Tahawolat
                                     
  رب سائل تراوده أفكار كالتي تشغل تفكيرنا في كل مرّة تحلّ مناسبة أو عيد أو ذكرى تاريخية. وهذا التفكير وإن كان يحتل المساحة الأكبر في رأسنا وعلى الدوام، نظراً لما للوطن الكبير من قيمة ونظراً لما تسببه أوضاعه المتردية من ألم في نفوسنا ومن هم وقلق على مصير الأمة والهوية والحضارة، فإننا نتساءل دائماً وباستمرار ما يمكن فعله لدرء خطر الفناء والاضمحلال، فهمنا الوطن ثم الوطن ثم الوطن، فبمن نتعظ؟
  والإجابة هي دائماً متوفرة شرط أن نعرف أين نجدها ومن أي مصدر نستقيها، فتأتي المناسبات والأعياد لتذكّرنا بأسماء من صنعوا أمجاد هذا الوطن من خلال تفانيهم الى حدّ الشهادة من أجل بقائه عزيزاً، قوياً ومستقلاً، فبهؤلاء القدوة نتعظ ومن خلال مسيرتهم نستمر ونستمد الدعم والقوة وهذه هي وظيفة إحياء ذكراهم وليس لسبب آخر.
  وأسماء الرجال العظماء معروفة ولحسن الحظ، ولطالما تغنّت بهم أقلام الكتّاب والمؤرخين، ومتداولة على الدوام، ولكن ماذا عن النساء؟ ورب سائل يقول وهل هن موجودات أصلاً؟ والجواب بل هن موجودات وأكثر بكثير مما يمكن تصوّره ولكن رغم وجودهن فهن مجهولات. مجهولات نعم رغم شهرتهن وانتشار تكريمهن انتشاراً قوياً، إلا أنهن يبقين مجهولات من حيث الدور الكبير الذي لعبنه كثائرات وشهيدات الوطن. تلك النساء هنّ وباختصار، القديسات السوريات، شهيدات الكنيسة الأولى كما يعرفن اصطلاحاً، وتزخر الرزنامة المسيحية الشرقية والغربية بأسمائهن الكثيرة كما وتكثر الكتب عن سيرهن، ولكن كقديسات وشفيعات فقط ليس إلا. فهل بذلك غيّبن أم حفظن في ذاكرة التاريخ؟ وهل هن حكر على فئة معينة من الناس أم هن مثال لكل المواطنين والمشتركين في الوطن الواحد والقومية الواحدة؟
سؤال معقّد وصعب الإجابة
  نعم، إنه سؤال صعب والجواب على سؤال صعب وشاق كهذا، فهل هن شهيدات الكنيسة أم الوطن، ثائرات لأجل الدين أم الأمة؟ لماذا ثرن ولماذا خضن الصعاب ولماذا استشهدن وضد من كان صراعهن ونضالهن؟ وثمة من يجاوب أنهن ضحيّن بأرواحهن من أجل إيمانهن وديانتهن وأن نصرة الدين هي نصرة الوطن نفسه وهذا أمر أكيد ولا خلاف عليه، فالدين هو العزة والكرامة والوطن والأمة لأنه أحد أهم عناصر القومية. ولكن هل كان الدفاع عن الإيمان هو الحافز الأكبر لإقدام تلك الثائرات على الشهادة والموت من أجله، أم كان لهدف آخر يوازي الإيمان قوة وقيمة وموقعاً؟ هنا تبدأ مسألة التعقيد في الإجابة، فالصعوبة تكمن أولاً في المفاهيم والتسميات: فهل هن ثائرات أم شهيدات؟ في نظر الكنيسة هن شهيدات وهي وإن كانت تقبل تصنيفهن كثائرات إلا أنها تتحفّظ على اعتبارهن صاحبات مبادرة في الثورة من أجل رفض المستعمر وحماية الوطن، لأنها تنكر، أصلاً، وجود الثورة السورية الوطنية المغيّبة من التاريخ والمعتّم على أحداثها رغم كل الأدلة المتوفرة والواضحة عنها، تلك الثورة ضد المحتل الروماني والبرهان عليها هنّ تلك الثائرات الشهيدات اللواتي مشين على خطى معلمهم السيد يسوع المسيح، فالثورة منذ صلبه وقيامته ظلّت ناشطة وإلا ما معنى قيامته، فهو لم يمت بل شبّه لهم وظل حيّاً في أتباعه الثوار السوريين، والثورة ظلت حيّة، ناشطة، مستعرة، وربما قويت أكثر منذ ثورة المسيح ضد روما وتحولت الى ثورة أتباعه، ومن هؤلاء الأتباع تلك النسوة اللواتي استشهدن وهن لا عدّ لهن ولا حصر ومنهن القديسات المعروفات بشهيدات الكنيسة، واللواتي اعتبرن أنهن ثرن من أجل نصرة الإيمان ليس إلا. وقد ورد ذكر تلك القدّيسات في السنكسار اللاتيني نقلاً عن حوليات القدّيس ثيوفانيس المعترف، الذي تعيّد له الكنيسة في الثاني عشر من شهر آذار والذي رقد في العام 818 م. وعن حياة القديسات يراجع مصدر مهم هو كتاب "قاموس آباء الكنيسة وقديسيها مع بعض شخصيات كنسية" للقمص تادرس يعقوب ملطي. وحتى نوضّح المسألة أكثر، يجب علينا تحديد العدو الذي ناضلت ضده تلك الثائرات الشهيدات، من خلال الفترة الزمنية التي عشن خلالها، وهو عصر الإحتلال الروماني لسوريا، فمن الطبيعي أن يناضل سكانها ضد المحتل على خطى معلمهم السيد المسيح. ولهذا علينا ذكر مثال عن تلك الشهيدات وسرد قصة حياتهن باختصار لتبيان حقيقة الأمر.

الثائرة الكبيرة بربارة
  واسمها، بحسب تحليلنا اللفظي، يعني البارة البارة وهو توكيد بالسريانية أي الحرّة مرتين، وتصادف ذكراها في الرابع من كانون الأول، حيث يحتفل بعيدها على شكل مميّز من خلال التخفّي بلباس ممّوه أو التنكر، وذلك من أجل تسهيل هروبها، فالأغنية الشعبية السريانية تقول "هاشلة بربارة مع بنات الحارة؛ عرفتا من إيديها ومن لفتة عينيها ومن هاك الإسوارة". إذن، لقد تخفّت الصبية وهربت، ولكن ممن ولماذا ولماذا تعرّف عليها البعض وأفشى سرها، فهل من خونة عملاء عملن على فضح أمرها للأعداء؟ ولماذا احتفظت الكنيسة بذكراها الى اليوم؟ فقد نالت بربارة شهرة فائقة في الشرق والغرب، ويقال إنها احتملت الكثير من أجل إيمانها، وأثّرت في عدد كبير من النساء إذ يحكى أنه بسبب ثباتها، آمنت من خلالها صديقتها القديسة يوليانة بالسيد المسيح، بل وتقدّمت للاستشهاد، وارتبطت سيرتها ببربارة، وتعيّد لهما الكنيسة القبطية في 8 كانون الأول، وتعيد لهما الكنيسة الغربية واليونانية في 4 ديسمبر (كانون الأول). وننقل سيرة بربارة حرفياً كما ذكرها المرجع:
نشأتها: وُلدت بربارة في قرية "جاميس" التابعة لمدينة ليئوبوليس بنيقوميدية (آسيا الصغرى كانت جغرافياً سوريا الكبرى)، في أوائل القرن الثالث في عهد الملك الطاغية مكسيمانوس الذي تولى الملك سنة 236 م.، وكان والدها ديسقورس شديد التمسك بالوثنية ويكره المسيحيين. لما شبّت بربارة، خاف عليها والدها من مفاسد العصر نظراً لما كانت تتصف به من جمال فتّان، ووضعها في قصر يحيط به العسكر، ملأه بالأصنام، وجعل فيه كل أنواع التسلية. كانت بربارة تتلقى أرفع العلوم، محبة للتأمل، إذ اعتادت أن ترفع نظرها نحو السماء تتأمل الشمس والقمر والنجوم، تناجي الخالق الذي أوجد الأرض وكل ما عليها لأجل الإنسان. أرشدها بعض خدّامها من المسيحيين إلى العلامة أوريجينوس (Origène)، فاشتاقت أن تلتقي به. وبالفعل إذ زار تلك البلاد، التقت به، فحدّثها عن الإنجيل، فتعلق قلبها بالسيد المسيح، ونالت المعمودية دون أن تفاتح والدها في الأمر. التهب قلبها بمحبة الله فنذرت حياتها له، واشتهت أن تعيش بتولاً تكرّس حياتها للعبادة. تقدم لها كثيرون من بينهم شاب غني، ابن أحد أمراء المنطقة، ففاتحها والدها في الأمر حاسباً أنه سيبهج قلبها بهذا النبأ السعيد، أما هي، فبحكمة، اعتذرت عن الزواج. وإذ كان والدها مسافراً لقضاء عمل ما، أرجأ الأمر إلى حين عودته لعلّها تكون قد استقرت في تفكيرها. طلبت منه أن يبني لها حماماً قبل سفره، فلبَّى طلبها، وفتح لها نافذتين لزيادة الإضاءة، أما هي فحوّلت الحمّام إلى بيت صلاة، متعبّدة لله بصلواتٍ وأسهارٍ وأصوامٍ بلا انقطاع. حطمت بربارة كل الأوثان، وأقامت صليباً على الحمام وعلى أعلى القصر، كما فتحت نافذة ثالثة، وكما جاء في الذكصولوجية (التمجيد) الخاصة بها: "نور الثالوث القدوس أشرق على هذه العذراء القديسة بربارة، عروس المسيح".
عذاباتها: تحدّت قسوة والدها، إذ رجع من سفره، لاحظ هذا التغيير الواضح، فسألها عن سبب ذلك، فصارت تكرز له بالإيمان بالثالوث، وكيف يجب على المرء أن يؤمن بالله الواحد المثلث الأقانيم، فاستشاط غضباً وأخذ يوبّخها بصرامة، أما هي فلم تبالِ بل بصراحة ووضوح كانت تتحدث معه عن إيمانها وبتوليتها، فثار الوالد وانقض عليها وجذبها من شعرها وهمّ ليضربها بالسيف، فهربت منه وانطلقت من باب القصر، وكان أبوها يركض وراءها. وقيل إن صخرة عاقتها في الطريق لكن سرعان ما انشقت الصخرة لتعبر في وسطها، ثم عادت الصخرة إلى حالها الأول. أما والدها إذ رأى ذلك، لم يلن قلبه الصخري بل صار يدور حول الصخرة حتى وجدها مختبئة في مغارة، فوثب عليها كذئب على حمل، وصار يضربها بعنفٍ، ورجع بها إلى بيته. هناك وضعها في قبوٍ مظلم كما في سجن. وروى ديسقورس للحاكم ما جرى وطلب منه أن يعذبها، لكن إذ رآها مرقيان، تعلق قلبه بها جدًا وصار يوبّخ والدها على قسوته ويلاطفها ويعدها بكرامات كثيرة إن أطاعت أمر الملك وسجدت للأوثان، أما هي فبشجاعة، تحدثت معه عن إيمانها بالسيد المسيح. جُلدت القديسة بربارة حتى سالت منها الدماء، ومزّق جسدها بمخارز مسننة بينما هي صامتة تصلي. ألبست مسحاً خشنة على جسدها الممزق بالجراحات، وألقيت في سجنٍ مظلمٍ. وإذ كانت تشعر بثقل الآلام، ظهر لها السيد المسيح نفسه وعزّاها كما شفاها من جراحاتها، ففرحت وتهللت نفسها.  استدعاها الحاكم في اليوم التالي، ففوجئ بها فرحة متهللة، لا يظهر على جسدها أثر للجراحات فازداد عنفاً، وطلب من الجلادين تعذيبها، فكانوا يمشّطون جسدها بأمشاط حديدية، كما وضعوا مشاعل متقدة عند جنبيها وقطعوا ثدييها؛ ثم أمر الوالي في دناءة أن تساق عارية في الشوارع. صرخت إلى الرب أن يستر جسدها فلا يُخدش حياؤها، فسمع الرب طلبها وكساها بثوب نوراني. رأتها صديقتها يوليانة وسط العذبات محتملة الآلام، فصارت تبكي بمرارة، وإذ شاهدها الحاكم، أمر بتعذيبها مع القديسة بربارة، وبإلقائها في السجن، فصارتا تسبّحان الله طول الليل. أمر مرقيان الحاكم بقطع رأسيهما بحد السيف، فأخذتا إلى الجبل خارج المدينة وكانتا تصليان في الطريق. وإذ بلغتا موضع استشهادهما، طلب ديسقورس أن يضرب هو بسيفه رقبة ابنته فسُمح له بذلك، ونالت مع القديسة يوليانة إكليل الاستشهاد. ويقال إن جسد القديسة بربارة موجود حالياً في كنيسة على اسمها بمصر القديمة. وقد رأى بعض المؤرخين أنها استشهدت بهليوبوليس بمصر.
 سيرة تتشابه وتتكرر
  وسيرة بربارة تشبه بتفاصيلها سيرة القدّيسة تقلا، المعروفة بأولى الشهيدات.
والتي يحتفى بعيدها في 24 أيلول. فقد وُلِدت نحو السنة العشرين، في مدينة إيقونية من والدين وثنيين وغنيين. وكانت جميلة وذكية ومثقفة جداً. خُطبت لشاب وثني لا يقلّ عنها شرفًا وجاهاً. ولمّا مرّ بولس الرسول في مدينة إيقونية نحو السنة 45، سمعته تقلا فأعجبت بتعاليمه واستنار عقلها بنعمة الله. وبعد أن تفهّمت التعاليم الإنجيليّة، اعتمدت ونذرت بتوليتها لله، وعكفت على الصلاة والتأمّل. فسألتها والدتها عن هذا التبدّل في حياتها، فأجابتها أنه ثمن اصطباغها بماء العماد المقدّس وإيمانها بالمسيح الذي نذرت له بتوليتها، فثارت الأمّ وغضب خطيبها وأهلها وأخذوا يقنعونها بالكفر، فلم تسمع لهم، فشكتها أمّها إلى حاكم المدينة، فأخذ يتملّقها الحاكم فلم تعبأ بتهديداته، فأمر بإضرام النار، فرمت تقلا بنفسها في النار مسرورة، إلاّ ان الله حفظها، فنزل المطر وأطفأ النار وسلمت تقلا، فتركت بيت أبيها ولحقت بالقدّيس بولس ورافقته في أسفاره حتى أنطاكيا، حيث بقيت تبشّر بإنجيل المسيح. علم بها والي إنطاكيا فأمر بطرحها للوحوش عارية، فستر الله عريها، ولم تؤذها الوحوش أبداً. فأعادها الوالي إلى السجن. وفي اليوم التالي، رُبطت إلى زوج من الثيران الهائجة، فكادت تقلا تموت ألماً، فخلّصها الله بأن أفلتها الثوران؛ فحار الحاكم بأمرها، وألقاها في هوّة عميقة مملؤة حيّات سامة، فلم تؤذها. دهش الجميع وذهل الملك، فطلبها وسألها كيف تنجو من هذه المخاطر، فأجابته: "أنا عبدة يسوع المسيح ابن الله الحي. هو وحده الطريق والحقّ والحياة وخلاص من يرجونه"، فأطلقها الوالي أمام الجميع حرّة سالمة؛ فخرجت وأعلمت القدّيس بولس بكلّ ما جرى لها، فمجّد الله معها. ثمّ أخذت تبشّر في مدينتها وفي القلمون ومعلولا وصيدنايا.... ثمّ ماتت بعمر تسعين سنة ودُفنت في سلوقيا، وأضحى قبرها نبعَ نعمٍ وبركات.
موطن واحد لكل تلك الثائرات، هو سوريا
  في الواقع، إن الرجال العظام تبنّت ولاداتهم وأمكنة دفنهم مدن عديدة، لذلك لا يعرف على وجه التحديد المكان الأصلي الذي نشأوا فيه ولا حتى أين دفنوا، ولعل المثلين الأشهرين عما نسوقه هو كل من هوميروس، صاحب ملحمتي "الإلياذة" و"الأوذيسة" والذي تنسب ولادته الى مدن عديدة ويعود السبب في ذلك، بحسب الرواة، الى عظمته وتباهي المدن بانتمائه إليها، ولكن الحقيقة هي أن الغموض يلف سيرته لقدمها فضاعت تفاصيلها كبرهان على قدم هذه الشخصية؛ والثاني الإسكندر المقدوني المعروف بذي القرنين والكبير، وهو المحتل الأكبر للشرق، إذ لا يعرف على وجه التحديد مكان دفنه، فمن المؤرخين من يقول إنه قتل ودفن في بابل، أو إنه دفن في "سيوه" وهي الحدود الصحراوية بين ليبيا ومصر، حيث تنبأ له الإله أمون رع بفتح الشرق، ومنهم من يسوق أنه دفن في صيدا والناووس الذي وجد فيها والذي يحمل اسمه والمعروض حالياً في متحف اسطنبول يشهد على ذلك، أو أن جثمانه نقل لاحقاً الى بلده الأم مقدونيا حيث التحق بعائلته المدفونة في العاصمة بيلا، الى آخره من التكهنات. والأمر لا يختلف بالنسبة للشهيدات اللواتي تبنتهن الكنيسة وهن عديدات، والتفاصيل التي حيكت بها سيرتهن، تبرهن أنهن سوريات المنشأ، مشين على خطى أجدادهن وجداتهنم في التصدي للمحتل بتحمل أقسى أنواع العذاب والاضطهاد حتى من قبل أقرب المقربين إليهن من ذويهن، لأن "ظلم ذوي القربى أشد مضاضة... على المرء من وقع الحسام المهند"، بحسب تعبير طرفة بن العبد وما من نبي بين أهله حتى ولو كان المسيح نفسه. فاضطهدت الثائرات السوريات من قبل أهلهن أولاً وهذا طبيعي، فأول من يضع العصي في الدواليب هم أصحاب القضية أنفسهم، إما تقاعصاً أو جبناً أو خيانة، فيهود الداخل ما زالوا يعملون وبراحة تامة في زمننا. أما الدليل على سورية تلك الثائرات فنستشفها من تفاصيل الروايات المتشابة نفسها فالصخرة التي يؤمها الزوار في معلولا ما زالت ماثلة للعيان الى اليوم والأغنية الشعبية التي تصف بحذافيرها هروب بربارة أو تقلا أو غيرهن من الثائرات تدل على حركتهن الثورية التي سعوا من خلالها للتصدي للمحتل الروماني وقبله المحتل الهلنستي وقبله الفارسي، ومن الطبيعي أن تتشابه الحكاية وتفاصيلها تشابهاً كبيراً، ومن الطبيعي أن تتبنى المدن والأجيال المتلاحقة وصولاً الى الكنيسة، تلك النسوة العظيمات اللواتي صنعن أمجاد الأمة، فهن لا يمتن بسهولة، بل يحيين في الضمير والوجدان الشعبي وعلى نهجهن تسير الأجيال المتلاحقة؛ فكم من ثائرة رمت بنفسها في النار وهي عادة فينيقية سورية قديمة قدم الأرض نفسها، منذ إليسار في قرطاجة الى صفو نسب الى زنوبيا الى الشهيدات بربارة وتقلا وغيرهن الكثيرات ممن لم يعطين الحظ نفسه في حفظ أسمائهن؟ 
هل استوفت الثائرات حقهن بجعلهن شفيعات وقديسات؟
  لقد كُرّست الكنائس والمزارات في العالمين الغربي والشرقي لتكريمهن كقديسات وشفيعات، يؤم مراكز تكريمهن وعبادتهن الملايين من المؤمنين سنوياً، فهل هذا بقليل تجاه تكريمهن؟ هل هذا بكاف؟ هل هن راضيات عن المنصب والمكانة التي وصلن إليها عبر الزمن؟ ويقيناً، أسمح لنفسي الإجابةَ بالنيابة عنهن: لا، هذا ليس بكاف وليس هذا المرجو من إنجازاتهن. ولم يفيهن هذا التكريم حقهن، بل لعب ضدهن بشكل ساهم في تحجيمهن وتغيبهن عن ساحة النضال القومي والوطني، تماماً كما حجّم دور السيد المسيح الوطني والقومي. فإذا كان السيد المعلم قد حُجب دوره القيادي والريادي في الثورة لأجل الأمة وحريتها، فما بالك بأتباعه، ألا يلحق بهم التعتيم نفسه وعلى دورهم الريادي في متابعة الثورة ضد المحتل الروماني؟ لما هذا الكم من الاضطهادات؟ أبسبب الإيمان؟ نعم! ولكن ما هدف الإيمان؟ هل هو التعبد والصلاة والطقوس والمراسم وليس أكثر، أم هدفه الوطن والحرية وعزّة ابنائه وكرامتهم وانتشالهم من براثن العبودية والظلمات؟ فإلى من يبحث عن ثوار وثائرات سوريا، هاكم سيرتهم فلا تهملوها بل اقتدوا بها وانهجوا نهجها!
هل يظلمن مرتين في التاريخ؟
  نحن نرفض رفضاً قاطعاً كل من تسوله نفسه التحقير بمناسبات وأعياد وذكرى سنوية كهذه واعتبارها مجرد وسائل لغايات مادية واقتصادية، فالرمز الذي تنطوي عليه الذكرى لهو أهم بكثير من كل ما سحب عليها من اعتبارات ويحمل أبعاداً وأهدافاً كبرى وله مدلوله القومي والوطني، فالمشكلة ليست في التقليد الموروث بل في من لا يفهم قراءة التاريخ وغاياته والى ما يرمي إليه من فكر قومي يعلو على الاعتبارات الرخيصة أو التقليد المبتذل. كما نرفض رفضاً قاطعاً تحجيم دور تلك البطلات القوميات الى دور التعبد والصلاة ليس إلا، فهذا مضر بحق القضية التي ناضلن من أجلها وبحق الهوية المشتركة بين أبناء وطنهم الذي افتدوهم كلهم على حد سواء من أجل بقائهم. كما ونرفض احتكار الطوائف والمذاهب لتلك الشهيدات لأنهن انتمين الى الوطن أولاً وآخراً. فهل بعد من ينكر أهمية التاريخ المحفوظ في التقليد والتراث؟ لا تهملوا إرثكم وتراثكم بل تعلموا كيف تقرأون أبعاده ومدلولاته ولا ترموا حجراً في البئر الذي تشربون منها، وكفانا تضليلاً وتزويراً!
* باحثة وأستاذة جامعية
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net