Tahawolat

لا يعطي الكثيرون أهمية للثقافة بمعناها الاجتماعي، على اعتبار أن الثقافة هي مجموعة المعلومات التي يتحلى بها من يريد ما صنع تفهماً أشوه للنخبة (طبعاً يجب أن لا ننسى الخلط بين المنتجات الثقافية والثقافة المولدة للمجتمع أي الثقافة الحقوقية حصراً)، والذين اتخذوا شكل القبائل بدلاً من البحث عن مجتمع يتمثل الثقافة ومنتجاتها وأدواتها ومنجزاتها في طياته، ليصبح برمته نخبة مثقفة، في ضياع فوضوي عن المفاهيم والقبول بها عشوائياً كحالة عملانية لا مشاحة من الخضوع لها (أحزاب، سفارات، وزارات الخ)، لكنهم حقيقة تفرغوا لأسئلة وهمية، ومعارك متخيلة، ومواقع بعيدة عن المطلوب، وبدأوا في إنجاز صرحهم الثقافي الموهوم (منتجات ثقافية هامة)، محملين العمل في الإنتاج الثقافي على محمل الفعل الخيري، في ضياع واضح للبوصلة، ينصب أبناء الصدفة بصفة أبطال وقادة للرأي وذلك عبر التركيز واجترار وإعادة اجترار (يسمونها إعادة إنتاج) لما أسقطت فائدته بالتقادم، ما يعني عدم صلاحيته للوصل مع الحاضر (وهذه النقطة هي إحدى المعارك الوهمية الكبرى)، ومع ذلك يظل سيزيف صنماً مأثوراً لا يعطي العبرة لأحد، لأنه سيزيف الشرق أوسطي وهمي ومزيف، وصخرته لا تتحرك من مكانها، مع أن المشهد هنا يتعلق بواد، وليس بجبل، فما أنجزته وجربته البشرية موجود وواضح لأصحاب الإرادة، وليس المطلوب أكثر من المشاركة كي تتم الإضافة وتظهر الهوية، التي يصر الشرق أوسطيون، أنها موجودة قبلاً وسلفاً و(هذا وهم) وواجبة التبجيل والاحترام (وهذا مع معركته وهم أيضاً)، وعلى الإنجاز الإنساني أن يعقل ويتصرف بعدالة وإنصاف وتفهم (ورحمة) مع منجزاته هو والتي أنجزها لمجتمعاته هو وجربها هو ونجحت معه هو، ومع هذا فإن هذه الشعوب تطالبه بالصدق مع نفسه!!!، وبالإخلاص لها وتقديم مساعدة لهذه التجمعات البشرية المهمشة، مع أنها رافضة منجزه وغير مقتنعة به ولا تعمل على إنجازه، ولكنها تطلب (شمال جنوب وحواره مثالاً)!!!
لا نريد في هذا المقام أن بخس الجهد الثقافي والإبداعي ومنتجاته حقها، كما لا نريد اتهام المثقفين بالجبن فمع أنهم خائفون (نجيب محفوظ، فرج فودة، أمثلة) إلا أنهم ليسوا جبناء لا لشيء فقط لأن الجبن والشجاعة قيم مجتمعية تظهر في سياق الأداء الإنجازي للمجتمع، لقد قدم المثقفون جهداً كبيراً في سياق الإنتاجات الإبداعية، وفي كلا التيارين المنشقين عمودياً (ولا مجال هنا للمقارنة بين الإنجاز العالمي وإنجازاتهم) ولكنهم وكهيئة ثقافية احتاجوا الى دعم المجتمع أو على الأقل دعم هذه التجمعات البشرية، وهنا كانت كارثة الثقافة والمثقفين المتجاهلين لسؤال تأسيس (المجتمع) وكأنه موجود وهم يعملون داخله كأفراد (يمكننا مراجعة إحصائيات القراءة والنشر في العالم العربي)، ولكنه ليس موجوداً (فالملك عار)، ولا يستطيعون التأثير في هذه الجموع البشرية إلا من خلال تجاهل وتناسي الإنجاز الإبداعي العالمي، للدخول في التبسيطية الشعبوية التشخيصية، ومن هنا كان للشق التبسيطي ـ الممول بشدة ـ هذا النجاح الباهر في تشكيل أكثرية (ثقافية) قطعانية تناولت إقبالا (عنيفا طبعا) أو إحجاما (إحباطيا)، ورويداً حصل المثقفون على خطيئتهم القاتلة وباركوها عبر اعترافهم بالأكثرية وحقها بالخطأ أو وتحديدا القول حتى لو كانت الأكثرية على خطأ فهو الصواب مخرجين العقل من النوافذ، مخترعين معركة مكلفة ينشغلون بها "وإن كانت وهمية"، معركة نكايات وتخاصم قبلي على "العزة" و"الفخر" و"المنتجات المنحطة" (حرب لبنان الأهلية مثالاً)، مشوهين معنى الديمقراطية قافزين فوق (الحاجة الى مجتمع يستخدم الديمقراطية) فيه أكثرية بمعنى محدد وأقلية بالمعنى المحدد نفسه، تقومان بتفاعل بقصد الإنتاج، تحت شعارات مراعاة "الثقافات!!!" المحلية، والعادات والتقاليد والخصوصيات، قائلين ومستغلين (ما أفعل... إذا كانت أكثرية المجتمع هكذا، أوليسوا بشراً ويجب الخضوع لرأيهم حسب مدونة حقوق الإنسان؟؟!! وهكذا صار من الممكن الحساب العددي وقسره كي يكون ثقافيا، كل عشرة حدادين يساوون نجاراً "مثلا"، أو كل مئة غبي يساوون ذكياً واحداً وأيضاً مثلا، وهكذا يسقط من الحسبان كل النهضويين والتنيويرين ليعبث المثقفون برمال المجد (!!!!).
 ولعل الضحية الأولى لهذا التحول (بحكم التراكم الإعلامي)، كانت فلسطين، التي تغير معناها تماما، فمن مجتمع لا يكتمل ولا يحصل على خلاصه إلا بوجود كل أجزائه، بالمعنى التأسيسي للجماعة البشرية التي تنوي الإنتاج، إلى مجرد مكافأة ما ورائية، حيث كانت المقدسات جزءاً من المسألة فأصبحت بهمة المثقفين كل المسألة، ولا يمكن اعتبار هذا هجاء للمثقفين الشرق أوسطيين بقدر ما هو توصيف لحالة اليأس والحصار والازدواجية التي عاشوها لمدة قرن على الأقل، وكانت الحل أو المهرب من حال العثمنة واللورنسة والبرجينسكية، التي صبغت هذا القرن حسب الحاجة والمطلوب.
لم ينجح المثقفون الشرق أوسطيون بالإشارة الى حاجة "الأمة" الى مجتمع مؤسس لها، واعتقدوا أنهم يعيشون في مجتمع أو مجتمعات كتحصيل حاصل لهذا الحشد البشري، ينتقدون (نقداً بناء) بعض العثرات، وينتحبون لبعض الإساءات، ويهللون لبعض المكافآت والرشاوى، مخترعين سلماً من قش للارتقاء الشخصي أو الاجتماعي، ولم يصل نقدهم للكيانات السياسية الى أصل وجودها (وهو بالاصطلاح الخارجي على أية حال) بل توهّموا دائماً بأن السلطات دول!، والإدارات تنظيم اجتماعي ينظم حقوق الجماعات!، والتناقضات الدستورية العميقة هي حفاظ على هوية الأمة، وتصنم القوانين هو حل إسعافي للعقد الطارئة!، كما توهّموا أن أية مشكلة اجتماعية عضوية وكارثية هي عبارة عن مشاكل تحدث الارتقاء!، وكل هذا لم ينفع ولم يدفع بأية انطلاقة الى أي ارتقاء بل على العكس تماماً (ولم يلاحظ أحد ذلك!! إلا قليلاً من أجل كسر التعميم) فالدستور اللبناني صار مجرد طائف والفن المصري صار مجرد (محتشم أو خارج الإحتشام) (إعادة تمثال نهضة مصر من الأمور الشائكة جدا)، والإصلاح الديني صار مجرد (عودة الى الأصول)، وفلسطين صارت (أقصى وقيامة فقط)، والعراق مجرد (سنة وشيعة) والخ... والكل ينتج كتابة ومسرحاً وسينما وتلفزيوناً والخ على هذا الأساس، معتبرين أن ذلك معجزة وأنهم من الشعوب العبقرية، التي لا تدري أين هي ولا ما هي، ومع هذا تحصد الاعتراف والجوائز دون أن تؤثر فعليا أو إيجابيا في الجماعة البشرية المقيمة حولها، ذات الأكثرية الغالبة على أمرهم والمغلوبة على أمرها.
هل ما زلنا نتكلم عن انسداد ثقافي؟ الواضح هنا أننا نتكلم عن انسدادات ثقافية متراكمة ومتوحشة وانفجارها فرادى أو مجموعات لا يعني بتاتاً التخلص منها، فالمسألة بحاجة الى أدوات، وقد ضيع الشرق أوسطيون (بالأحرى لم يوافقوا بالأكثرية) لا على الأدوات ولا على استخدامها، وحشروا أنفسهم في قبور الماضي عبر إرهاصات عملية تطبيقية زادت من (عصة) القبر عليهم، وهذه الإرهاصات هي مجموعات الفشل الحيوي الذي تمظهر بصيغ تربوية غير قابلة للحل أو التطويع، حيث أصبح سلم الارتقاء نازلاً، فالجموع (الأكثرية) لا تفرق بين الاتجاهات، فكيف إذا كان الاتجاه نزولاً هو اتجاه إجباري بحكم الإمكانيات المتوفرة والحل الوحيد هو الثقافة الجديدة التي حلم بها النهضويون، ورتب لها التنويريون، وتعثر بها مجموع المثقفين المحدثين الذين أنتجوا وباركوا الانسداد الثقافي بكل معانيه الحيوية.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net