Tahawolat

درجت العادة في دول أوروبية عدة على تخصيص بعض ساعات من النهار لراحة المواطن وهدوئه. في فترة الظهيرة، مثلا، أثناء تناول الطعام أو بعد الظهر، أثناء ساعات القيلولة أو في المساء بعد ساعات العمل، يسعى المواطنون إلى احترام ساعات الراحة والهدوء لدى جيرانهم، وبالتالي على منع الصراخ وضجيج الأولاد ووقف أعمال البناء والتصليحات المنزلية. هو نوع من واجبات احترام الجار جاره وجانب من تقاليد مراعاة أحوال المرضى والمتعبين في أسرّتهم... لكن أن تتحوّل هذه العادة إلى مطلب سياسي يحمله حزب البيئة الألماني  (الأخضر) في برامجه الانتخابية ومطلبا في نشاطات جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان، وأن تصل حدود هذه المناسبة إلى  تخصيص يوم الرابع والعشرين من شهر نيسان/أبريل في كل عام، يوماً للراحة، وأن تصل إلى حدود ترتيب بعض الأنصبة والتماثيل الكبرى لأشخاص يتمدّدون للراحة في حدائق المدن الألمانية الكبرى... فذلك لم يكن متوقعاً!
في الرابع والعشرين من شهر نيسان/أبريل هذا العام احتفل العالم الأوروبي كعادته بذكرى "يوم الراحة"، واستمرت هذه الفرحة طوال الأسبوع الأخير من شهر نيسان/أبريل في معظم المدن الألمانية والأوروبية وبنسب متفاوتة (بحسب القوّة الشعبية لحزب البيئة وأنصار جمعيات حقوق الإنسان) وباتت الراحة  مطلباً وحقاً أساسياً في سلسلة الدفاع عن حقوق الإنسان.
والمقصود بحقّ الراحة تأمين مناخ الهدوء والطمأنينة وكافة العوامل والظروف التي تسمح براحة الإنسان العامل وارتياح عضلاته والتخفيف من همومه ومتاعبه. هكذا، كان المنع أو الحدّ، في بعض ساعات النهار، من نسبة الضجيج والصراخ وكافة العوامل الخارجية التي تؤدي إلى توتير الأجواء التي تحدّ من قدرات العامل المنتج، سواء بقواه الجسدية أو الفكرية، وتمنعه من التمتع بحقّ الارتياح والنوم، تمهيداً لممارسته حقّ العمل والإنتاج. ومن هنا، يتلازم الحقّان الشرعيان للإنسان، حقّ العمل وحقّ الراحة، وعليه، بات الحقّ بالحصول على العطلة السنوية، من الحقوق الشرعية التي نصّت عليها جميع قوانين وأنظمة العمل في العالم.
في بعض المدن الأوروبية الكبرى، وتحت شعار "الضجّة تلويث للبيئة" نزل أنصار حزب البيئة (الأخضر) وجمعيات الدفاع عن الحقوق الإنسانية إلى الساحات وباشروا عمليات استفتاء المواطنين حول نسبة رضاهم عن ضجيج جيرانهم ونسبة انزعاجهم من "زمامير" و"تشفيط" السيارات المسرعة والدراجات النارية، فجاءت النتائج كالآتي: 60 بالمئة من المواطنين الخاضعين للاستفتاء العام حول نسبة الهدوء والراحة في المدينة أبدوا انزعاجهم في الدرجة الأولى من جيرانهم … دائماً تقع المشادات الكلامية بين الجيران وتصل بعض الخلافات إلى حدود الاتصال بالشرطة بسبب عدم احترام حقّ الراحة. من هنا، أصدرت نقابة المستأجرين الألمان  بياناً حدّدت في مضمونه أنواع "الضجّة" المسموحة ونسبة تجاوز معدّلها، كما بيّنت ما هو واجب على المستأجر أن يتحمّله من أنواع للضجيج وأوقاتها، قبل مبادرته إلى الشرطة للشكوى الرسمية والاحتجاج.
وإلى ذلك، بيّنت بعض الاستفتاءات الأخيرة أن 54 بالمئة من المواطنين الألمان ينزعجون بالدرجة الأولى من ضجيج حركة السير ومحركات السيارات، وأن كل ثالث مواطن ألماني ينزعج من ضجّة سير القطارات، وأن كل خامس مواطن ألماني ينزعج من حركة الطيران الجوي (إحصائية صادرة عن  رئيس دائرة سلامة البيئة  أو في بريندلي (Uwe Brendle) .
وفي رأي الناطقة باسم حزب البيئة (الأخضر) منى نويباور أن الضجة المسموح بها هي 65  ديسيبل في النهار، و 55 ديسيبل في الليل. وتعتبر بعض جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان في سويسرا أن ضجيج السيارات والمحركات النارية يساهم - إضافة إلى "تعطيل" الراحة - بتلويث المناخ والإضرار بالحدائق والأشجار وصحة الإنسان.
ويسعى أنصار احترام "حقّ الراحة" إلى استصدار قرارات عن المجالس البلدية المحلية، تحدّد نسب الضجيج المسموح بها، فتمنع بعضها، أو تحدّد النسب الأخرى بحسب ساعات النهار.
ويصل الحال ببعض جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان في بياناتها إلى الربط بين خطر "الضجّة" كعامل معطل لحقّ الإنسان الشرعي بالراحة، وأيضا، انعكاسات خطر الضجة التي يتقصدّها البعض عنوانا لسرعة سيارته أو درّاجته النارية... على سلامة الإنسان وتهديدها أمنه وحياته.
 
تاريخ "عيد الراحة"
احترمت الديانات السماوية حقّ الراحة. إن الخالق سبحانه تعالى، خلق العالم في ستة أيام... وفي اليوم السابع استراح. من هنا كانت أيام الآحاد مخصّصة للعطلة والاستراحة، كي يتمكّن العامل من الراحة واستجماع قواه للانطلاق يوم الإثنين إلى عمله ووظيفته بنشاط وحيوية. ويمكن القول إن عيد "حقّ الراحة" بات موازياً في الحقوق الإنسانية لعيد "حقّ العمل". إن هذه القاعدة نشهدها بوضوح في صيرورة الطبيعة واستمرارية الحياة على كوكب الأرض. ويبدو ذلك جلياً في مراقبتنا للمواسم الزراعية... هكذا تكون بعض المواسم غنية النضج وغزارة الثمار، هي نتيجة لموسم استراحة. إن هذه القاعدة ثابتة في صيرورة الكائنات الحيّة حيث وصلت بعض قوانين العمل في بعض الدول التي تحترم مواطنيها إلى منح العمال نوعاً من التكريم والتقدير عبر منحهم حقّ التقاعد والتعويضات بعد سنوات العمل الطويلة.
انطلقت حركة "حقّ الراحة" في العام  1996، ومنذ هذا التاريخ راحت المدن الألمانية الكبرى، ومنها مدينة دوسلدورف، وخاصة حيث يتواجد أنصار حزب البيئة وجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان، تمارس احتفالاتها بذكرى احترام "حقّ الراحة" في 24 نيسان/أبريل من كل عام، أي قبل أسبوع من الاحتفال الرسمي بحقّ العمل في الأول من شهر أيار/مايو، وتتواصل الاحتفالات في بعض المدن طوال أسبوع، تقام خلالها ندوات الحوار المباشر مع الجمهور، وعقد ندوات فكرية كما ينزل الشبان والصبايا إلى الشوارع للقيام بسلسلة استفتاءات شعبية وطرح الأسئلة لمعرفة نسبة التمتع بحقّ "الراحة" الواجب تأمينها للمواطنين، خاصة في ظلّ التطورات التقنية السريعة المتصاعدة التي يشهدها العالم... كل ذلك انطلاقاً من شعار "الراحة حقّ شرعي للإنسان".
وفي هذا السياق، خصّصت بعض وسائل الإعلام (مجلة شتيرن مثلاً) صفحاتها للدخول في باب "المسموح والممنوع" في عالم الراحة والضجيج، وخرجت بعشر وصايا – على الأقلّ - متزامنة مع طبيعة التطور والتقدم التقني في عصرنا اليوم، ومنها:
 
أولا: ضجيج الأطفال والأولاد.
لا يعتبر ضجيجاً معطّلاً لحقّ الراحة، بكاء الأطفال أو ضحك الأولاد ولعبهم. على الجارّ أن يتفهّم هذه الوضعية... وجاء في بيان حزب البيئة (الأخضر) ما معناه: "بقدر ما يكون الولد صغيراً بقدر ما يكون واجب تحمّل الجار ضجيجه كبيراً وسموحاً... لكن على عائلة الولد أن تدرك أن للضجّة حدوداً معدّلها أن تبقى "معقولة ومحتملة"... وفي هذا المجال، فإن عائلة الطفل الذي يجهش في البكاء ليلاً أن تعمل ما وسعها على تهدئته بكافة الوسائل وعلى الجار أن يتفهم ويتسامح... وفي هذا المجال أيضاً، أن يتفهم الجار  ويتسامح حيال بكاء الطفل صباحاً قبل توجّهه إلى روضة الأطفال أو إلى المدرسة. (قرارات صدرت عن المجلس البلدي في مدينة ميونيخ في العام 2004).
 
ثانياً: لعبة كرة القدم، قيادة الدراجات والتزحلق.
اللعب داخل المنازل له حدود... إن لعبة كرة القدم مخصّصة للملاعب والحدائق والهواء الطلق، ولا تجوز ممارستها داخل جدران المنزل أو أروقة المباني.. كذلك ركوب الدرجات أو التزحلق على "الأحذية ذات الدواليب الحديدية"... إن أروقة المباني ليست ملاعب، وعليه، ليس جائزاً ترك الصغار يلهون ويلعبون بمصاعد المباني.
 
ثالثاً: طنين ساعة الحائط
تنصّ القوانين أنه يتوجّب على مالك شقّة السكن الإعلان صراحة في عقد الإيجار بوجود ساعة حائط بين مفروشات الشقّة، وكذلك الحصول من المستأجر ومن جاره في السكن على موافقته. والسبب يعود إلى انزعاج البعض من سماع طنين ساعة الحائط كل نصف ساعة (قرار محكمة المجلس البلدي لقطاع شبانداو في العاصمة برلين).
 
رابعاً: الهدوء في الليل
هذه الحالة هي أكثر الحالات احتراما وتركيزاً في قرارات محاكم مدن الولايات الألمانية. هذا يعني أن الصمت والهدوء واجب ما بين الساعة العاشرة ليلاً والسادسة صباحاً، بما في ذلك ممارسة أي عمل يصدر عنه ضجيج في الليل. وحدّدت بعض قرارات المجالس البلدية أنواع الضجيج والمستوى المسموح به ليلا بتلك التي تبقى محصورة بين جدران غرفة واحدة.. أما فترة  بعد الظهر ما بين الساعة الواحدة والثالثة فإن الضجة ممنوعة، ولكن لا يوجد نصّ لتحديد مستواها كتلك التي في الليل، لكن تقع على الجار مسؤولية إزعاج جاره في حال تخطى معدل ومستوى الضجيج المنطقي، كأن يقوم مثلا – في فترة قيلولة بعد الظهر - بإصلاحات منزلية داخلية بواسطة نشر الخشب ودقّ المسامير أو ثقب الجدران المشتركة بالآلات الكهربائية...
 
خامساً: استخدام الغسّالة والبرادي
تعتمد بعض المنازل على البرادي التي تحدث ضجيجا عند رفعها أو إنزالها وبالتالي توقظ النائمين المرتاحين وكثيراً ما تعطّل قدرتهم على معاودة الراحة والنوم. وهذه حالة كانت سبباً إلى وقوع المشاكل والخلافات بين الجيران، ما  دفع  مثلاً، ببعض مجالس بلديات المدن، إلى تحديد أوقات استخدام البرادي البلاستيك أو الخشبية بالساعة العاشرة ليلاً في الحدّ الأقصى. وفي السياق ذاته، كان تحديد استخدام الغسالة الكهربائية، أو المكنسة الكهربائية صباح يوم الأحد، في حال احتجاج الجار في المسكن.
 
سادساً: ضجّة الاحتفالات
لا يوجد أي نصّ أو قرار يحدّد أوقات استخدامها أو معدّل ارتفاعها. لكن درجت العادة على وضع إعلان عند مدخل المبنى، يعلم الجيران بأوقات الحفلة والاعتذار منهم مسبقاً. على أن لا يتجاوز معدل هذا النوع من المناسبات الاحتفالية ثلاث مرات في العام، وأن لا تتخطى مدتها الساعة العاشرة ليلاً.
 
سابعاً: عزف الموسيقى، الحيوانات المنزلية
تمنح المجالس البلدية المواطنين حقّ ممارسة العزف الموسيقي لكن في حدود معينة لنوعية الآلة وارتفاع الصوت أيضا ولمدة ساعتين يوميا، خارج دوام القيلولة والليل (الطبل 45 دقيقة يوميا وآلات العزف الوترية ساعتين).
أما بالنسبة لضجيج الحيوانات المنزلية، كعواء الكلاب ومواء الهررة وزقزقة العصافير والببغاوات، فكلها تجري بالتراضي بين سكان المبنى إلا في حال تضمن عقد الإيجار رغبة المستأجر بعدم اقتناء حيوانات منزلية معكّرة لراحته. من هنا، كانت المقتضيات تشير إلى أن الجيران بإمكانهم احتمال أصوات الحيوانات المنزلية (العصافير والببغاوات) بين الساعة التاسعة والثانية عشرة قبل الظهر، والساعة الثانية والرابعة بعد الظهر، ومن الممكن احتمال عواء الكلب في لحظات معينة وليس طوال اليوم... في هذه الحال، بإمكان المستأجر التقدم بشكوى إقلاق راحة إلى دائرة الشرطة وتحميل جاره غرامة إقلاق الراحة.
 
ثامناً: الملاهي والمطاعم
لا توجد قرارات بلدية تحدد دوامها، ولكن جرت العادة على "الاحترام المنطقي" لحق العامل بالراحة والنوم واحترام صاحب الملهى بتأمين أرباحه. ومن هنا كان الالتزام بقاعدة حقّ الراحة الذهبية والتي تقضي بعد الضجيج بعد العاشرة ليلاً.
 
تاسعاً: الحمّامات والمراحيض
على الجيران مراعاة راحة بعضهم حيال ضجيج المراحيض ولا توجد قرارات تمنع الغسل والاستحمام ليلاً، ومن هنا يجري العمل بقاعدة تأمين ما يمكن من مستلزمات الراحة، ومن دون تعمّد الضجة.
وإلى ذلك، فإن السكن في أواسط المدن يعني بالضرورة تحمّل بعض الضجيج في شبكات المياه داخل المبنى، وهذه الأمور يصعب ضبطها وتحديد نسبتها لكونها من مستلزمات المباني القديمة العهد، وعلى المستأجر معرفة هذه الوضعية.
 
عاشراً: آلات التدفئة العامة
في بعض الأبنية يجري استخدام آلات التدفئة العامة والتجفيف من الرطوبة الداخلية. ولكن عند تجاوز صوت آلات التدفئة العامة حدّا مقلقا ومعطلا لحق الراحة والنوم، فمن حقّ المستأجر مطالبة المؤجر بتخفيض قيمة الإيجار نسبياً (AG Schöneberg 109 C 256/07).
 
حقّ الراحة من حقّ العمل
تتفاوت ظروف نسبة احترام حقّ الراحة بين الدول، ويتجلّى هذا الحق في أسمى وأرقى معانيه بقدر تقدّم الدول واحترامها وتقديرها للحقوق الإنسانية حيث يتساوى الحقّان، الراحة والعمل مع بعضهما. إن حقّ الراحة لا يعني إطلاقا الكسل وعدم الإنتاج. إنه حقّ وواجب ومسؤولية. إن من يطالب بحقه في الراحة مطالَب بواجبه في العمل والإنتاج. هذه المساواة في الحقوق والواجبات هي أسمى ما تسعى إليه الحقوق الإنسانية في عصرنا الجديد.
 
 
 
كادر
من يطالب بحقه في الراحة مطالَب بواجبه في العمل والإنتاج. هذه المساواة في الحقوق والواجبات هي أسمى ما تسعى إليه الحقوق الإنسانية في عصرنا الجديد.
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net