Tahawolat
ان اساس انطلاقي في هذا البحث هو مساءلة التفكير المطلق. هل الكون موجود بغض النظر عن محاولاتنا لتفسيره؟ تصوير هذا الكون يعتمد على عمل الحواس الخمس المعتمدة هي ايضا على صحة عمل الدماغ وتفاعله المتوازن مع البيئة التي تحيط به. ان هذا التفاعل يؤدي الى بناء صور لهذا الكون المادي في الدماغ والعقل الواعي. فالاول هو العضو الحي اما الثاني فهو نتاج التفاعل بين هذا العضو والحوافز التي تثيره (Stimulus). هذا النتاج تترجمه مجموعة من التصرفات. ولكن علينا الأخذ بعين الاعتبار ان هذه الصور التي بناها العقل ليست صوراً طبق الاصل عن الكون الخارجي، بل نماذج تشكلها مختلف مراحل التطور النفسي بشكل مقرون بالتأثير الاجتماعي والثقافي الذي حصل ويحصل عبره هذا البناء الصوري. لذا نسأل: هل من  معنى لوجود الكون بدون العقل البشري الذي يتصوره؟

ان هذا يعني ان الحقيقة التصويرية للكون، ايٌّ كانت، مرتبطة اولا بكفاءات الانسان الحسية التي تعتمد على حسن عمل اعضائه الحيوية. هذه الاخيرة تسمح له بجمع المعلومات التي تحيط به والتي منها سوف تنبثق شخصيته. فيكون التصرف الناتج ليس الا خلاصة الخبرات الحياتية المتفاعلة في اللحظة الآنية مع الواقع البيولوجي من جهة والواقع البيئي والاجتماعي من جهة اخرى.
كل هذه المشاعر وهذا الوعي هي جزء لا يتجزأ من حياتنا الداخلية الشخصية. هذه المشاعر شخصية، اي أن فهمها غير ممكن إلا للشخص الذي يختبرها. فهي ليست جلية ولا يمكن وصفها من خلال درس الدماغ او من خلال التواصل الشفهي لانه لا يؤمّن الوصف الشامل والدقيق لهذه الخبرة الادراكية. ان المشاعر والتصورات الفكرية والأفكار والأحلام التي تنتابنا لا يتحسسها الا الانسان الذي اختبرها. لكن ماذا لو كان ذلك الشعور مجرد وهم؟ بما أن معظم الوظائف العقلية تعمل على نحو غافل أو في اللاوعي أي بشكل لا إرادي، هل يمكن لوعينا المدرك أن يؤثر على أداء عمل إرادي حر؟
لكن لا بد من التسليم بأن هذا المجال العلمي يحتمل اكثر من قضية مفاهيمية واحدة ما يجعل التعاريف الفلسفية الحديثة تتضارب او على الاقل لا تتطابق. بعض رواد الفلسفة يصفون الارادة الحرة على أنها القدرة على اتخاذ قرارات عقلانية في غياب الاكراه. اما فريق آخر من الفلاسفة فيضعها في سياق "الكونية التجريدية" (Universalism) التي تقول انه وعلى الرغم من كل ما حدث في الماضي يبقى للانسان كامل الحرية في اتخاذ اي قرار. هذا بالاضافة الى الفلسفة الميتافيزيقية الكلاسيكية التي  تقول بوجود قوة روحية توجه القرارات.

في سياق الكلام عن التصرف الناتج عن خبرات الانسان التفاعلية لا بد من النظر في مسألة الخير والشر وكيفية ظهورهما في مختلف المجتمعات. إن مفاهيم الخير والشر في الجماعات البدائية أسست لتنظيم سلوك الأشخاص فيما بعد. فإذن يتعين علينا  العودة الى اصل السلوك التعاوني في الاجتماع البشري. ان كيفية تعامل الجماعات البشرية، النازلة في بيئة معينة، بين بعضها  البعض يقرر بقاء او فناء تلك الجماعات. مثالاً على ذلك كان الرجال يتعاونون من أجل تأمين الطعام وحماية الجماعة من  الاخطار الطبيعية. وأي خلاف في هذا النطاق قد يعرض المجموعة لخطر التفرقة والزوال. لكن المجتمعات المبنية على التفكير الأخلاقي الحديث لم توجد بين ليلة وضحاها، فقد مرت ألوف السنين قبل ان يفهم البشر ان المشاعر مثل الخجل والذنب والخوف من الانعزال يمكن استعمالها من أجل ممارسة ضبط النفس وعمل الخير. التفكير الأخلاقي الحديث يتمثل في احترام نسبية التفكير العقلي، اي نسبية المعتقد والمشاعر والرغبة والمعرفة التي تشكل بوتقة خاصة بكل انسان كما ذكرنا. ولان للبشر قدرة لا يملكها سواهم من الكائنات الحية، هي القدرة على تصوير الحالة السيكولوجية للشخص الآخر وبالتالي تفّهم واحترام بوتقته الخاصة، يكون هذا الفهم هو اساس سلوكيات التعاون والتسامح والدفاع عن الآخر ومصالحه في المجتمعات العاقلة.



مراجع
مقدمة في علم النفس العصبي، الدكتور محمد عبدالرحمن الشقيرات ، الطبعة العربية الاولى: الاصدار الأول ،٢٠٠٥

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net