Tahawolat
 
هل يكون على اللبنانيين بعد اثني عشر عاماً على يوم التحرير أن يستعيدوا الكلام على الخامس والعشرين من أيار (مايو) 2000 من باب آخر . ونقصد بهذا الباب، غير ذاك الذي يُراد لنا أن نُدفع إليه دفعاً وسط مناخ عربي مشرّع على فتنِ و منازعات أهلية لا تبقي ولا تذر؟
نحسب للوهلة الأولى أن يكون للسؤال أثر مفارق. ذلك أنه يتأتى من ريب مقيم، في أن تستعيد النفس السياسية الإسرائيلية نصابها من هزيمتها، ولو جاءت هذه المرة على أجنحة الحروب الأهلية المفتوحة .
ولنا أن نقرأ المفارقة من وجهين متقابلين :
 الأول : حيث لا يسع أي عاقل، أنى كانت محمولاته الايديولوجية وأحكامه ، ألاّ ينصف المقاومة حقها بأن بدّلت مفاهيم الصراع في المنطقة وأقامتها على نشأة أخرى. ولا يسع أي كان  إلا أن يرى الى ما حدث على أنه انجاز استثنائي، وفِّر للعرب ربما لأول مرة بعد نكبة فلسطين، أن يفارقوا ولو ببطء عتمة الهزيمة المتمادية.
أما الوجه الثاني، فهو نقيض الأول ، بحيث لو قرأنا المشهد على قياس الاحتلال وأفعاله و بالأخص على صورة الفتن الداخلية، لقلنا إننا أمام خطر محدق .  فقد دلّت الوقائع الأخيرة على نموًّ لافت في مشاعر الإحباط  لتحتل مساحة إضافية وواسعة في مجتمعاتنا الأهلية والثقافية والسياسية.
قد يكون علينا لكي نبقى في باب الضوء، أن نحتسب بعناية امتدادات الفتنة ، كأن نتبيَّن التهافت الثقافي، و الفكري والسياسي الذي حلَّ كغيمة سوداء في السماء العربية، خصوصاً بعدما شكل تحرير جنوب لبنان  اللحظة النادرة لما جاز لنا أن نسميه بـ « الزمن العربي المفارق».
الذي يهمنا في مثل هذا الإشكال هو المُنعَقَدُ الذي ينبسط فيه الواقع الثقافي العربي اليوم على الإختيار الحاسم بين جبهتي الاحتلال والمقاومة.
فما لا يُشك فيه ،أن التحولات التي يشهدها المشرق العربي المحاذي لفلسطين، أطلقت مناخاً معاكساً تماماً لذلك المناخ الذي زامن تحرير القسم الأعظم من الأرض اللبنانية قبل نحو عقد مضى . و لعل من قرأ المشهد الأخير من السنوات المنصرمة سيلاحظ هذا المؤدى:
أولاً ـ استشراء سريع «لنزعة تسليمية» بحصاد العولمة الأمنية والعسكرية، الى الدرجة التي غدت فيها مقولة الغزو والاحتلال لدى رهط وازن من المثقفين، أدنى الى عقيدة سياسية للتخلص من أنظمة الحكم .
ثانياً ـ قبول تدريجي للخطاب الثقافي والأيديولوجي والسياسي المتشكل على قاعدة الانقسام الطائفي والمذهبي . واللافت أن مثل هذا الخطاب يظهّر من جانب نخب كانت لزمن مديد حاملة لهموم الوحدة  والإستقلال والحرية ، وشريكة في مشروع المقاومة والتحرير.
ثالثاً ـ النموذج  التفكيكي الذي قدّمه الفكر السياسي الغربي في  خلال حقبة المحافظين الجدد و الذي أُريدَ له أن «يُستنسخَ» على مدار الشرق الأوسط الكبير، بدا وكأنَّه يؤلّف الصورة «الممتازة» عن الاحتدام الصريح بين التشظي والوحدة ، ولقد وجدنا كيف ظهرت اختبارات هذا الفكر على شكل حروب احتلال وغزوات وارهاب وفتن داخلية (عرقية وطائفية ومذهبية).
المستهدف الأبرز في هذا كله هو الولاء للقضايا الأساسية التي تتأسس عليها الهوية الوطنية بأبعادها المختلفة. تلك التي لو ظلَّت على حيويتها لتعثَّر الإستهداف، ولآلَ  العبث بأطروحة المقاومة بما هي الأطروحة الأكثر جاذبية للوجدان العام الى الفشل المحتوم ....
العقل السياسي الإسرائيلي يدرك أن ما حلَّ به في الخامس والعشرين من أيار 2000 كان زلزالاً لم يفلح الى الآن بالنجاة من آثاره . حتى اذا وقعت حرب تموز 2006 بنتائجها المباشرة والبعيدة تضاعفت الآثار و اشتدّت الهواجس لتصل الى حدود الذورة.
تخبر الصورة الآن، أن المسعى لما يزل هو نفسه لإحراز انقلاب في الوضعية اللبنانية . وهو سعي يجري بالتوازي مع التحولات التي تعصف بعدد من الساحات العربية ، بغية إعادة تشكيل المنطقة تبعاً للمقاس الاسرائيلي سياسياً وثقافياً وأمنياً.
وعلى الرغم مما يشكّله التصدّع العربي من مصدر أمان للتفكير الاستراتيجي الاسرائيلي ، فإن المشقة الكبرى التي يواجهها هذا التفكير هو استشعار القلق حيال إمكان امتلاكه القدرة على  صناعة حقائق الامن الإقليمي .
كذلك يدرك العقل الإسرائيلي وهو ينظر إلى هذه الحقيقة، كم كان لثقافة الحبوط والانهزام على امتداد اكثر من نصف قرن ،من مفاعيل حاسمة في نشوء الكيان وقيامة الدولة اليهودية. وسيجد الإسرائيليون فيما يحصل من تمزّقات عربية ،تلك اللحظة النادرة لإعادة صوغ ثقافة الإكراه و الغلبة.
ما لا يقبل الجدل ،هو  تماثل الرغبتين الأميركية والإسرائيلية في إعادة تطبيع النفس العربية مع مقتضيات الإحتلال وثقافته. ومن ينظر الى حركة  التحولات ، يتبيّن له الحجم الهائل للمساعي الآيلة الى جعل «الفتنة العربية» سياجاً أمنياً بعيد المدى لحفظ الوجود الإسرائيلي من الضعف والتبدُّد . ويمكن أن نقرأ واقع الحال على ثلاثة خطوط :
الأول: السعي لبنانياً إلى جعل حدث التحرير في  الخامس والعشرين من أيار 2000 ، وحدث الانتصار في تموز 2006. خارج الذاكرة اللبنانية والعربية والإسلامية، تمهيداً لجعلهما خارج الذاكرة الإسرائيلية .
ثانياً: السعي فلسطينياً إلى جعل الانتفاضة، والمقاومة المسلحة، ضرباً من الدراما العبثية، وأن التمسك بهما لتحقيق آمال الشعب الفلسطيني في التحرير والعودة، هو ضربٌ من التمرد على السلام ونظير للإرهاب.
ثالثاً : السعي الى تحويل حركة الشارع العربي وثوراته الى فضاء عارم من الفوضى والاحتراب الداخلي . الأمر الذي يفضي الى إسقاط مقولة العداء لإسرائيل وانتزاعها من قاموس الثقافة السياسية العربية المعاصرة.
لعل أبرز المقدمات التي سبقت خطوط العمل المذكورة، أن عكفت الاستراتيجيات الإسرائيلية المتعاقبة على فصل لبنان عن تداعيات الصراع مع إسرائيل، و بالتالي الوصول إلى حدود شمالية آمنة بتغطية من الأمم المتحدة. ولم يكن القرار 1559 ضمن هذا المنطق من تسلسل الأحداث، سوى حادث مستأنف ليُعاد إنتاج الغلبة الإسرائيلية وارجاعها الى صورتها الأولى.
غير أن الاحتمال الإسرائيلي على هذا الصعيد ما لبث أن ظهر مثقلاً بأعباء وتعقيدات لا حصر لها. فالبوابة اللبنانية التي أخرجت جيش الاحتلال الإسرائيلي مذلولاً من زواياها الحادة، أخرجت كذلك، الشارع العربي  من عقدة الخوف والتشاؤم وعدم الثقة. فالجبهة الجنوبية على كل ما يقال فيها وعنها، لا تزال بعد اثنتي عشرة سنة على التحرير تمكث في تلك المنطقة الرمادية بين الخط الأزرق وخط النار، وذلك عائد في حقيقته إلى نسبة قوى ارتسمت حقائقها السياسية بين أيار (مايو) 2000 وتموز (يوليو) 2006، لتجعل الحالة الإسرائيلية في وضعية  قلقة لا نظير لها من قبل ...
ما يجعل التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي مملوءًا بالقلق، ليس فقط تلك «المنطقة الرمادية» على الحدود مع لبنان، وإنما هو الأثر العميق لحادث التحرير. فلقد ابتعث التحرير أطروحته في مقابل أطروحة الاحتلال، وسيكون لهذا التضاد و التقابل مفاعيله الجدية على الميراث المشؤوم للأيديولوجيا العربية المهزومة ، التي تشكلت مبانيها ومفرداتها من تداعيات النكبة الأولى في «أيار» 1948 و الثانية في «حزيران» 1967.
هنا حصراً يمكث القلق الأصلي في الفكر الإسرائيلي بإزاء تحولات ما بعد الخامس والعشرين من أيار (مايو) 2000. حيث ستؤسِّس مقاومة الاحتلال ونتائجها المحقّقة في جنوب لبنان لإمكان استراتيجي قوامه: تسجيل الهزيمة على عدو ظلَّ إلى زمن قريب أشبه بكائن خرافي لا تشوبه شائبة الوهن والإنكسار . و بالتالي ولادة  مسارات جدية لثقافة  جديدة ستطاول العمق الأيديولوجي لفلسفة التفوق في العقل الإسرائيلي . فإذا عرفنا أن هذه الفلسفة هي عنصر تأسيسي في النشأة الإسرائيلية كدولة وكيان، فإنَّ تهافتها يعني منطقياً وعملياً  تهافت أحد الأركان الأساسية لمشروعها التاريخي .
إنَّ ما تدفع به واقعة التحرير في أيار 2000، يتجاوز السياسي/ الأمني بتعريفاته الشائعة. لقد أطلقت هذه الواقعة السؤال الاستثنائي حول نهاية المشروع الإسرائيلي. فلقد رأت إليه، لا كاحتمال سياسي/ أمني وحسب، وإنما أيضاً وأساساً كقضية ثقافية ومعرفية وفكرية سيكون لها آثار حاسمة على مستقبل المنطقة وتحولاتها.
  * رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمقة

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net