وبعد أن عبرت العائلة المقدسة مدينة العريش تابعت السير في طريق يسمّى الفلوسيات". "ثم انتقلت العائلة المقدسة بعد ذلك من الفرما في طريق إلى تل بسطا والتي كانت قديماً مدينة بسطا". و"دخلت العائلة المقدسة مدينة بسطا وهى الآن تسمى تل بسطا بالقرب من الزقازيق بمحافظة الشرقية، وتبعد عن القاهرة حوالى ١٠٠ كيلومتر من الشمال الشرقي". "ومدينة بسطا هي من المدن المصرية القديمة اسمها المصري القديم "بير باستيت" Per Bastit أي مدينة الآلهة، واسمها القبطي "بيوباست". وتذكر الدراسة أن العائلة المقدسة طافت في مناطق عديدة في مصر، وهي تعدّد وتصف تلك المناطق.
وكان للجوء العائلة المقدسة الى مصر وإقامتها فيها الى حين وفاة هيرودوس، دور كبير في انتشار الديانة المسيحية في مصر بعد ظهورها.
وتقدم الدراسة وصفاً مفصلاً لارتحال العائلة المقدسة في مختلف المناطق المصرية بما فيها القاهرة، والكنائس والاديرة والمزارات الدينية التي اقيمت فيما بعد، في تلك الاماكن.
ولكن الدراسة تجعل العائلة المقدسة ترتحل بشكل سريع الى كل الارجاء المصرية، وهذا يعني شيئين:
الاول، التنقل الدائم حتى لا تقع العائلة المقدسة في يد الرومان او اليهود وجواسيسهم؛
والثاني، ان الدراسة موضوعة بعد زمن طويل من فرار العائلة المقدسة وإقامتها في مصر؛ وقد ارادت المراجع الكنسية وواضعو الدراسة "تنقيل" العائلة المقدسة في الارجاء المصرية كافة لإرضاء مختلف الابرشيات، ومطابقة (بمفعول رجعي) خريطة ترحُّل العائلة المقدسة مع خريطة انتشار المسيحية، لاضفاء الطابع المقدس على كل اماكن الانتشار المسيحي.
وتفيدنا الدراسة ان العائلة المقدسة تنقلت، على العموم، في أجواء "صديقة" ومؤيدة للمسيح ومؤمنة به؛ ولكن ذلك لم يكن دائماً اذ كان يوجد اعداء ايضاً، سواء أكانوا من مؤيدي السلطة الرومانية ام يهودا او مجرد وثنيين. وفيما يلي قصة استشهاد احد المؤمنين بالمسيح الذي ابدى استعداده لاستضافة العائلة المقدسة، كما ترويها الدراسة: "فلما عاد ودامون إلى أرمنت سمع عابدو الأوثان بوصوله، فجاؤوا إليه مسرعين وقالوا: هل الكلام الذي يقولونه عنك صحيح؟
فقال لهم: نعم أنا ذهبت إلى السيد المسيح وباركني، وقال لي: أنا آتي وأحل في بيتك مع والدتي إلى الأبد.
فصرخ كلهم بصوت واحد وأشهروا سيوفهم عليه ونال إكليل الشهادة فى مثل هذا اليوم".
 
تبليغ العائلة المقدسة بموت هيرودوس:
وتكمل الدراسة: "ويذكر المؤرخون: إن رجلاً من سبط يهوذا اسمه يوسي، وهو من أقارب مريم العذراء ويوسف النجار، جاء من بلاد الشام، وأمكنه بعد تعب كثير أن يصل إلى العائلة المقدسة في جبل قسقام. وقد أتى ليبلغهم بما فعل هيرودس الملك، وكيف قتل جميع الأطفال في بيت لحم وإذ علم بهروب الطفل الإلهي وأمه، أرسل عشرة جنود للبحث عن الطفل وأسرته والقبض عليهم أحياء ليقتلهم بيديه واحداً واحداً.
فلما سمعت العذراء مريم هذا الحديث، انزعجت وأسرعت فاحتضنت الطفل الإلهي وصعدت به إلى سطح الغرفة العليا التي أعدها القديس يوسف النجار له ولأمه للاختباء فيها، فطمأنها الرب يسوع وقال لها: "لا تخافي يا أمي ولا تبكي، فإن بكاءك يحزنني. إن الوقت لم يحن بعد ليسلـَّم إبن الإنسان، وسوف لا يعرف الجند مكاننا". وتطلع إلى القديس يوسف النجار وإلى سالومي وقال لهما: "لا تخافا". ثم وجه الخطاب إلى يوسى: "لقد تعبت من أجلنا كثيراً وتحملت مشاق السفر أميالاً عدة، إن أجرك كبير".
ثم قال له: "والآن استرح أنت، وهنا يمكنك أن ترقد". فأطاع يوسي وأخذ حجراً ووضعه تحت رأسه، وأغمض عينيه وما هي إلا فترة قصيرة حتى أسلم الروح".
"فلما مات هيرودس إذا بملاك الرب قد تراءى ليوسف في الحلم بمصر قائلاً: "قم خذ الصبى وامه، واذهب إلى ارض إسرائيل، فإنه قد مات الذين يطلبون نفس الصبي، فقام وأخذ الصبي وامه وجاء إلى أرض إسرائيل" (أنجيل القديس متى: 2: 19 ـ 21).
XXX
وأخيراً، ليسمح لنا القارئ في أن نعرض استنتاجاتنا من رواية ميلاد السيد المسيح وتداعياته، مع الإشارة مسبقاً إلى أننا اذا اختلفنا بالرأي مع بعض رجال الدين او الاوساط الدينية، فإننا لا نتعرّض وليس لدينا اية نية في التعرض للمفاهيم الدينية اللاهوتية بحد ذاتها، بل اننا لا نخرج عن "الشق البشري" من المفاهيم الدينية المسيحية ذاتها، التي تقرّ بالطبيعتين (الإلهية والبشرية) للسيد المسيح. ونحن نقدّم كل الاحترام للمفاهيم "الإلهية"، وبالمقابل نستخدم حقنا البشري في مقاربة فهم الجوانب البشرية وحسب في رواية ميلاد السيد المسيح وتداعياته. وفيما يلي بعض ملاحظاتنا "البشرية" حصراً:
ـ1ـ ان ميلاد السيد المسيح ليس حادثاً فجائياً مفصولاً عن الزمان والمكان (كصاعقة رعدية في صيف في صحراء)؛ بل هو ـ في طبيعته، وفي مكانه وزمانه ـ حلقة في سلسلة الصراع المستميت بين شعوب الشرق (والعالم)، من جهة، وبين الاستعمار العنصري "الغربي" والاستغلال الرأسمالي "اليهودي"، من جهة ثانية. ولا عجب في ان هذا الصراع ـ كان ولا يزال ـ يجد أصداءه في السموات، وفي ما وراء الغيب، طالما "ان الله خلق الانسان على صورته ومثاله"، كما يقول الدينيون، وطالما "ان وجود الله هو ضرورة إنسانية"، كما يقول الفلسفيون.
ـ2ـ كانت حركة الوعي والتنظيم الديني "الإلهي التوحيدي"، وهي ما يمكن تسميتها مجازاً "الحركة الابراهيمية"، تسير وتتطور بشكل موحّد في الظاهر على الأقل، حتى لحظة ميلاد السيد المسيح. ولكن الواقع ان تلك الحركة لم تكن موحدة، وانه كان يوجد في داخلها تيارات ومفاهيم مختلفة، واهمها اثنان:
ـ التيار الانعزالي ـ العنصري ـ الاستغلالي ـ الممالئ للسلطة الرومانية والطبقات الغنية ـ والساعي الى فرض سلطته المطلقة على "الأغيار"، وهو التيار الذي سُمّي فيما بعد "الدين اليهودي".
ـ والتيار الأممي ـ الإنساني ـ المعادي للسلطة الرومانية وللطبقات الغنية ـ المدافع عن الفقراء والمظلومين والعبيد ـ والمناضل لأجل تحريرهم، وهو التيار الذي سُمّي فيما بعد "الدين المسيحي".
وإذا كان التيار "المسيحي" (ما قبل المسيح) لم يكن بعد قد حمل اسماً مميزاً، فهذا لا يعني أبداً عدم وجوده. واذا كان من مصلحة "اليهود" والغرب الرأسمالي ـ الاستعماري المسمّم باليهودية طمس هذه النقطة، فإنه للأسف الشديد ان العلماء والمؤرخين الشرقيين، الدينيين وغير الدينيين، المسيحيين والمسلمين، لم يعطوا الى الآن الاهتمام الكافي لهذه النقطة التاريخية المفصلية. وهو ما تستغله اليهودية الانتهازية للظهور بمظهر الدين التوحيدي الاول، الاساسي والاصلي، وان المسيحية، ومن بعدها الاسلام، ما هما سوى "فرع"، او حتى "انشقاق" و"خروج" عن اليهودية.
والواقع أن "المسيحية"، كحركة وعي وتنظيم ونضال، بأشكال دينية، وجدت قبل المسيح بزمن. وعلى العلماء والمؤرخين، خصوصاً رجال الدين المخلصين تدقيق هذا الزمن وتحديده. والرواية المسيحية لميلاد السيد المسيح تؤكد هذه النقطة. اذ ان التيار "اليهودي" كان ينتظر "علامات" اخرى لمجيء المسيح، اي انه كان ينتظر مجيء "مسيح آخر" مختلف عن المسيح الذي "حقاً جاء". أما أنصار التيار "المسيحي" فصدقوا فوراً (أي كانوا مستعدين مسبقاً لتصديق) مجيء المسيح الفقير، الملاحق من قبل الرومان وعملائهم ويهودهم، وسجدوا له واحتضنوه وهرّبوه وآووه وأخفوه من وجه أعدائه. اي ان "المسيحية" لم تولد بولادة المسيح، بل ان ميلاد السيد المسيح جاء ليكشف وجود المسيحية قبل المسيح، وليكشف تماماً ويكرس نهائياً وجود "اليهودية" و"المسيحية" والتناقض التناحري التام فيما بينهما الى "يوم الحساب".
ـ3ـ جغرافية انتشار "المسيحية" قبل ميلاد السيد المسيح وبعده:
تحدثنا الرواية المسيحية عن "رعاة يبيتون في البادية" وعن "مجوس اقبلوا من المشرق" وعن فرار العائلة المقدسة الى مصر واختبائها فيها. وبتقييم منطقي ـ جغرافي هذا يشمل:
اولاً ـ المحيط الفلسطيني وسوريا وشرقي الاردن والنقب وغزة وسيناء، والعمق المصري، وشبه الجزيرة العربية وبابل وكلديا وربما فارس. وتفيدنا الرواية المسيحية ان "الرعاة" جاؤوا مباشرة للسجود للسيد المسيح، وهذا يعني ان "العلاقة المسبقة والثقة المسبقة" بهم كانت وثيقة، وهم المحيط الاول والاساس الاول للانتشار المسيحي. وفيما بعد سيقول المسيح لبطرس (الفلسطيني) "انت الصخرة، وعلى الصخرة أبني كنيستي". و"الكنيسة" لغوياً تعني "الجامع" او "الجماعة" او "الأمة". وبعد ذلك سيكرّس الاسلام اولوية وقدسية فلسطين برواية الإسراء والمعراج ذات الطابع الاعجوبي السماوي. (ومهما بلغ من غلاظة قلوب وعقول "الإسلاميين!" التكفيريين الذين يكفرون المسيحيين، فإنهم ـ اي التكفيريين ـ لا يستطيعون ان يتنكروا لأعجوبة الإسراء والمعراج، التي قدّس بها النبي العربي العظيم ارض فلسطين التي ولد وعاش فيها السيد المسيح).
اما "المجوس" الذين أقبلوا من "المشرق" فلم تكن العلاقة معهم بعد بهذا الثبات، وهم جاؤوا وسألوا اولا اليهود وهيرودس المتهود عن ميلاد المسيح، ثم سخروا من هيرودوس ولم يعودوا اليه ولم يسلموا المسيح.
اما اهل القبطية (التي اصبحت تسمى لاحقاً: مصر) فقد كانوا موضع ثقة تامة لملاك الرب وللمسيحيين الاوائل وارسلت اليهم العائلة المقدسة لتختبئ لديهم. وهذا يدل على وجود تنظيم "مسيحي" واسع الانتشار وصلب العقيدة في مصر قبل ميلاد السيد المسيح.
من هذه الجغرافية انتشرت المسيحية بتردد باتجاه الشرق (ما بعد شبه الجزيرة العربية والعراق)، ولكنها اتجهت للانتشار بقوة باتجاه الشمال والغرب: كيليكيا وآسيا الصغرى وبلاد البلقان، وجزر وسواحل اوروبا الغربية.
ـ4ـ المسيحية والعرب:
ان العلاقات بين الشعوب والامم، واقامة الدول والامبراطوريات الموحدة كانت تتم بصورة رئيسية بواسطة الغزوات والحروب وسيطرة أمة على أمة. وهذا ينطبق ايضاً على الشعوب القديمة التي تألف منها لاحقاً العالم العربي، اي شعوب سوريا وفلسطين ولبنان وما بين النهرين ووادي النيل وشمال افريقيا. ونظراً لخصبها وغناها الاقتصادي والحضاري، تعرضت منطقة فلسطين وسوريا ولبنان مراراً للغزوات الآتية من العراق ومصر. وحتى العشيرة اليهودية، التي امتهنت في مصر الفرعونية مهنة النخاسين ونظـّار العبيد، وبعد أن فرت من وجه المصريين الذين ضاقوا ذرعاً بها، تطلعت في وقت ما الى ابادة اهل فلسطين والاستيلاء على مدنهم واراضيهم. وقبل ميلاد السيد المسيح كانت مصر وسوريا وفلسطين وشرقي الاردن قد سقطت في قبضة روما. وجاء ميلاد السيد المسيح، وتحول المسيحية الى ظاهرة دينية واسعة الانتشار في المنطقة كلها، ليرسي اسس نمط جديد من العلاقة بين شعوب المنطقة بمعزل عن سلطة روما وعملائها، وضدها وضدهم. والعلامة المميزة لهذه العلاقة الجديدة هو كونها علاقة أخوية دينية. ولكن من المؤكد انه تحت العلامة الدينية، كانت هذه العلاقة تتشعب في النواحي الثقافية العامة، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، خصوصاً أنها تتم في ظروف مغايرة للسلطة القائمة ومعادية لها. وهذا ما يفسر، على سبيل المثال لا الحصر، بداية انتشار استخدام اللغة الآرامية، اي اللغة التي كان يتكلم بها السيد المسيح، والتي كتبت بها بعض الاناجيل، وكانت تتلى بها الصلوات المسيحية. وبكلمات اخرى، فإن ميلاد السيد المسيح وبداية الانتشار الواسع للمسيحية، دشنا الاسس الاولى للعلاقات الاخوية، غير السلطوية، بين شعوب سوريا ولبنان وفلسطين ووادي النيل وشبه الجزيرة العربية وما بين النهرين، التي تشكلت منها لاحقاً الامة العربية. واذا كان كلامنا يعجب او لا يعجب هذا او ذاك، فإنه لولا "هذه" المسيحية لما كان من وجود لـ"هذه" الامة العربية، ولكانت الامة العربية اتخذت شكل وجود مختلف تماماً عما صارت اليه. وحتى ايامنا الراهنة فإن المسيحية، بالرغم من كل ما طرأ عليها من تشوّهات، ذات مصدر "غربي"، فإنها ـ بانفتاحها الحضاري وقيمها الانسانية ـ لا تزال تمثل الجهاز الدماغي ـ العصبي للجسم العربي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب لبناني مستقل
 
 
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net