Tahawolat
بسم الله الرحمن الرحيم
قراءة في كتاب (محمد السيرة السياسية) لنصري الصايغ

الشيخ خالد سليمان  - مفكر وسياسي فلسطيني.
كتاب (محمد السيرة السياسية) قراءة سياسية للسيرة النبوية، وهي قراءة عن قراءة، أي ليست قراءة أصلية مباشرة، وملتحمة مع التراث ونصوصه.
لا يساورني شك في قدرة الكاتب على منهجة الحديث، وتوظيف الأفكار والآراء الواردة في سياقاتها، وتحت عناوين ملفتة تخدم تصوّر الكاتب وفلسفته، وربما جاءت أحيانًا حادّة. نعم، لقد بذل جهدًا كبيرًا في إخراج هذه القراءة على هذا النحو، لذلك فإن قراءته بحاجة ماسة إلى التأنّي والتبصّر، فهي قراءة تغير من يقرؤها، وتترك في ذهنه أثرًا، لذلك فأنت بحاجة أحيانًا إلى أن تتوقف عند الكلمة، أو السّطر، أو الفقرة، وربما تضطر إلى إعادة الصفحة من جديد.
سرّ إعجابي بالكاتب امتلاكه لناصية الحديث كتابة وكلامًا، وإن كنت أختلف معه في بعض المنطلقات والاستنتاجات، وأتفق معه أحيانًا في بعض المنطلقات والاستنتاجات. نعم ليس كل السيرة صحيحًا، ولكن كيف لنا أن نتعرف على الصحيح من غير الصحيح؟ هنا نتفق ونختلف معًا. نتفق على هذا المبدأ، أن ليس كل السيرة صحيحًا، ولكن نختلف في طريقة الوصول إلى ما هو صحيح من هذه السيرة. هل هو الإسناد الذي قال به علماء الحديث الشريف، أم هو العقل الحديث والمعاصر الذي ينحّي جانبًا كل ما لا يوافقه؟
إن هذه القراءة قراءة سياسية بامتياز، وهي قراءة تاريخية تحليلية، أي بمعنى أن الكاتب قرأ الأحداث، وحللها سيرورة وصيرورة، دون الربط العملي والفعلي مع المتغير الجديد الذي طرأ على جزيرة العرب، ألا وهو الوحي الإلهي. صحيح أن النبوة حاضرة في الكتاب، لكنها محيّدة لصالح السياسة بنت الخيارات، والعبقرية، والإبداع المحمدي.
إن المتغير الجديد الذي طرأ على جزيرة العرب -وهو الوحي الإلهي- قد أفضى إلى دولة لا تكاد تفرّق فيها بين الدين والسياسة. فقد كان الحكم دينيًّا وسياسيًّا معًا. ولم يكن سياسة فحسب، يدرج الدين في إطارها. 
لقد كان الحكم النبوي والراشدي دينيًا لا زمنيًا، وليس ثيوقراطيًا. وانتقل مع الأمويين إلى زمني يعتمد الدين، وعلامة ذلك رفض الحاكم بعد الحكم النبوي والراشدي أن يحاسبه الناس، وأن الله وحده هو من يحاسبه. بينما في الخلافة الراشدية كان الناس يحاسبون الخليفة، والأمثلة كثيرة، ومنها محاسبة عثمان رضي الله عنه. 
إن زاوية النظرة مهمة وضرورية، وتحديدًا في التحليل وردّ الأمور إلى منطلقها وأساسها. هل الحكم ديني؟ هل هو سياسي؟ هل هما معًا؟ هل ثمّة تناقض بين الديني والسياسي؟ أم أنّ السياسي يأتي في سياق الديني من زاوية من زواياه؟ قد يتّحد الديني مع السياسي، وقد يفترقان، ولكنه افتراق قد يكون في الفعل لا في المآل.
ومن هنا تختلف نظرة الناس وقراءتهم للنّص والحدث. وقد قال علماؤنا قديمًا: حيثما تكون المصلحة فثمّ شرع الله، والمصلحة يجب أن تكون معتبرةً وفق قواعد وضوابط.
ولأنني لا أستطيع الوقوف عند جميع ما ورد في الكتاب، ولا أستطيع إيجاز ذلك في هذه العجالة، فإنني سأتوقف عند نقاط أساسيّة أعتقد أن الكتاب قد بني وأسّس عليها. وهي تتلخص في الآتي:
1-وسائل الإثبات والتحقق.
2-جدلية الديني والسياسي.
3-الحد الفاصل بين الوحي (النبوة) والعبقرية.
4-ما نأتي وما نذر من السيرة النبوية.

1-وسائل الإثبات والتحقق:
ثمّة طريقان: طريق الإسناد، وهو طريق عمل به علماء الإسلام قديمًا وحديثًا. وطريق آخر، وهو طريق العقل والعلم الحديث والمعاصر، وثقافة العصر، التي تنحّي كل ما يتعارض مع العقل والعلم وليس بالضرورة أن يكون بينهما تناقض تام.
فأي الطريقين نختار؟ أم نختارهما معا؟
الإسناد: هو المنهج العلمي الذي اعتمده علماء الإسلام، وهو يستند على حديث نبوي: (تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم). وحديث (رب مبلّغ أوعى من سامع).
الإسناد: منهج توثيق وإثبات، وهو العمود الفقري للخبر، كما قال العلماء. ولذلك عدّوه من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، ولم يكن الإسناد اعتباطًا، بل هو منهجٌ علمي صارمٌ له ضوابط وشروط مبسوطة في أماكنها. وقد ورد عن عثمان بن عفان أنه قال: (واحفظ لكل منزلته وأعطهم جميعًا بقسطهم من الحق فإن المعرفة بالناس يصاب بها العدل). وفي القرآن: (لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ)، وفي آية أخرى: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ).
نعم هناك عوامل تؤخذ بعين الاعتبار عند تفسير التاريخ، لكن يجب أن تخضع قدر الإمكان لدراسة السند والمتن أو ما هو قريب منهما، وإلا فسنكون في دوامة. 
نعم يؤخذ عامل الأفراد والمشاركين في حوادث التاريخ من حيث رغباتهم وطبائعهم ومصالحهم، ويؤخذ العامل المادي الاقتصادي، وعامل الجماعات في نزعاتها وطبائع أهلها، ونشاطها أو خمولها، واتّساقها أو تنافرها، ويؤخذ أيضًا عامل الأفكار، والعقائد، والمذاهب، والأنظمة التي تسود الجماعات، وكذلك العامل الديني والجغرافي. وفي ضوء ما سبق فإن قراءة السيرة في ضوء القرآن والسند الصحيح هو المخرج من أي دوامة.
من دون السند الصحيح سنذهب بعيدًا للطعن بالصحابة، وسنساوي بينهم وبين الرعاع، والدهماء، وطالبي الدنيا، والسلطة.
إن إطلالة سريعة على الفتنة (الكبرى) يتضح لنا في قراءتها مساران: مسار يرى أن اليد التي وقفت وراءها وحركتها هي يد الصحابة الذين كانوا حول عثمان بن عفان، كطلحة، والزبير، وعائشة، وعمرو بن العاص وآخرين. هؤلاء حسب هذا المسار مشتركون في إثارة الناس على عثمان وهذا قول الواقدي وأبي مخنف، وهم متهمون بالكذب.
والسؤال المنطقي هو: هل أثاروا الناس عليه فقتلوه ثم ذهبوا يطالبون بدمه، ويخوضون معركة أودت بهم؟ 
يبدو أن هذا المسار الذي اعتمد سردية الواقدي، وأبي مخنف، وابن قتيبة في الكتاب المنسوب له قد صادف تعريف السياسة المعاصرة وأنها تحليل علاقات القوة، ولذلك يمكن المطابقة بين المسار السردي هذا، ومفهوم السياسة المعاصرة، وعندها لا يعود هؤلاء الصحابة أصحاب خلق ومبدأ، لينقلبوا بسرعة من حال إلى حال كما لو أنهم طائفة من المنافقين الذين تحدّث عنهم القرآن!!
كتاب الإمامة والسياسة الذي ينقل الكاتب عمن نقل عنه، وهو جورج طرابيشي، ليس مصدرًا يصدر عنه، ولا مرجعًا يرجع إليه، فهو برأي العلماء والمحققين ليس لابن قتيبة، وحين تقرأ في هذا الكتاب تجد نفسك كما لو أنك تقرأ في كتاب الأمير لمكيافيللي.
إن الكتاب يقدح بالصحابة، فقد صوّر ابن عمر جبانًا، وسعد بن أبي وقاص حسودًا، وذكر أن محمد بن مسلمة قد غضب على علي -رضي الله عنه- لأنه قتل مرحبا اليهودي، وذكر أن عائشة قد أمرت بقتل عثمان.
-هذا يصح أن يقال عن مجتمع هوبز- مجتمع حرب (الكل ضد الكل).
أما المسار الثاني فيكشف بالأدلة والسند الصحيح أن الذي وقف خلف الفتنة هم السبئية، والأعراب، والتحولات الاجتماعية. 
وهذا هو المسار الأقرب للصحيح من غيره. إن تناول السيرة من غير مصادرها ووسائل إثباتها، وكذلك تناول الفتنة من خلال سردية الواقدي، وأبي مخنف، وابن قتيبة، وإسقاط تحليل علاقات القوة من العصر الحديث، وتحكيم العقل ورد كل ما يعارضه، وفي زمن الجزر الذي تعيشه الأمة، كل ذلك جعلنا نعيش فوبيا حيال كل ما يمت لمنهج الإسلام في التحقق والتثبت كالإسناد مثلًا، مع أن العقل لا يغيب مع الإسناد. الإسناد ميزة هذه الأمة، وهي ميزة غير موجودة في أي أمة من الأمم الأخرى. لو أن اليونان أو الرومان قالوا بالإسناد ووضعوا له ضوابط وقواعد، لقامت الدنيا تصفق لهم، وتخلع عليهم من أوصاف الحكمة والعبقرية، والأستاذية ما يفوق الخيال وصفًا، وما زالوا حتى اليوم يشيدون بالعقل اليوناني الفلسفي والعقل الروماني القانوني.
والخلاصة أن السيرة النبوية قد خضعت لقواعد التصحيح والتضعيف، ولكن لأن مسار ذلك الإسناد، فإنه لا يرضي بعض الباحثين.

2- جدلية الديني والسياسي:
هل تقتصر السياسة على الاختيار بين احتمالات؟ 
وما قرب أو بعد هذا التعريف من الإسلام كدين منه سياسة؟
ما ذهب إليه الكاتب صحيح، لكنه صحيح ناقص من وجهة نظر الإسلام. 
وهو من جهة أخرى تعريف يصدق على أناس يتعاملون مع ظاهرة لا علاقة لها بالوحي، ولا تؤمن به، أو تطوعه لصالحها، أو تفسره وفق هواها. هذا المعنى الجزئي للسياسة الذي ينطبق على حال محدود لا يصلح أن يكون المعنى الأخير للسياسة. يصلح أن يكون معنى دنيويًا صرفًا. لقد فهم المسلمون السياسة أنها استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل، وتدبير المعاش مع العموم على سنن العدل والاستقامة. فالسياسة إذًا تطول أمر الدنيا والآخرة فعلًا وغرضًا.
والسياسة في تعريف آخر هي (ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا نزل به وحي) كما عند ابن عقيل.
فالسياسة لا تنحصر فيما نطق به الشرع، وإنما تشمل ما لم يخالف الشرع، حتى وإن لم ينزل به وحي، أو ينطق به رسول. 
وفي ضوء هذا التعريف، فإن القول بأن السياسة هي اختيار بين احتمالات لا تكفي وحدها لقراءة سيرة الرسول. فهذا التعريف ذو طابع وضعي، ويقف عند تدبير الإنسان لحياته الدنيا وحدها.
وحسب عمارة، فإن خلاصة الأمر للتعريفات الحديثة للسياسة تذهب إلى أن محور السياسة هو الصراع حول طبيعة الحياة الخيرة، وعلاقة مصالح الجماعة بها. والعناصر التحليلية فيها هي الصراع والقوة، والفعل السياسي هو الذي يحدث من منظور القوة التي تمارس من خلال عملية الحكم وفي إطار الدولة، ودراسة السياسة هي تحليل علاقات القوة. وعطفًا على ما سبق من سردية الواقدي وأبي مخنف، وما جاء في الإمامة والسياسة لابن قتيبة والمنسوب إليه زورًا، فإنك تجد هذا التعريف الناقص، والحديث، والمعاصر، والحداثوي، والدنيوي، للسياسة.
ثمّة فهمان وتعريفان للسياسة، سياسة شرعية تتغيّا بتدبير عمران الدنيا تحقيق سعادة الآخرة، وإنسانها خليفة، وهو عبد الله وحده، وسيد لكل شيء بعده، وسياسة دنيوية علمانية تقف بمرجعيتها عند عقلاء الدولة، وأكابر بصرائها، فإنها تتغيّا مصالح الدنيا فقط.
وكما ذكرت لو أسقطنا هذا المفهوم للسياسة القائم على تحليل علاقات القوة، فلن نخرج بنتيجة سوى الصراع على السلطة كما يظهر من سردية لموضوعات الفتنة لدى الكاتب مثلًا.
وخلاصة الأمر فإن محاولة فصل الديني عن السياسي قضية إشكالية، صحيح أن السياسة قد لا تكون مفصلة في نصوص القرآن والسنة، أو غير واردة في هذه النصوص كما قال ابن عقيل، إلا أنها لا تنفصل عن الدين، صحيح أن نصوص الدين متناهية، والحوادث غير متناهية، ولذلك فإن هناك بابًا في الإسلام لردم هذه الفجوة إن جاز التعبير، وهو باب الاجتهاد، والاجتهاد لا يكون اعتباطًا، بل لابدّ له من مستند، ومستنده النص.

3- بين العبقرية والوحي (النبوة):
هل نجاحات محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (وسيرته إبداع عبقريته وبعد بصيرته، وشدة إيمانه بربه ودينه ودعوته)؟ وهل حقًا (أنها بنت التجربة والتاريخ في زمانه وأمكنته)؟ هذا ما يقوله الكاتب وليس بعيدًا عن تعريف السياسة، وأنها اختيار بين احتمالات، فإن العبقرية هنا تجلت في تجربة تاريخية لها زمانها ومكانها. فهي إذًا حسن اختيار بين احتمالات متعددة، وحسن بصيرة.
والسؤال المطروح هو: هل العبقرية ذكاء متوارث كما يرى بعضهم؟
أم أنها هبة إلهية تفوق القدرة البشرية، وهي ممنوحة لبعض الأفراد الذين يجترحون أشياء لا يستطيعها غيرهم كما يذهب إلى ذلك آخرون؟
وسواءٌ كانت العبقرية ذكاءً متوارثًا، أم كانت هبة لا علاقة لها بالعامل الوراثي، فهل يتوقف أمر الرسول عند هذا الحد، أم يتجاوزه إلى الوحي الإلهي؟
في الإسلام نقول: إن الله هو الذي أعطى النبي ذلك الإيمان، ولذلك يحدث نقصٌ في وزن النبي حين يدرج في سياق العبقرية بمعزل عن الوحي، أو تدرج النبوة في سياق العبقرية.
ولهذا لا نستطيع الوقوف عند حد المذهب النفسي المادي الذي لا يعترف بالآثار المترتبة على الإيمان والعقيدة في بناء الشخصية، ومن هنا تأتي أهمية جانب الوحي والنبوة والغيبيات.
وإذا كانت العبقرية صفةً ذاتية للمرء، فإن النبوة صفة إضافية يمنحها الله لمن يصطفي من عباده، وإن نسبة ما حققه النبي إلى عبقريته يغيب النبوة والوحي.
لا شكَّ أن العبقرية من صفات الكمال الثابتة للرسول، وبناء نجاحات الرسول عليها وحدها ناقص، كما مفهوم السياسة الدنيوي ناقص.
وربما كان الحديث عن عبقرية الرسول وحدها لا يفيدنا كثيرًا في شأن الرسول بالذات.
ربما كان يفيد في شأن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وخالد. أمّا في شأن الرسول فغير كافٍ. فعبقرية الرسول ما كان لها أن تفسّر مقدرته على تحقيق التمكين في الأرض، وإقامة المجتمع المسلم، وتوسيع رقعة الدولة. الحديث عن العبقرية هو حديث عن الجانب المادي دون الإيماني والروحي الفاعل والمؤثر، وكذلك القراءة السياسية الصرفة.
محمد رسول الله بشر يوحى إليه (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ)، وهو سيد ولد آدم، وهو خير البشر. فإذا كان في البشر عباقرة فهو سيدهم. 
لقد استخدم الرسول هذا المصطلح بحق عمر فقال عنه: (فلم أرَ عبقريًّا يفري فريه). أي في حسن الأداء والاختيار. 
والرسول ليس آلة تلقٍّ فقط، فالله يختار من خلقه لأداء رسالته من يكون عنده من الذكاء والحلم والعبقرية ما لا يتوفر لغيره من البشر، ولقد انتهى جانب الوحي مع الرسول. ونحن نستطيع اليوم أن نقتدي بالرسول في ضوء قواعد وضوابط الاقتداء (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ).
نعم، قد يذهب بعضهم لمعالجة الجانب البشري عند الرسول، وجهده في السياسة والعسكرية، واختياراته الموفقة، وكذلك في التخطيط والإدارة. لكن ثمّة جانبًا آخر قد رافق هذا الجانب المادي، لم ينفصل في كثير من المحطات السياسية والعملية، وإذا حصل وانفصلا ثمّ حدث الخطأ يكون التوجيه والتصحيح. وهذا ما ذكرته سابقًا، حين تحدثت عن الاجتهاد، وهناك فصلٌ عند علماء الأصول يتحدث عن اجتهاد الرسول. لا نستطيع من دون الوحي أن نفهم التحول الذي طرأ على جزيرة العرب، وملأ الدنيا بعد ذلك. هل كان ذلك ممكنًا لعبقري من عباقرة العرب؟ وأكتفي هنا بنص قرآني يتحدث عن مواكبة ربانية للجماعة المسلمة الأولى وهي تخطو أولى خطواتها في حرب قريش في غزوة بدر، يقول الله تعالى: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَـزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ).
الوحي يخبرنا أن عناية الله واكبت فعلهم على الأرض، وما كان لنا أن نعرف ذلك لولا الوحي. لقد عددت الآية نعم الله عليهم، وهم على وشك الاشتباك مع قريش:
1-(يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) ألقى عليهم النعاس أمنةً منه، فأحيانًا ينام الإنسان فترة وجيزة فيطرد ذلك النعاس من عينيه وكذلك الخوف.
2-(وَيُنَـزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ) فتطهروا للصلاة وشربوا، فذهبت وسوسة الشيطان، وربط على قلوبهم بذلك، وثبت أقدامهم على الأرض الرملية.
ومثال آخر مما جاء في الكتاب وهو (تفتّق ذهن محمد على بادرة ليست في سياق تفكير جماعته. كيف طلع بفكرة الحج إلى مكة؟ ص300
 كيف لا والسياسة إبداعه في خدمة دعوة كرّس لها كل ذاته كما يقول الكاتب؟ ص296
وعندي أنها خطوة استراتيجية، وضعت مكّة في مأزق. كيف لها أن تصدّ محمدًا عن البيت؟ وهل ستجد إجماعًا على ذلك بعد أن تبين أنه ما جاء لقتال، إنما جاء للطواف بالبيت؟
هل حقًّا أن رسول الله (طلع بفكرة الحج إلى مكة) كما يرى الكاتب؟ هنا يستبعد الكاتب ما لا يؤمن به العقل الحديث والعلم الحديث، وهنا يكون ملء الفراغ في السيرة من خلال الاجتهاد السياسي وكفى.
الحقيقة أن النص القرآني وهو الوثيقة الأكثر ثبوتًا من السيرة، قد أكد على أن (الفكرة) تبعث من رؤيا رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- ورؤيا الأنبياء حق. (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ).
وجاء في السيرة ما يفسر ذلك أن الرسول رأى رؤيا في المنام أنه دخل مكة، وطاف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك وهو في المدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسّر هذا العام. فلما وقع ما وقع من الصلح، ورجعوا عامهم على أن يعودوا من قابل، وقع في نفس بعض الصحابة من ذلك شيء، حتى سأل عمر في ذلك، فقال له فيما قال: "أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال بلى. أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قال عمر: لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإنك آتيه ومطوف به" ولم يقتنع عمر إلا بعد نزول سورة الفتح التي سمته فتحًا، وعندها تساءل: أفتح هو؟ 
نعم لقد كانت الحديبية عملًا عبقريًا، لكنه عمل عبقري في سياق الوحي.
إنني لا أسوق هذه النص أو تلك الحادثة لأستبعد الجانب البشري، لكنني أسوقها من باب تفسير الوقائع والأحداث من خلال مصادرها، إذ بخلاف ذلك سندخل في دوامة تحكم العقل -ليس أي عقل- والاستشراق، والعصر الحديث، والعلم، وغيرها، في مسار التفسير.

4-: ما نأتي وما نذر من السير النبوية:
(هذه السيرة لا تحتذى سياسيًّا، سيرة محمد تتناسب وبنية المدينة، ورحلة التأسيس وشروطها، ولا يمكن استنساخها، وإن حصل ذلك فإن الصورة ستكون قاتمة مثل سواد الأصوليات التكفيرية، وسيرة الخلفاء لا تحتذى لكثافة الدماء التي سفكت بين أهل البيت المحمدي، وحوارييه، حيث لا دين ولا آية ولا ما يمت إليهما بصلة) ص373.
دعوة للقطيعة مع الماضي، مع السيرة النبوية، ومع سيرة الخلفاء "وإن كان ثمّة ثابت ديني فهو القرآن، والقرآن أخرس ينطقه الرجال، وما تبقى هو إسلام الروح، وما عداه فقط لأخذ العبرة، ولا يجوز تكراره" حسب الكاتب.
السيرة النبوية تحتوي قرآنًا، وتحتوي سنّة إلى جانب كونها سيرة، فهل نترك ما جاء فيها من نصوص قرآنية، ونبوية؟
هل ننحّي الشورى جانبًا، وقد جاءت في سياق السيرة في أحد، وما تلاها من قرح. جاء التأكيد على استمرار الشورى على الرغم من أن نتيجتها كانت قرحًا أصاب المؤمنين. نتيجة وفّرت مادة لمن أراد أن يشكك في جدوى هذا السلوك، كابن أُبيّ الذي قال: أطاعهم وعصاني، ولذلك تأكيدًا على ما جرى جاء النص القرآني، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، ومثل هذا كثير في السيرة وهو قرآن، وسنّة أيضًا، فالتداخل قائم، والتشابك مستحكم.
أما لو قلنا إن هناك أشياء ليس من الضروري تقليدها، كأن نقتدي بالبدء بالدعوة سرًا، إذا كان الجهر ميسورًا، ومأذونًا مثلًا، فهذا متروك للتقدير مثلًا، وليس ضروريًّا أن نهاجر كما هاجر، إذا لم تكن لدينا ضرورة للهجرة، فإن كنا آمنين في أوطاننا، متمكنين من تبليغ دعوتنا وفكرتنا ودعوتنا للناس، وليس ضروريًّا أن نطلب النصرة من أصحاب السلطة والقوة، كما طلبها الرسول من بعض القبائل، فاستجاب له الأوس والخزرج، فقد يكون هذا الأسلوب غير مجدٍ في هذا العصر، وهو متروك للتقدير، والبصيرة السياسية.
وهل من الضرورة أن ندعو مثلًا ثلاثة عشر عامًا لتثبيت العقيدة، فالظرف والمكان مختلفان، فهذه مهمة ماضية في تعليم الناس مبادئ دينهم دون تحديد زمني. وفيما يخص الصحابة وسيرة الخلفاء، فإننا إذا اعتمدنا مسار الواقدي وأبي مخنف المتهمين بالكذب، وما نسب إلى ابن قتيبة زورًا، فسنقول ما قاله الكاتب، ولكن إذا اعتمدنا المسار الآخر، وهو مسار المنهج العلمي في التدقيق بالأخبار فستكون الصورة مختلفة.
لو كان تناول السيرة على هذا النحو لكان معقولًا، أما أن تكون دعوة للقطيعة فهذا ما لا سبيل إليه، وهو باعتقادي المستحيل، وليس اقتباسها، وتقليدها في ضوء القواعد والضوابط الأصولية.

المصادر والمراجع
1- القرآن الكريم
2- محمد.. السيرة السياسية، نصري الصايغ.
3- الإسلام والسياسة، محمد عمارة.
4- سقوط الغلو العلماني، محمد عمارة.
5- تحقيق مواقف الصحابة في الفتن، محمد أمحزون.
6- الدولة الأموية، يوسف العش.
7- المنهج الحركي للسيرة النبوية، منير الغضبان.
8- أولويات الحركة الإسلامية، يوسف القرضاوي.
9- فقه السيرة، محمد سعيد رمضان البوطي.
10-الفكر الإسلامي المعاصر، غازي التوبة.
11-اتجاهات قراءة السيرة النبوية، هيام شبل.
12-عبقرية محمد، عباس محمود العقاد.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net