Tahawolat
وحلّق إيلي عند ساعات الفجر الأولى بعربته الذهبية فوق سماء بلادي وهو على عجلة من أمره لاستطلاع التضاريس والطبيعة ليرى مشهداً يؤسف عليه وتدمى له العيون والقلوب. كم هي كبيرة خيبته وهي ما لبثت تتعاظم منذ سنين وقد بدأ يفقد كل أمل وكل تفاؤل بمستقبل أفضل. فالطبيعة خاصته في تراجع مضطرد وعجزه يزداد رغم كونه أبا السنين وحامي الزمن والكون. فماذا يمكنه أن يفعل إزاء الأعمال التخريبية للبشر؟ هو واحد أحد وحيد وهم كثر بعدد الرمل أو النمل لا فرق. هم مخربون لا عدّ لهم ولا حصر وهو لا حول ولا قوة له. فعلاً، لقد عجز أمام جهل البشر المدمّر!
إنها يد مخربة يحركها إيليّكم ضد إيلي. إيليّكم هذا الذي ابتدعتموه، ينشر الخراب والدمار والحرائق في الطبيعة، يشوّه ويسوّد المنظر ويحوّل الجنات الى قبور في كل مرة تقومون بتكريمه على طريقتكم في مواسم الأعياد. أما إيلي فهو إله الحق والخير والجمال، إله النور والحياة، هو إيل الحيّ، القيوم، مبدع الخلق والقيامة ولا طاقة له على تحمل لون السواد لأنه نوراني، شمسي، ينير الكون والحياة.
إيليّكم نهم لا يشبع من رائحة البارود والشحار والدخان المفسد للجو والبيئة وكلما أشعلتم الدنيا قال: زيدوني بعد، فهذه روائح تسكرني، وأما إيلي فهو يتوق لرائحة البخور واللبان والورود والأريج الذي ينبعث من الطبيعة الرطبة في كل يوم يشرق عليها بأشعته، ويلاحق بنظره الثاقب فلول الطيور وأسراب الفراشات تنتقل بين جبال ووديان بلادي الخصيبة دون ورع من حدود اصطناعية رسمها الطامع المحتل.
 إيليّكم يطرب لصوت مدافعكم ومفرقعاتكم الصينية الملوثة للبيئة والمدمرة للرئة ويطرب لصوت صفارات إنذار شاحنات الإطفائية المسرعة لإخماد الحرائق التي سبّبتها مدافعكم التي دفعتم ثمنها من جيوب أطفالكم وصحتهم، أما إيلي فيتحسّر على الوقت الضائع لهؤلاء الإطفائيين وللهدر الكبير للوقود التي تستهلكها شاحناتهم والتي تزيد التلوث تلوثاً والاختناق اختناقاً.
إيليّكم يقهقه في سرّه ساخراً من هبلكم الذي يحرق كل شيء في سبيل إرضائه، أما إيلي فيدمع وينزف ألماً على ما حلّ بحفيداته الأشجار التي التهمتها نيرانكم في أحراشه وممتلكاته. فإيلي بعكس إيليّكم، لابس الجلباب الأسود، إيلي هو شجرة خضراء، نضرة، موردة، ضاحكة وإسمه يدل عليه إذ يعني الشجرة، شجرة الحياة تلك التي بدأت قصة الخلق معها منذ بزوغ أولى الحضارات في سوريا. وإيلي هو نبتة الحياة الخالدة والتي، منذ جلجامش، ما زال البشر يتوقون إليها. إن اللغة التي نقلها أجدادنا، أولاد إيلي الحقيقي، أبناء سوريا السوريون، الى أصقاع العالم، ابتداءً من أرض اليونان وحتى أقاصي الأرض، ما زالت تحتفظ بلفظ (إيل) في التعبير عن الشجر، ف(ela) هي الشجرة بالإغريقية وليس أي شجرة، بل هي الشجرة المقدسة وبتعبير آخر، الإلهة. هي أثينة حامية المدينة والزيتون شعارها ومن هنا كلمة (huile/oil) التي تعني الزيت وهو المادة المستخرجة من الزيتون (olive) بالفرنسية، والزيت هو النور والنور هو إيل/الله. تأملوا، الله هو الشجرة مبعث الحياة!
إن  إيلي يتوسّل إليكم أن ارحموني وكرّموني بما يرضيني وهو الحفاظ على ما ابتدعته لكم من جمال وصحة متمثلة بالطبيعة الخضراء، أما إيليّكم فيقول: لا تردوا على هذا المسكين فهو يبكي على الأطلال ويريد أن يرجعكم الى عهد بدائي ولى زمنه الى غير رجعة، عهد يسمى بداية الحضارة حيث كان الإنسان يكرّم الطبيعة ويتعبّد لها، جاعلاً من كل عنصر فيها إلهاً، أكان نباتاً أو حيواناً أو حجراً جماداً، بينما أنا، إيليّكم، فأحثكم على مواكبة التطور الصناعي ومنتجاته حتى ولو كانت تحمل الدمار والهلاك لكم، استهلكوها وكما شئتم ودمروا كما شئتم، فلا وقت لديكم للعودة آلاف السنين الى الوراء حيث كان أهم تكريم لإيل المسكين ذاك، والذي كانوا يسمونه الجبّار، هو زرع الأشجار والعناية بالحدائق وتكريم آلهة المواسم بحيث كان لكل موسم إله يحميه. فمن له جلد بعد على تكريم الورود والزهور والعناقيد والقمح وغيرها؟ ولماذا تكرّم وهي متوفرة في أكياس بلاستيكية على رفوف المخازن ويمكن الحصول عليها في أي وقت كان دون الاهتمام لما يتكبده المزارع والفلاح من عناء لتأمينها؟ من يأبه لما يفعلون، فنحن مستهلكون وحسب وندفع مقابل ما نشتري وكفانا هموماً أخرى؟!
إيلي يطالبكم بالعودة الى التراث، الى الزمن الذي كانت تزرع فيه الأشجار لتكريمه في أعياده، أما إيليّكم فما برح يردد: احرقوا ما تبقى من عرق أخضر حتى تكبر غابة الباطون فالناس بحاجة للمساكن، أتنفس الأوكسيجن أم الغازات السامة، فما الفرق؟ المهم ان يعيشوا ليدمروا وحسب!
إيلي يطالبكم باحترام مخلوقاته ورد الاعتبار لها وتكريمها بشكلها الطبيعي الذي خلقها عليه، وإيليّكم يقول: بل حوّلوا الورود في أعياد الوردية الى أصنام حجرية واركعوا لعبادتها وأقيموا المراسم والصلوات والابتهالات والطواف لتكريم أصنامكم هذه واقطفوا الأزهار لترشوها عليها وإن لم تجدوا وروداً طبيعية لأن الطبيعة قد ماتت من جراء قتلنا لها، فما من مشكلة فالورود والأزهار الاصطناعية لا تشتكي من شيء بل بشرائكم لها تشجعون الصناعة وتحيون الاقتصاد. أما بالنسبة لانعدام الرائحة فيها، فلا مشكلة أيضاً، رشوا عليها الكولونيا.
إيليّكم يكره الحياة ويحب الجماد وكل ما هو صنمي الطابع، منعدم الروح، أما إيلي فيحب النبض الذي ينبعث من كل عنصر حي في الطبيعة التي خلق، فهو حيوي لا يعرف السكون، في حين إيليّكم يعشق السكوت والموت والعدم والفناء.
إيلي يحثكم على قراءة ما ابتدعه من فكر ويحثكم على العمل بموجب تعاليمه  وهي الثورة على الظلم والفقر والاحتلال والدمار، أما إيليّكم فقد حجّر الفكر والحضارة والابداع، فقعدتم تتعبدون للحرف مهملين الفكر، فغدوتم يهوويين وسبتيين بامتياز ورحتم تحرقون الشموع  تكريماً للكتب وليس لمبدعها.
إيلي يحثكم على أن تتجمعوا لإحياء أعيادكم ومناسباتكم القومية والتراثية وأن تتحلقوا حول قبولة النور وليس النار وهكذا تقوون باتحادكم وتستطيعون مواجهة أكبر قوة معادية تتربص بكم وبأرضكم، أما إيليّكم فيبث في روحكم الحقد على جاركم وابن بلدكم ويقول: تفرقوا وليعيّد كلٌّ بكيد جاره وإزعاجه قدر الممكن وليذهب تراث أجداداكم الجامع والموحِّد للمجتمع أدراج الرياح فما لي وللآخر؟ نفسي ثم نفسي ثم نفسي، ما همي الجماعة ومصالحها فأنا فرد لي حريتي وكل شاطر بشطارته!
إيلي يرفع سيف الحق والعدل بوجه العدو وسيف ناره لا تنطفيء ويطرد أولاد الأفاعي من بيت أبيه ويطالبكم بأن تسلكوا سلوكه وتمشوا بركبه، أما إيليّكم فيطالبكم بعدم الاكتراث لما يحدق بكم من خطر إلغاء وجودكم وتاريخكم، فما همّكم التاريخ البالي والذي هو مجرد روايات ملفقة؟ فلا تتعظوا ولا تتداركوا، بل غوصوا في جهلكم الى أبعد حدود الجهل وليذهب الوطن الى الجحيم!
حرائق، شحار، دخان أسود، إطارات مشتعلة على الدوام، لا ترى نيرانها من كثرة السحب السوداء التي تتصاعد منها، طرقات ملتهبة وأحراش متآكلة حتى لا نقول غابات فهذه العبارة لم تعد تصلح في لبنان فما من غابة موجودة! نفوس سوداء وقلوب تعسة جامدة، لا تتحرك الأجساد التي تحتويها إلا بأمر من الغريزة من أجل استهلاك الملذات والأخطر بأمر من العدو الذي يأمر مستأجريه عبر التواتر والتويتر وغيره من أنواع التوتر العصري بحرق بلادهم، أرضهم وعرضهم بأيديهم، ويروح يبث فيهم من نظرياته في علم النفس مما ابتدعه مقدِّس الغريزة، الصهيوني الأكبر ومدمّر الحضارة والقيم وكل ما هو سامي ومتسامي، المدعو أبو علم التحليل النفسي فرويد. أليس حق للبشر أن يعيشوا بحرية ودون قيد أو شروط أو ما يسمى الأنا الأعلى ويطلقون العنان للغريزة  كما يقول علم النفس الذي يحث على التنفس وعدم الاختناق؟ وكيف لا نختنق ونحن مجبرون كلنا على تكريم إيليّكم الذي ابتدعه لكم أرباب الجهل، هؤلاء السحرة المشعوذون، أصحاب «الجلابيب السود»، مسوّقو الموت والجماد وأعداء الحياة والقيامة والتجدد؟ فإذا «أردت أن تقضي على أمة فاقضي على ثقافتها»، كم يلتزم أعداء بلادي بهذا القول!
لقد صلب من أجل أن تحييوا أنتم، فلماذا لا تحيون؟ لقد صلب من أجل أن تسعدوا أنتم وتتنعموا بحياة كريمة وعزيزة، فلماذا لا تسعدون؟ الى متى يبقى إيلي مصلوباً وينادي: إيلي ايلي لما شبقتني؟ والى متى أبقى مع إيلي الحقيقي ذاك أردد: إيلي إيلي، لماذا شبقت بلادي وشعبها؟ ما أكثر حاجتنا لك اليوم!
ارحمنا أيها الرحيم، ارحم بلادي، أشفق على شعبي فلم يعد بيننا وبين الفناء الا شعرة!
استاذة الفنون و الأثار في الجامعة اللبنانية
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net