Tahawolat
بدأت الحضارة في العالم حول الانهر، واقدمها حضارة ما بين النهرين او ميزوبوتاميا او بلاد بابل او بلاد الرافدين او العراق.
بقيت اساطير بابل مجهولة لزمن طويل ما خلا بعض المقطوعات من كتاب برعوشا (بيروسوس) الكلداني البابلي، الذي كتب باليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد، وقد حفظ اوسابيوس القيصري المؤرخ الكنسي هذه المقطوعات بهدف المقارنة بين المسيحية من جهة والوثنية من جهة اخرى، والبرهنة على صحة المسيحية وبطلان الوثنية.
اما اليوم، وبفضل عشرات الالوف من الالواح الطينية المدونة بالمسمارية والمكتشفة في بابل وآشور، فقد زادت معلوماتنا عن هذه الميثولوجيا منذ قرن ونيف فقط. هذه الالواح تشكل وثائق اصلية لم تدخل اليها يد التعديل بل النقص والتلف، وبفك رموز اللغة المسمارية وقراءة النصوص المكتوبة تبين انها تختلف كثيراً عما جاء به برعوشا، كما تختلف بتفاصيلها حسب المنطقة التي اكتشفت فيها. في الشمال ام في الجنوب، في الوسط ام في آشور، وحسب زمنها، اهي تعود الى الالف الثالث ام الثاني ام الاول قبل الميلاد، ومع كل اكتشاف جديد نرى كم كان المؤرخون يجهلون آلاف السنين في معتقداته ومؤسساته وفنونه، بينما كان في تطور مستمر حضارياً حتى الف سنة خلت عندما خيمت عليه العصور المظلمة.
بالنسبة لبلاد بابل كان العالم الثالث كله سهلاً واسعاً يخصبه نهران عظيمان هما دجلة الذي دعاه السومريون “ادجنا” والساميون “دجلات او حداقل او دقلاث” (طوله 1900 كلم)، والفرات الذي دعاه الساميون “فراتو” والسومريون “بورانوتو” (طوله 3580 كلم) ويحدّ هذا السهل جبال عالية في ثلاث سلاسل هي زاغروس وطوروس ولبنان، وهذه السلاسل الثلاث تحمل قبة السماء كغطاء، والكل يطفو على محيط غير محدود من الاتساع والعمق.
كيف خلق هذا العالم ومن خلقه؟
لقد طرح هذا السؤال في سومر منذ ما ينيف عن خمسة آلاف سنة.
وكانت بلاد ما بين النهرين آنذاك، غير موحدة بل كل آرام كانت تعيش نظام الدولة المدنية، وهذه المدن كانت مستقلة كل منها عن الاخرى الا في فترات مختلفة، ثم كانت احداهن تهيمن على باقي المدن مثل كيش ولكش وأور واوروك واريدو وايسن وسيبار... الخ في سومر، ورغم ان هذه المدن تكلمت لغة واحدة واستعملت كتابة واحدة الا انها حافظت على تقاليد ومعتقدات خاصة بها. فهذه شفيعها الشمس “اوتو” وتلك القمر “نانا” او الزهرة “إنانا”... الخ، كما ان مدينة نيبور (نفر) كانت مركزاً دينياً مشتركاً اذا تركزت فيها عبادة “انليل” او “الاب انليل” او “الجبل العظيم”.
واما بابل فلم تكن سوى مدينة صغيرة بين العديد من المدن حتى اتخذها حمورابي عاصمة لامبراطوريته الواسعة نحو )1800 ق.م). وما ان ارتفعت “باب الله” بابل بين المدن حتى ارتفع الهها مردوخ الى المقام الاول بين الآلهة، واخذ يمتص ويحتكر صفات الالهة الاخرى حتى اصبح هو الخالق بدل آلاف الالهة السومرية واصبح رئيساً لمجمع الآلهة وساحق قوى الشر الذي يرى كل شيء ويسمع كل شيء، ظهرت بذلك مرحلة جديدة بين تعدد الالهة او البوليثية (politheism)، والتوحيد او المونوتية (Monothesim) وهي الهينوتية (Henotheism). ان الهينوتية لا تنكر الآلهة وتعددها لكنها تختار الهاً سيداً من بينها هو الإله الرئيسي والبقية ثانويون في مراتبهم ومهامهم السماوية والارضية. وقد دام المعتقد الهينوتي ممثلاً في مردوخ البابلي وآشور الاشوري ويهوه العبراني حتى بلغ الانسان طور التوحيد مع النبي عاموس نحو 750 ق.م.
لقد عبد سكان بلاد الرافدين قوى الطبيعة مؤنسنة في آلهة عديدة، كل قوة تمثل احدى الارادات السماوية، هذه القوى والاحداث الطبيعية كانوا يرونها ضرورية لبقائهم وبقاء قطعانهم وزرعهم وتربتهم ومياههم. وكي يشعر الانسان بوجود دائم لتلك القوى اوجد الصور المقدسة والمعابد والطقوس والدراما الدينية، ومثلوا الآلهة بصور مركبة خيالية ثم اعطوها اشكالاً بشرية.
ومن الاشكال الخيالية الممثلة للآلهة، آلهة الغيوم الممطرة “امدوغود” (Imdogud) التي مثلوها طائراً اسوداً ضخماً له رأس اسد يزأر بصوته الرعد، يطير باجنحة ممدودة هائلة الحجم في الجو. كما كان “ننغرسو” (Ningirus)، اله الحرب يمثل طيراً له رأس اسد، يزمجر كالمياه ويندفع نحو البلد المعادي وكأنها العاصفة. ومثل “اوتو” (Utu) إله الشمس بقرص الشمس، ثم اصبح له شكل انسان يشع من جسده الضياء. وباو (Bau) إلهة الكلاب والشقاء كانت تتميز برأس كلب. ولم تعط الآلهة الهيئة البشرية بوجه عام حتى بدا عصر السلالات الحاكمة واصبحت الآلهة تقف وراء الاحداث الطبيعية دون ان تكون فيها او منها او بشكلها واعطيت القاباً شبيهة بالقاب الحكام والملوك، فكلمة “إن” (En) تعني “رب او سيد” اي القوة الموجهة والموحدة للحدث الطبيعي مثل “انليل” السيد الهواء اي محدثه. ودخلت “إن” هذه في اسماء عدة آلهة منها: انليل، انكي، اناماش، انفارا، اندوكو... الخ
كلمة “لوجال” (Lugal) تعني الرجل العظيم اي ملك وخصوصاً القائد في الحرب. وقد دخلت في عدة اسماء مثل لوجال بندا، لوجال غيرا، لوجال كيشا، ولوجال زاغيزي. ثم صار الالهة ملاّكاً لارض واسعة واقطاعات تعود لمعابدها، يديرها كهنوت وعوام كالاوقاف الدينية في عصرنا الحاضر. وكحكام للمدن اصبحت الالهة مسؤولة عن مصالحها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما كان للآلهة المهتمين بالسياسة والمجتمع “ديموقراطيتهم البدائية” يجتمعون في نيبور برئاسة آنو وانليل لينتقوا الامراء والملوك ويقرروا مصائر المدن والحكام ومن سيسقط ومن سيرتفع. هكذا بعد ان كانت الالهة قوى طبيعية اصبحت قوى تاريخية، ووزعت مهامها الاجتماعية. فربة الولادة نينتو (Nintu) اعطاها انكي مهمة زيادة التناسل، ودموزي (Dumuzi - تموز) القوة الغريبة في الاغنام التي تصنع الحليب وتضعه في الاثداء اصبح الاله الراعي مهمته العناية بالقطعان والسهر على الحظائر.
وآخر شكل في الديانة البابلية كانت الالهة القومية متمثلة في مردوخ البابلي واشور الاشوري يرأسان مجمع الالهة في كل منهما، ويمثلان النزاع على السلطة بين مملكتي بابل وآشور بقيادة الملكية المطلقة. لقد بقيت الآلهة القديمة ولم يتغيّر البانتيون، انما انحصرت الزعامة في مردوخ او في آشور واصبحت باقي الالهة ادوات في يد الاله الاكبر.
انليل هو مردوخ            القائد في المجالس
نبو هو مردوخ             اله الحسابات
سين هو مردوخ            ينير الليل
شمش هو مردوخ            يقيم العدل
هدد هو مردوخ            اله العواصف والامطار
وبحصر الزعامة وحدت الصفة السياسية للدين وصار الإله مسؤولاً عن السياسة الخارجية والحرب والقضايا الداخلية والاخلاق والعادات والتقاليد. وقد اوجد مفهوم الإله الحاكم نوعاً من الورع والخضوع والاتكالية “لا تهتم بمشاكل القوة والسلطة، اوكل امرك الى نبو ومردوخ واجعلهما يفتكان باعدائك” هذه كانت نصيحة نبوبلاصر لخلفائه. وحتى في الصلوات نرى التائب يزحف مترحماً امام الالهة طالباً غفران الخطايا التي ارتكبها دون علمه. واخيراً اعتقد الناس ان لكل انسان “الهه الراعي” او “الملاك الحارس” القادر على طرد الشياطين وقوى الشر. فاذا مرض انسان فهذا يعني انه قد اخطأ نحو الالهة يدافع عنه إلهه الشخصي او إلهه الراعي ليمنع عنه شيطان المرض. لذا الفت المزامير والتسابيح لاستعادة رضى الآلهة ومن هذا الادب نما الاهتمام بمشكلة الاتقياء الذين تأتيهم المصائب دون سبب ظاهر. فلا يجدون السبب الا في قلة فهم الانسان لارادة الخالق لان الانسان لا يمكنه ان يرى ما تراه الالهة الخالدة، ولا ان يفهم مقاصدها، كما انه “لم يولد طفل لام بلا خطيئة”.
هذا النوع من الادب الديني الذي نجده في سفر ايوب من العهد القديم، حيث يصاب الانسان الصالح بالكوارث بفقدان رزقه ثم اولاده  ثم يصاب بجسده فينهشه المرض دون ان يدري ما السبب فيدور حوار فلسفي بينه وبين اصدقائه ويحافظ على وفائه لخالقه وتمجيده لاسمه قائلاً: “الرب اعطى والرب اخذ فليكن اسم الرب مباركاً”.  واخيراً يرضى الله عنه بعد محنته ويتحنن عليه ويرد له الخير والصحة. هذا الادب يمثل فلسفة عميقة اقلقت عقول البشر لكن قصة وفلسفة سفر ايوب قد سبقهما نصان قديمان احدهما سومري والآخر بابلي يمثلان الحكمة نفسها


آراء القراء

1
26 - 6 - 2012
This has made my day. I wish all postings were this good.

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net