Tahawolat
*توضيح: (ورد في كتاب "حان الوقت" للسيد سليم سعدو سالم، فقرات تحمل معلومات غير دقيقة بالتاريخ والأسماء، وفيما يلي أدناه، رد الدكتورة خالدة سعيد على ما جاء في الكتاب).

        أحد الأصدقاء أرسل لنا مؤخّرًا، كتاب السيد سليم سعدو سالم الذي يحمل عنوان 
"حان الوقت" الصادر عام 2017. في الكتاب يروي سالم قصته منذ انتسب إلى الحزب السوري القومي الاجتماعيّ حتى ما بعد خروجه من السجن الثاني في دمشق، مرورًا بقصة إرغامه المجلس الأعلى للحزب، (عام 1954) على إلغاء انتخابه للأمين عصام المحايري رئيسًا، مستخدمًا التهديد بالسلاح، وإعادة تسمية الأمين جورج عبد المسيح للرئاسة. (وهي قصة غريبة ورهيبة، أسمع عنها للمرة الأولى، في حزب نظاميّ مناقبيّ يحمل مُثُلًا فدائيّة)، ويصل بعد ذلك إلى ما جرى في أعقاب اغتيال العقيد عدنان المالكي، في نيسان 1954 وهو الجانب الذي يعنيني. ومع أنّ الكتاب صدر منذ سنتين، أجدني مضطرّة لتصحيح ما يتّصل بي شخصيًّا، احترامًا للتاريخ، تاريخ الحزب أولًا، ولدفع التشويه ودحض العرض الهزلي الذي يلجأ إليه حضرة الأمين، ولدواع مبدئيّة وتاريخية وأخلاقية، تتعلّق بالمعنى الذي كنت أعطيه لانتمائي الحزبيّ يومذاك.
                                                    *
     أبدأ بالقول إنني جئت إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي في كانون الثاني 1950 بعد استشهاد أنطون سعادة بأشهر قليلة، وفي أعقاب الكارثة الفلسطينية؛ وكنت بين كثيرات وكثيرين من طلاب سوريا ممن نشطوا وألقوا بأنفسهم في الحراك الطلابي مناصرةً لفلسطين، بين 1947 و1948 ثم زيارة مخيمات النازحين الفلسطينيين تكرارًا، وما رافق ذلك، مع بدايات مأساة النزوح. وبين صديقاتي مَن تخلّت عن الدراسة واختارت التطوّع. من هذا الجوّ نفسه وهذا الموقع وهذه الغاية جئت إلى الحزب بعد إعدام مؤسّسه، ولِما عرفته عن موقف الحزب الجذريّ من القضية الفلسطينية وقضايا أخرى.
وكان الحزب وأهدافُه وقيَمُه ومسؤولوه وكلّ ما يتصل به في مرتبة القداسة عندي. 
    عام 1954 وكنت قد أصبحت معلّمة، انتقلت إلى دمشق مع أختي سنية صالح، طالبة البكالوريا، بهدف الدراسة الجامعية. كنت أعلّم في مدرستين وأدرُس في الجامعة وأداوم في معاهد مسائية، كما كنت أمينة سر، أي "ناموس" مديرية العلوم للجامعيين. استأجرنا، عند سيدة خمسينية، غرفة صغيرة جدًا في حيّ المهاجرين، تتسع لسرير واحد وصوفا وطاولة صغيرة مع كرسيين. وكانت جميع الملحقات أو المنتفعات ضيقة جدًا ومشتركة مع صاحبة الشقة الصغيرة التي تقيم فيها هي أيضًا.
   ما يعنيني مباشرة في هذا الموضوع هو أنّ السيد سالم يحكي حكاية طويلة (فَكِهَة ومسلّية وشبه خيالية) عن لجوء رئيس الحزب جورج عبد المسيح، ليلة اغتيال العقيد عدنان المالكي، إلى مسكني بدمشق. ومع أنني لا أنكر هذا اللجوء، الذي سُجِنتُ بسببه، لكنّي أكتب الآن لأصوِّب القصة الخيالية المحرّفة والمفكّكة منطقيًّا، والمليئة بالتناقضات وبالتفاصيل المختَلَقة والمسيئة بل المستحيلة، التي يؤلفها السيد سليم.
    يقول إن عبد المسيح، مساء الاغتيال، لجأ إلى "شقتي المريحة"، وأقام "أيامًا عديدة" بكل طمأنينة، مستبشرًا منتظِرًا "تحرُّكَ الضبّاط القوميين" وانقلابَهم. كما يقول إنّ عبد المسيح تلقّى، وهو في "شقّتي المريحة"، زيارات متعددة من السيد سليم وغيره، وأنه طرح عليه أسئلة (انظر ص123). يقول:
(...) استفسر مني بعض الأمور إن كنت أعرف شيئًا عن فلان أو فلان (...)
ولم أعد أذكر أسماء الذين سألني عنهم سوى سؤاله عن إسكندر شاوي. (ص124). 
   (وأقول، يا للسؤال العجيب! مع أنّ إسكندر شاوي هو الذي أوصل عبد المسيح إلى بيتي). يمضي سليم سالم في روايته الخيالية فيقول ص125: "لا أستطيع اليوم أن أستعيد تفاصيل... وكبحت أفكارًا جامحة تتساءل عن سبب هدوء رئيس الحزب (...) وهو يعرف أو يسمع (!!) عما يحدث في المزّة وفي معتقل الشيخ حسن في الميدان وفي المخافر ومراكز المخابرات...".
تعليق: عجبًا من أين عرف أو سمع؟ إذا كان عبد المسيح، حتى حسب رواية سليم، مختبئًا في غرفتنا منذ الليلة الأولى للاغتيال؟ أي منذ ثلاثة أو أربعة أيام، كما يزعم، ولم يكن عندي راديو ولا عند جارتي أو شريكتي في الشقة (التي ينكر وجودها). وأي راديو سيذيع أخبار ما يحدث في المزّة وغيرها، من تعذيب، ومنذ اليوم الأول؟
وبعد قليل سيقول سليم: "راح رئيس الحزب يسألني عن الأوضاع في رئاسة الأركان وعن مواقف بعض الضبّاط". (وفي ص127 سرد لمجموعة من التفاصيل التي يسأل عنها). وها هو سليم يناقض نفسه حين يقول: (...) في مخبئه في بيت الرفيقة (فلانة) كان شبه مقطوع عن العالم الخارجيّ، لا يعرف إلا ما تعرفه (فلانة) أو ما ينقله إليه إسكندر شاوي": (ص128).
 ها هو يبدو منقطعًا، وإسكندر شاوي يظهر فجأة، وقبل قليل كان مختفيًا والعم يسأل عنه. ثمّ يقول سالم: "أذكر أني عدت إلى بيت (فلانة) مرة ثانية لأخبره بما عرفت من تطوّرات واعتقالات. ومرة ثانية أذهلني بهدوئه (...) أخبار الاعتقالات تملأ البلد والأخبار عن مقتل فلان أو موت فلان تحت التعذيب ترميك في دوامة (...) وهو يصرّ أنها عاصفة في فنجان سوف تهدأ بعد أسبوع أو أسبوعين على الأكثر." (ص128)
تعليق: إذا كانت عاصفة في فنجان فلماذا يموت القوميون تحت التّعذيب، كما يروي؟ ومن الذي مات؟ وكيف، وبموجب أي منطق سيتسلّم الحزب الحكم بعد هذه العاصفة؟ (وكان الأمين عصام المحايري قد اعتُقِل منذ الليلة الأولى، وحتى الأمينة الأولى جولييت سعادة قد اعتُقِلت منذ اليوم الثالث (راجع مذكراتها ص234، بيروت دار سعادة للنشر، 2004 ط ثانية). وطبعًا لا ذكر لهاتين الشخصيتين في كتاب سالم في هذا السياق.
يتساءل سليم: "هل كان مطمئنًا لِما قيل له ولِما اعتَقَد أنّها خطّة ناجحة يتسلّم الحزب بعدها الحكم؟" (ص128.) (انتهى كلام س. س. س.). تعليقي:
1 - هذا اعتراف عجيب واتّهام خطير وخرافيّ للحزب كحزب. يعني أنّ الحزب كمؤسسة هو الذي قام بالاغتيال، وأنّ العملية كانت خطة لاستلام الحكم. كيف؟ وبأية أعجوبة؟
 إذًا ها هو الحزب على لسان رئيسه يتبنى الاغتيال!! ويعطي الاغتيالَ "شرعيّةً حزبيّة". فيا له من اتّهام مُريع!! وهو يستبشر، مع أنّ القوميين تمتلئ بهم السجون "ويموتون تحت التعذيب" كما يقول. وهذا كله يسميه عبد المسيح، حسب رواية سليم سالم، "عاصفة في فنجان".
كل ما ورد في هذا القسم الخاص بلجوء عبد المسيح (ص. 126- 127) ثمّ تهريبه هو خيال وتركيبات متتاقضة داخلتها بعض خيوط من الواقع.
2 - وهل في تاريخ الهروب والاختباء محكوم بالإعدام (كما كان وضع عبد المسيح)، يختبئ في مثل تلك الظروف، في شقة مفتوحة ومبنى يعجّ بالسكّان، ويبقى أيامًا، يستقبل ويعلّق على  "الأخبار" كما يروي السيد سليم (على الرغم من غياب أي اتصال وأي جهاز راديو)، لاسيما في تلك الأجواء التي لم تترك قوميًا معروفًا، مدنيًّا أو عسكريًّا، من شمال سوريا إلى جنوبها إلا اعتقلته؟ 
ولم يخبرنا السيد سليم كيف انقلب عبد المسيح المطمئن على مدى أيام (حوالى أسبوع) في غرفتنا بانتظار "تحرّك القطعات والضبّاط القوميين"، إلى رجل مذعور كما يصفه؟ وكيف وبناء على أيّ معطيات فهِمَ عبد المسيح أنّها ليست "عاصفة في فنجان"؟ ولماذا وكيف تحوّل فجأة إلى شخص مضطرب لا يثق حتى بحارسه الأمين عبد الهادي حمّاد فيسارع إلى خديعته والهرب منه في البرّية على التلّة، وكيف وبأي معجزة ظهر في لبنان في اليوم التالي؟
3ــ ثمّ لنرَ ما هي مواصفات شقتي "المريحة" وما هي الحكاية الواقعية الحرفيّة والمنطقية:
وصل عبد المسيح إلى بيتي الساعة الحادية عشرة أو بعدها بقليل، ليلة مقتل المالكي نفسها. أوصله إسكندر شاوي وكامل حسان. طبعًا فوجئت بحضوره وكاد يغمى عليّ من الخوف. سألته عن سبب مجيئه، قال ألم تسمعي بما حصل؟ قلت هل هو مقتل الضابط؟ لكن ما دخلنا؟ أجاب، لا دخل لنا، ولكنني محكوم بالإعدام في لبنان، إذا قبضوا عليّ سلَّموني. 
سألته: "والأمينة الأولى؟" أجاب، "لا أحد يزعجها". قلت له: لكن قُضِيَ على الحزب في سوريا. أجاب: "سينشط في لبنان".
(هذا ما رويته سابقًا وكرّرته. لكن السيد سليم أراد أن يجعل الحكاية أكثر تشويقًا أو تسويقًا فمزج الواقع بالخيال).
لم أرَ في كلام عبد المسيح إلاّ ما ينذر بالويل. وفهمت أننا في سوريا انتهينا. كدت أموت من الخوف. لكن وجدتُ نفسي أمام أمر واقع، على هوله وغرابته. كيف كنت سأقول له "لا أقدر أن أستقبلك لأن المكان غير آمن"؟ كيف أستوعبُ انقلابات عديدة لصورة الواقع؟ بل كيف أفهم في لحظة ما تطلّب وقتًا طويلًا لأستوعب حصوله؟
قلت له تفضل. ماذا كنت أقدر أن أقول؟ خاصة أنه لما قال لي انزلي قولي لشاوي إنني وصلت فليذهب، نزلت ولم أرَ أحدًا. وكنت أنوي الاستنجاد بشاوي لنقله.
أمّا الجارة فقلت لها إنه عمّي، مريض جاء من الريف (بسبب الكوفية) لنأخذه إلى الطبيب.
غضب العمّ وأظنه خاف لمّا عرف عن ذهاب شاوي. وقال: ماذا كنت سأفعل لو لم أجدكِ؟ أو لو كنتِ خفتِ وسافرتِ؟ ثم سألني إن كنت أعرف بيت شاوي، وبيت مَن أعرف. قلت أعرف بيت سليم سالم.. كانت الساعة الحادية عشرة والنصف ليلًا. لكن الخوف الأكبر يغلب الخوف الأصغر، وكل مغامرة كانت تهون أمام هذا الوضع. ركبت آخر ترام من المهاجرين حتى وسط البلد. ومشيت، في مدينة خالية (بسبب صدمة الاغتيال خاصّةً)، وغير معتادة على حركة النساء المنفردات، وبالأخصّ السافرات، في الليل. غير أنّ جريمة ذلك اليوم ألقت على المدينة ثقلها بل هولَها وسارع الناس إلى بيوتهم. وصلت إلى بيت سليم. ذهبنا، أنا وسليم، ربما أيضًا مع عبد الهادي حماد، إلى بيت إسكندر شاوي حيث أبلغت الرسالة. ثم ركبنا سيارة شاوي وذهبنا جميعًا إلى بيتي في المهاجرين. وهناك تلك الليلة الأولى نفسها تمّ الاتفاق على حضورهم لمرافقته في المساء الثاني. 

في النهار الثاني كان عليّ أن أذهب إلى المدرسة حيث أعلّم. إذ لم أكن حرّة وبلا أي ارتباط أو عمل، كما توحي سردية السيد سليم. بل كنت أعلّم في مدرستين: التجهيز الثانية في الصالحية ومدرسة الصنائع (مكتب عنبر) في حيّ الخراب وراء الجامع الأمويّ. العم رفض بشدّة بقائي وتغيّبي عن المدرسة لأنه سيثير الأسئلة والشبهات، وبقي هو في حراسة أختي سنيّه صالح التي ينساها السيد سليم، لأنّ تغيّب طالبة لا يحدث مشكلة في المدرسة مثل تغيب معلّمة. ذهبت ولم أرجع إلا عند العصر.
في الحادية عشرة ليلًا أو الثانية عشرة، أي في الليلة التالية للجريمة، حضروا وكانوا أكثر من اثنين. دخل شاوي وربما سليم سالم ولا أذكر من دخل غيره... إنما لا كلام، من أجل تفادي الضجة والأصوات المتعدّدة وعدم إيقاظ الجارة. ثمّ ذهبوا جميعًا. ولم أرَ عبد المسيح بعد ذلك أبدًا.
لا يذكر السيد سليم، أنني كنت أسكن مع أختي عند جارة في غرفة هي جزء من شقة بغرفتين؛ شقة ضيقة جدًا. الجارة حاضرة في غرفتها الملاصقة. بل يتكلّم على شقة مريحة ويتناسى الجارة. كان في غرفتنا سرير واحد وصوفا وطاولة وكرسيان. باب الغرفة، عندنا وعند الجارة، نصفه الأعلى من زجاج شفاف. وكل حركة أمام الباب مكشوفة. والمطبخ والمنتفعات موجودة أمام باب الجارة الزجاجيّ. 
عبد المسيح لم يخلع الكوفية التي تُخفي علامته الفارقة وهي الأذن المقطوعة، ولا خلع الجاكيت والحذاء وظلّ متّكئًا على الصوفا.

أما  خرافة انتظار "انقلاب الضّبّاط القوميين" فالسيد سليم يرويها لمن ولدوا بعد تلك الحوادث بربع قرن أو نصف قرن. مع أنه يتكلم، في الوقت نفسه، على أخبار تعذيب القوميين في السجون وموت بعضهم تحت التعذيب. يا للتناقض! كيف يموتون تحت التعذيب والسيد عبد المسيح ينتظر تحرك الضبّاط القوميين!
وما رواه سليم عن سلوك عبد المسيح المرتاح، زاعمًا "أنّه بقي عدّة أيّام، في غرفتنا، مطمئنًّا، ينتظر تحرّكَ الضباط القوميين"، ويستقبل الزوّار (وهو المحكوم بالإعدام) يتناقض كل التناقض مع ما رواه عن سلوك عبد المسيح على التلّة في الطريق إلى الزبداني مع عبد الهادي حمّاد (ص135) مباشرة بعد خروجه من (شقّتي المريحة!!). إذ خدع حارسه عبد الهادي، واختفى. السيد سليم، بعد بضع صفحات (ص 159) سوف يصبح محلِّلًا نفسيًّا فيجعله مصابًا بانفصام الشخصية ويسمّيه "دكتور جايكل ومستر هايد". 
تبقى قصة الذهاب للبحث عن مسدس عبد المسيح. (ص 137- 138)، وهي الأغرب والأكثر إساءة وإيلامًا: 
فيها تحريف واحد، بل هو تشويه مقصود حتمًا، لا يسيء لي وحدي، بل يسيء إلى ما ميّز العلاقات بين الرّفاق. ولم أفهمه أبدًا: السيارة التي نقلتنا إلى منطقة الهامة أو ما جاورها، حيث صعد أحد الرفاق التلة (أظنه عبد الهادي) ليأتي بمسدس عبد المسيح الذي يُفترَض أنه تركه هناك، هذه السيارة كانت تقودها فتاة من حيّ القصّاع.
لا أعرف اسمها ولا اسم عائلتها ولا من أقنعها بمرافقتنا، ولم أرها قبل ذلك ولا بعد ذلك. أعرف أنّ الفتاة كانت خائفة خوفًا شديدًا ولا تعرف شيئًا عن الحزب. فهي لمّا رأت أنها ستذهب إلى الهامة وحدها مع ثلاثة شبان رفضت، لدواعٍ تقليدية سلوكية، وقالت يجب أن تكون معكم فتاة. ومن في الميدان يومذاك غير "حديدان" عندما اختفى الجميع، لاسيما الفتيات؟ كنت أذهب لأدعو بعض أعضاء مديرية الجامعيين للعمل مع فرقة الناشطين الصغيرة، فتخرج الأمهات ويقلن لي: "عندهم امتحانات، عندهم مستقبل". لتحيَ الأمهات!
كان في السيارة سليم سالم وعبد الهادي حمّاد وشخص ثالث لا أعرفه، لعلّه الذي جاء بالسيارة وصاحبتها، أو الذي يزعم سالم أنه صاحب السيارة.
مع أنّ (حديدان) ذلك الزمن لم يكن خارج العلاقات والبرامج والمهمّات والمسؤوليات كما يصوّرني السيد سليم: (كنتُ أعلّم في مدرستين وأداوم في الجامعة، وأحضر دروسًا فرنسية في المركز الثقافي الفرنسي متى أتيح لي الوقت، وأتلقى في البيت دروسًا خصوصية في الفرنسية، وكذلك في اللغة العربية. وكنّا في أواخر نيسان، مع حمّى الاستعداد للامتحانات). وفوق هذا كله كنت أذهب يوم الجمعة إلى بيروت أحمل رسالة من يوسف دعيبس، المسؤول في دمشق، إلى جبران جريج في مركز الحزب في بيروت، وأعود بالجواب.
آخر رسالة حملتها من بيروت إلى دمشق كانت من سعيد تقي الدين إلى الرئيس الراحل فارس الخوري. كنت قد حصلت على موعد من الرئيس الخوري، وذهبت إلى المكتبة أشتري مغلّفًا للرسالة، وهناك أوقفني رجال المخابرات. 

نعود إلى رحلة الهامة: فعلًا ذهبت معهم إلى الهامة أو جوارها تلبيةً لشرط الفتاة. أمّا الضحك؟ كانت أسباب الضحك حاضرة، أولًا لتلطيف الجوّ المتوتّر وطمأنة الفتاة الخائفة والتي تقود (مثل النّملة!) بينما نحن على عجلة، وكذلك للتّمويه لدى المرور أمام دورية، ولغرابة تلك المغامرة الهوليودية بحثًا عن مسدس غير موجود ولن يعود إلى صاحبه لو وُجِد، وعبثية الحصول عليه التي لا تساوي ما قد ينتج عن حمله من كوارث. أمّا مزاح السيد سالم (الذي تزوج فيما بعد فتاة رائعة كانت مثل أختي)؟ في النتيجة كل شخص حين يمزح، يمزح حسب عقليته. ويؤسفني ما تتضمنه سردية السيد سليم من اختلاق وتضخيم وتشويه، وما توحي به من خِفّة لم أعرفها في أجواء الحزب أبدًا. سامح الله الذاكرة. أم لعلّها محاولة غير عبقرية في كتابة الرواية!
  في النهاية، وبكل صراحة وإخلاص، حمدتُ الله لأنني سُجِنتُ في تلك الظروف، على الرغم من أنني فقدتُ وظيفتي. لكن توقّفَتْ تلك المسرحيات الفارغة والفاجعة التي لا هدف لها والتي لم تقدِّم إلاّ الوبال، لا لسوريا وحدها، بل أيضًا للحزب وللقوميين. غير أنّ الجرح الذي لم يندمل تمثّل في الكوارث التي حلّت بالشخصيات البريئة التي لم يكن لها أي دور، في مقدّمها أسرة سعادة، وأسَر مَن أُعدِموا، ومَن حُكِموا بأحكام طويلة، دون أن أنسى أبي الذي أحيل إلى تقاعد مبكّر مع ستة أطفال، وأختي التي نالها أدهى مما نالني، مع أنّها لم تُسجَن؛ فقد قُضي على مستقبلها العلميّ وطموحاتها، إذ اضطرّت بعد توقيفي إلى العودة إلى اللاذقية عند الأهل. فقدَت فرصة دراسة الطبّ وأي فرع جامعيّ آخر، وأنهَت حياتَها موظَّفة بسيطة في الريجي، وما واساها حتى الشعر.
                                                                     

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net