Tahawolat
مقدمة
فكك العديد من المفكرين والفلاسفة العرب والمسلمين واقع وبنيان العقل العربي والإسلامي، وعلى رأسهم محمد عابد الجابري من خلال رباعيته الشهيرة (نقد العقل العربي)، ومحمد أركون من خلال مشروعه (نقد العقل الإسلامي)، وجورج طرابيشي من خلال مشروعه (نقد النقد)، وآخرون. فيقولون إن الإنسان العربي لا يزال يعاني على مستوى الفكر والثقافة استشراء اللاعقل والأسطورة على العقل، والأيديولوجية على المعرفة العلمية، وانحلال العلاقات الاجتماعية على قيم ومكارم الأخلاق، وطغيان الفساد والاستبداد على العدل والمساواة في الممارسة السياسية.

وإذا كانت الحداثة عبارة عن استراتيجية شمولية يتبعها العقل من أجل السيطرة على كل مجالات الوجود والمعرفة والممارسة، عن طريق إخضاعها لمعايير الصلاحية أو عدمها حسب تعبير "يورغن هابرماس"، فإن المجتمعات العربية والإسلامية تجد نفسها اليوم أمام إشكالية تطرح التساؤل عن نوعية الفكر الذي تحتاج إليه لننهض بالعقل الذي نبتغيه ونطمح إليه، وهل يمكن بناء نهضة بغير عقل ناهض؟.

حاول الفكر العربي والإسلامي وما زال، أن يجعل من فكرة النهوض بالعقل العربي والعقل الإسلامي مهمته الأساسية، في إطار تحديث آليات التفكير ومناهجه ومختلف استراتيجياته من أجل عقل حداثي تنويري يتجاوز كل الهفوات التي سقط فيها الفكر من قبل، وهو يحاول كما الفكر الإنساني عامة البحث عما يحقق للإنسان العربي والإسلامي هويته الثقافية والفكرية والسياسية والأخلاقية والتاريخية وحتى حريته وكرامته الإنسانية، فوجد نفسه يتخبط في مشكلات عديدة وأمام أقفال موصدة قادته إلى الدخول في مدارك البحث عن حلول لها، سواء عن طريق مقارعة أسباب التقدم والنهضة في الغرب والاقتباس منها حيناً، أو عن طريق العودة إلى أصول الثقافة العربية والإسلامية عبر التأريخ حينا آخر (إنها محولات دؤوبة للربط بين التقعيد والتعقيد)، وأياً كانت الطرق المعتمدة فإن مهمة الفكر العربي والإسلامي المعاصر تبقى محصورة في اتجاه أحادي يستدعي سبيل اللحاق بالركب الحضاري وركب الحداثة الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفلسفية والأدبية كما عرفها ويعرفها الغرب.

عادة ما تتوالف الإشكالية مع سؤال ينهل المتن إلى الإجابة عليه، لكن في تقديمنا هذا سوف نطرح السؤال بداية، وبناءً عليه تكون لنا بنائية الإشكالية ذات العلاقة بين اللاتقايس من المفاهيم. فالسؤال هو: هل إن تخلف الفكر العربي الإسلامي هو من تخلف الواقع أو من تخلف الذات؟ أما الإشكالية التي يمكن بناؤها: ما هي علاقة الذات العربية المفكرة بالمحيط التكويني؟


الذات المفكرة والمحيط التكويني
قبل النظر في الإجابات الممكنة للسؤال، تجدر الإشارة إلى أن الحداثة التي نتحدث عنها ضمن تعبير (عقل الحداثة) هي ذلك المشروع الذي يتوج تفكير الإنسان من خلال أفعال عقلية، هذا ما يعني أن الحداثة تنطوي في السياق نفسه على فعل إنساني (فعل تواصلي حسب هابرماس)، مرتبط فيما يسمى برغبات عقلية موجهة لتجاوز شيء ما أو وضعية ما غير حداثية، لذلك يمكن اعتبار الحداثة  فعل إنسان عاقل يحاول تتويج أفكاره وفق ما يصبو إليه الإنسان محاولة لتحسين مختلف أوضاعه غير الحداثية والسعي في ارتباط وطيد مع الزمان والمجال إلى تحقيق أفعال الحداثة . بهذا يمكن اعتبار أن أفعال الحداثة هي محاولة لتجاوز أفعال ما قبل الحداثة، باعتبارها واقعاً عقلياً غير حداثي، بطريقة نقد واقع العقل الحالي الناتج من لغة ذاتية شبه جامدة وغير تاريخية، ما يسهم في تفاقم أوضاع التخلف وانتشار أقفال حول الفكر الحر والعقل النير.

إن مقاربة العقل العربي والإسلامي من المنظور البنيوي والتاريخي للحداثة المعاصرة، تطرح أسئلة وقضايا عديدة، يمكن من خلالها اعتبار الفكر والعقل عنصرين متكاملين بنيوياً، حيث لا يمكن الحديث عن الفكر في الواقع التاريخي والإسلامي من دون استحضار للعقل ضمن فعل الممارسة، من هذا المنطلق يمكن أن نضع فرضية الواقع موضع امتحان، كمجال لامتحان الذات المفكرة ضمن محيطها التكويني الذي تبلورت ونضجت فيه من جهة أولى، ومجال لامتحان العقل كمحلل ودارس للواقع الذي أنتج تلك الذات من جهة ثانية. وللخروج من هذا الصراع بين الفكر والواقع، السؤال يطرح: هل تستطيع الذات العربية الإسلامية مجاراة تحولات الواقع عن طريق تبني مبدأ النقد الذاتي فكراً وممارسة؟ وإلى أي حد؟

إن اعتماد النقد جزءاً من استراتيجية فعالة لبلوغ الحداثة لا يعني دوماً البحث فقط عن المعوقات التي تحول دون الوصول إلى حداثة العقل العربي والإسلامي، باعتباره قضية مصيرية أو موضوعاً موجهاً، بل يرتبط جذرياً بمغامرة الكشف عن الثغرات، ولكن هل هناك ثغرات دون موضوع؟ فالموضوع الذي نتعامل معه هو النص العربي بالذات، إنه التراث العربي الإسلامي والعقل الكامن فيه. إن النقد الناجح لهذا الموضوع هو النقد الذي يتحرر من هاجس العمل مثل الآخرين أو النسج على منوالهم، فالعقل هو الفكر الذي يتجاوز نفسه باستمرار عن طريق المراجعة والنقد ضمن إطار التكامل الموضوعي والواقعي بين الفكر والعقل.

إن عملية نقد الأفكار الدينية التي تخدم حداثة الإنسان العربي كما يقول "محمد أركون" ليست شيئاً محصوراً بحداثتنا الراهنة، فالسابقون عليه أمثال "ابن رشد" بالنسبة إلى الإسلام و"ابن ميمون" بالنسبة إلى اليهودية والقديس "توما الأكويني" بالنسبة للكاثوليكية قد حققوا العملية على أوسع صعيد، وهل بإمكاننا اليوم تحقيق العملية نفسها؟ لم لا؟ إن المدى الذي نحقق من خلاله توازناً وتكاملاً بين هواجسنا الفكرية ورغباتنا الواقعية، بإعارة الانتصار للعقل شيئاً فشيئاً ومنه الانتصار لحداثتنا الراهنة.

استطاعت تلك الثلاثية (ابن رشد وابن ميمون والقديس توما الأكويني)، أن تخرج العقل الإسلامي واليهودي والمسيحي بالتتابع من بؤرة التخلف الأسطوري للقرون الوسطى، انطلاقاً من إخضاع المجال اللاهوتي للنقد الإيبستمولوجي، مع العلم أن العوامل الدينية والأخلاقية والسياسية والمعرفية بقيت كلها مترابطة فيما بينها، متكاملة بشكل لا ينفصم. وهكذا استطاع البعد الفلسفي أن يؤلّفَ مجالاً مركزياً وأساسياً وفعالاً أيضاً في تشكيل النهضة الفكرية والثقافية التي بدأت ولم تكتمل مع ابن رشد والغزالي عن طريق المناظرة الفكرية الخلاقة.

يتساءل "الجابري" في كتابه (نحن والتراث) كيف نتحرر من سلطة التراث علينا؟ وكيف نمارس سلطتنا عليه؟ تلك هي مهمة المنهج، إنه المنهج التحليلي، أي تحليل البنية، بنية النص عبر كشف الغطاء عن العلاقات القائمة بين عناصرها بوصفها منظومة من العلاقات الثابتة في إطار بعض التحولات، إن تحليل البنية معناه القضاء عليها، التحرر تالياً من سلطتها وفتح المجال لممارسة سلطة عليها، هذا النوع من التحليل هو ما يسميه الجابري (التفكيك)، تفكيك العلاقات الثابتة في البنية، وتحويل الثابت إلى متغير، والمطلق إلى نسبي، واللاتاريخي إلى تاريخي، واللازمني إلى زمني، والكشف عن المعقولية في الخافت من الأمور التي تقدم نفسها كسرٍّ مغلق.

وفي رد أبي حامد الغزالي على الفلاسفة ورد ابن رشد على الغزالي، يرى الجابري أنهما كانا من تلك الظواهر التي تملأ التاريخ دون أن يكون لها تاريخ، وفي مثل هذه الأحوال الـ(ما بعد) هو الذي يفسر الـ(ما قبل)، فكتاب الغزالي يفسره ما بعده، ليس ما قبله. بهذا المنهج الإيبستمولوجي الذي يعتمد على استلهام الطريقة التي اتبعها ما بعد الحداثيون في أوروبا وخاصة "ميشال فوكو" عالج الجابري كتاب (تهافت الفلاسفة) الذي وضعه أبو حامد الغزالي، إذ لم يقف الجابري في معالجته للتاريخ الثقافي العربي عند المنهج التاريخي وحده، بل بإعادة كتابته (بصورة عقلانية نقدية) لأن (التعامل العقلاني النقدي مع تراثنا يتوقف على مدى ما نوظفه بنجاح من المفاهيم والمناهج العلمية المعاصرة)، فإذا لم نمارس العقلانية في تراثنا، فإننا "حسب الجابري" لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة (العالمية) كفاعلين وليس كمجرد منفعلين، لذلك نجد الجابري يضع أطروحة عمادها القول (إن الصواب الموروث قضية كاذبة، وعنه إن القول بتكفير الفلاسفة ومهاجمة الفلسفة والقضاء عليها هو قول ليس له مقابل في واقع تاريخ الفكر الفلسفي عموماً. وهل تاريخ الفلسفة هو تكذيبها من ابن رشد إلى الغزالي وصولاً إلى المغرب والأندلس مع "ابن باجة" و"ابن طفيل".


لقد جرت العادة على التمييز في العالم الإسلامي بين المشرق والمغرب، فالمشرق قام على العرفان حين اختلط العقل اليوناني في جانبه البرهاني مع الموروث القديم كما هو الأمر عند ابن سينا والغزالي والفارابي، وكان هناك منتوج آخر قام على البرهان، خاصة ما نقل من أرسطو كفلسفة يونانية في جانبها البرهاني، كما هو الأمر مع ابن رشد وابن حزم والشاطبي.  هذا التمييز بنظر الجابري يعود إلى الفتوحات الإسلامية ويعكس واقعاً تاريخياً وسياسياً وثقافياً، وهكذا فإن المدرستين المغربية والمشرقية هما مظهران أساسيان ومتميزان بل متناقضان في الاتجاه، العقلانية الرشدية "واقعية" والعقلانية السينوية "صوفية"، حيث يكشف الجابري في قراءته لنصوص ابن سينا عن القاعدة الأبستمولوجية والمحتويات الأيديولوجية لهذه النصوص. هذا كله يدفعنا لمقاربة البضع من الأقفال التي أوصدت على الارتقاء بين الذات العربية ومحيطها التكويني:

1-أقفال التطابق: إذا ما أردنا أن نعيد كتابة تراثنا بصورة عقلانية وبروح نقدية، فلا سبيل إلى ذلك سوى استعمال وتوظيف المناهج والمفاهيم العلمية المعاصرة، معنى ذلك أنه يستحيل علينا فهم ذاتيتنا وتراثنا ما لم نستعمل منظار غيرنا، لذلك فالقراءة التي يراد إعادة تأسيسها إنما هي انتصار للروح العلمية وتأسيس لأخلاقيات الحوار، وهي ذاتها القراءة التي أكدها محمد بن باجه وسماها (القراءة المطابقة) التي همها البحث عن الأساس الأبستمولوجي للمقروء وليس عن وظيفته الأيديولوجية، وبالتالي الهدف من هذه القراءة هو توظيف المقروء أبستمولوجيا وليس أيديولوجيا.

ولابن رشد طفرة من الطفرات الأبستمولوجية في تاريخ الفلسفة الإسلامية ولحظة من لحظاتها الأساسية، كما يعد صاحب المنهج العقلاني النقدي الذي يتأسس عمودياً على إطراح الأدبيات البدعوية من الفكر الإسلامي في كل مباحثه، خاصة ما يتعلق منها بالمباحث الفلسفية . هذه العقلانية التي أسسها ابن رشد كانت المعبر الحقيقي عن انبثاق عقلي مبدع لمناهجه ومواضيعه. فالمنهج العقلي هو ما قاد ابن رشد إلى الاهتمام التجديدي ليرسم معالم قطيعة مع الصوفية المبطلة لدور التفكير والتعليم في تأسيس نظرية المعرفة، حيث جاءت اهتماماته بترجمة وتلخيص مؤلفات المعلم الأول، فيحللها ويدرس ويحلل الترجمات التي قام بها السلف، مرتكزاً على منهج نقدي يكرّس الصواب من الحقائق ويبرز النقائض والمغالط، فيعللها ثم يصححها أو يبطلها. ولعل هذا المنهج هو ذاته الذي كان يمارسه (أرسطو) في استعادة وتقويم الفكر الفلسفي اليوناني والقبسقراطي السابق عليه.

لقد جعل الجابري قراءته المطابقة وهو يرسم الأسس للمنهج الايبستمولوجي للتعامل مع الموروث أداة منهجية همها البحث عن الأساس الايبستمولوجي للمقروء وليس البحث عن وظيفة الأيديولوجية، حيث تعامل مع الممكنات الذهنية كمعطيات واقعية توظف أيديولوجياً للتغطية على جوانب النقص (المعرفي)، وبالتالي فإن الهدف من هذه القراءة هو توظيف المقروء أبستمولوجياً وليس أيديولوجياً. إن الأهمية البالغة التي تكتسبها الدراسات الايبستمولوجية تجعلها تستقطب الأبحاث الفلسفية وخاصة في القرن العشرين، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للعالم العربي، لذلك التزم الجابري بعرض المسائل الفلسفية دون التقيد بوجهة نظر معينة ودون التنكر لحقيقة، من حيث أن كل قراءة تحمل في رحمها رؤية موجهة سوءاً في الغرض أو التحليل أو في النقد أو إبداء الرأي، هي رؤية تنشئ مقوماتها ومؤشراتها من الفكر التقدمي المعاصر الذي يكرس العلم والمعرفة العلمية لخدمة الإنسان وتطوير وعيه وتصحيح رؤياه.

ولمفهوم القطيعة الايبستمولوجية حسب محمد عابد الجابري، شأنه في ذلك شأن معظم الايبستمولوجيين العرب المعاصرين، نجد الاستخدام في تحليله لأفكار ابن رشد دون الوقوع في إغراء المفهوم والانصياع له، ولم يسأل عن مدلوله الايبستمولوجي الحقيقي، ولا حتى عن حدوده الإجرائية، وعن مجال انطباقه في الفكر العربي قديمه وحديثه، فالغرب في أبستمولوجيا الجابري هو ذلك الحاضر- الغائب الذي استطاع بمفاعيل الزمن أن يتكيف مع هذه المفارقات والتعايش معها، إلى درجة أنها تبدو في غير تصادم أو تنافر في فكره، فالفكر الغربي يقيم في كيان الجابري، ويساهم في ضبط أولوياته ، ولكن هذه المنطلقات لم تمنعه من تأكيد مبدأ الهوية والخصوصية والاختلاف وفق منطق تعايش المفارقات، ولذلك جاءت فكرة (الخصوصية) التي تعبر عن الخصوصية الثقافية لهذا الشعب أو ذاك، وعلى هذا الأساس جاءت فكرة الهوية عنده لتغني القدرة على محاولات التراث، والشجاعة في طرح الأسئلة، وإدراك الأبعاد المعلنة وغير المعلنة، أو إيماءة لحفر التراث والتنقيب فيه عن التجليات غير المعلنة، تلك هي وظيفة أساسية من وظائف الفكر عند الجابري ذات الالتقاء الثابت والبين بينه وبين الفيلسوف الفرنسي "ميشال فوكو"، إنه التفريق بين الرؤية الأيديولوجية والدلالة المعرفية، بين البعد الآتي الظرفي والبعد الثابت والمتأكد، المتميز بالتغير والتحول، وبين المستتر الذي يمثل أساسيات الفكر وثوابته.

2-أقفال التخلف: تعتبر مسار التحول الواعي للفكر العربي والإسلامي نحو الحداثة، مجموعة من المعوقات البنيوية المرتبطة بالعقل العربي والإسلامي وثقافته تارة، وبالواقع العربي والإسلامي وتجلياته الاجتماعية والسياسية تارة أخرى. وتدخل في هذا الإطار جملة من الأغلال والأقفال التي يمكن اعتبارها جزءاً أو عنصراً من عناصر الخلل الذي أصاب عقل الإنسان العربي والإسلامي في فكره وأيديولوجيته وثقافته وشعوره ومخيلته وقيمه، فكيف يمكن تفكيك تلك الأغلال وتجاوز الخلل الحاصل في مسار تحول العقل العربي والإسلامي، من عقل التخلف عن الركب الحضاري إلى عقل الحداثة .

3-أقفال الأيديولوجية: غزت الأيديولوجية كل الميادين (الفكر والسياسة والدين والأخلاق والمجتمع والإنسان)، واستعمرت كل البنى الثقافية التي يفكر بها أو يناقش أو يحاور أو يدعو بها الإنسان العربي إلى الحرية والعدالة والمساواة والحداثة والديموقراطية، حتى أضحت المعرفة العلمية أو البعد الايبستمولوجي للمعرفة بدوره ووظائفه لا يخلو من الأيديولوجية ، أكثر من ذلك نجدها أضحت في الفكر العربي المعاصر قدراً محتوماً لا فكاك منه، إن كان على المستوى التراثي التاريخي أم على المستوى الراهن والمستقبلي.

يُحمّل الواقع العربي ببنيات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية ودينية، ناتجة من تراكمات الإنسان العربي والإسلامي في الفكر والذات، يمكن اختزالها بأبعاد أربعة وهي (البعد الاقتصادي والبعد السياسي والبعد الديني والبعد الثقافي) غير أن المطلوب في حالتنا هذه هو تحليل موضوعي لواقع اجتماعي شامل.

فلا محال من الانكباب على تفكيك الثقافة العربية الإسلامية وتحليل مكوناتها وبنيتها للخروج من عقال تُسجن فيه أفكارنا وقناعاتنا، فإن نظام القيم في الثقافة العربية الإسلامي متداخل مع مجموعة من الموروثات الداخلية التي أصبحت تكوّن رأس ماله الثقافي، إلى حدود التذكر بالأساس الموروث العربي الأصيل والموروث الإسلامي الأصيل اللذين يصفهما الجابري بالموروث (الخالص)، وحجته في ذلك أن الأول يتمثل فيما جُمعَ ودوِّن عن العرب وأخبارهم وحروبهم ومفاخرهم في الجاهلية قبل مجيء الإسلام، أما الثاني فلأنه يستند إلى المرجعية الإسلامية من دون غيرها من الموروثات الأخرى الدخيلة على الثقافة العربية والإسلامية.

وبما أن العلاقة بين هذه الموروثات كانت علاقة تنافس وصراع، وبما أن السياسة كمجال، كانت أحد الأوجه التي على مدارها دار هذا الصراع، فإن كثيراً من القيم التي روجت لها هذه الموروثات الثقافية كانت قيماً سياسية أو ذات أسس محمّلة بالسياسة على الأقل.

إذاً، كل موروث يحمل معه القيم الخاصة به، والتي تجعله يؤثر في الثقافة، وللعربية والإسلامية تأثيراً معيناً، غير أن اعتماد العقل العربي والإسلامي على مدخراته المعرفية سواء المتراكمة عبر العصور أو المكتسبة عبر التجارب، سيولد لديه أولويات للنظر في واقعه الذاتي.

4-أقفال الحداثة والتحديث: نحن نسير في اتجاه الحداثة، بما هي مشروع فكري نابع من عقل الإنسان المعاصر الذي يحاول بدوره التفكير في أوضاعه الاجتماعية والسياسية والدينية، أملاً في الاستنارة بطريقة تقوده إلى عقل الحداثة، تجدر الإشارة إلى أن كل فعل يقوم به هذا العقل الإنساني في طابعه العربي والإسلامي يجب أن ينبع من قناعة معرفية وذاتية وفكرية مرتبطة بإرادته في التغيير والتحديث والعصرنة، بما هي من أفعال الحداثة.

وما دامت كل إرادة إنسانية مرتبطة بفكر مرتبط هو الآخر بعقل ناضج، فإن العقل الذي نبتغيه ونصبو إليه ليس سوى عقل يتجاوز كل ترسبات الفكر المتخلف سياسياً، ومتحرر من عقال الطاعة وهادف إلى التشبث بالحداثة من زاوية تجديدية وتحديثية، تبتغي النقد منهاجاً لها للتطوير من دون إفراط بالموروث ولا تفريط بمقتضيات الحداثة.

5-أقفال الاستبداد: تختلف التفسيرات والتحديدات التي تحاول تعريف مفهوم الاستبداد كل حسب مجالات اشتغاله أو حسب الجهات التي توظفه في ممارساتها، غير أن الطبيعة التي يتولد عنها أو يولدها في "زمكان" تبلوره تظل واحدة، وهي طبيعة تتسم بالاغتصاب والاستحواذ والاستئثار من دون وجه وحق تارة، وبالنهب والتسلط والطغيان تارة أخرى. وكيفما كانت الأوضاع التي يظهر فيها فإنها غالباً ما تتسم بالمأساوية، يستلذ فيها المستبد بامتلاك القوة وبلوغ القمة، فتبدو له اللذة التي يستمتع بها والتي تمنحه نوعاً من السيطرة والتجبر حقاً مكتسباً يسمح له بالتلاعب برقاب الناس والتحكم في مصائرهم، في الوقت الذي لا ينتج كل ذلك إلا من غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة كما يؤكد العلامة عبد الرحمن الكواكبي .

ويصف ابن رشد حالة المستبد التي لا تختلف عن حالته قبل لزومه للرئاسة والتي لا تتغير بل تزداد مأساوية، وهو يقول فيه (وحداني التسلط أشد الناس عبودية وليس له حيلة في إشباع شهواته، بل هو أبداً في حزن وأسى دائمين، ومن كانت هذه صفته، فهو ضعيف النفس، إنه حسود وظالم، ولا يحب أحداً من الناس)، وذلك أن هذه الصفات لما كانت موجودة فيه قبل الرئاسة، فهي ألزم به بعدها.

يكفينا للخروج من قفل الاستبداد أن نعقل بالفكر والقلب، وأن الفكر والعقل نعمتان وهبهما الله للمرء للاقتداء بنورهما في ظلمات المسير نحو الخير الأعظم، ولدفع أي أذى يصادفهما في طريقهما سواء بالمصادفة أو بفعل فاعل، لا ينفعهما سوى الشجاعة في استخدام العقل.

6-أقفال الطوباوية الاجتماعية: يتفق محمد عابد الجابري في معالجته لقضايا الوعي والأيديولوجيا مع كارل مانهايم، إلى اعتبار الأيديولوجيا والطوباوية نتيجتين للوعي الخاطئ، وأنهما متعاليتان عن الواقع الاجتماعي، فهما مثل عليا يتعذر تحقيقها لعدم بنائها على الواقع. فالأيديولوجيا عبارة عن نظرة تمجد الماضي (وفي التمجيد تجميد) ولا توظّف إلا لحفظ الكيان الاجتماعي، ولكن يفوتها من منظور الجابري اعتبار الكائن الإنساني من صميم الواقع الاجتماعي، حيث لا تأخذ في الاعتبار حركية المجتمع وتكيفاته (وفي التحليل إحلال)، لذلك فإن هذا الاجتماعي الذي تدرسه الأيديولوجية يتعالى ويتجاوز ذلك الارتباط بالماضي، ومن هنا تتعرى خيوط مشكلة العلاقة الإجرائية بين الواقعة الاجتماعية والأيديولوجيا، وهذا هو سبب الوقوع في شباك مفهوم القطيعة التي تلغي الماضي ولا تأخذ في الاعتبار الأساس الاجتماعي للفكرة، في الوقت الذي يريد للمنهج أن يقرأ التراث قراءة مطابقة (فكيف قطيعة وكيف قراءة التراث).

أما الطوباوية، فهي عكس الأيديولوجيا، تتجه نحو المستقبل حينما تنشد التغير الثوري باعتماد مجموعة من القيم الثورية التي يفتقدها ويشتاق إليها الواقع الاجتماعي الراهن، إلا أن التحفظ ذاته نجده عند أصحاب الفكر التاريخي حينما يرون أن الطوباوية هي قفزة فوق الواقع وتعالٍ عليه، ولذلك يجب التعامل معها بتحفظ شديد. على أساس أن الأيديولوجيا التي يجب توفرها في المشروع الاجتماعي العربي عموماً هي تلك التي تعبر عن مشروع اجتماعي ممكن التحقق، أي أيديولوجيا كلية، يصنعها فكر لا رباط له إلا رباط التغير والتحول واللذين يعبران عن الفكر المتحرر (طوبا- أيديولوجيا) ليتحدى السلطة الطاغية والنظام السياسي الجائر. فيجبرها على التوجه نحو العلاقة الديمقراطية الصحيحة من خلال سيادة القانون، واحترام وتكريس حقوق الإنسان ومفهوم المواطن، إنها أيديولوجيا نضالية، لاغية للتبعية، وغير ذلك تتكون الثقافة المزيفة التي صارت تسكن كياننا وفي طريقها لأن تلغي ذواتنا .

لقد تمكنت بلدان العالم العربي وهي تجابه الاستعمار من بناء أيديولوجيا ظرفية، وهي أيديولوجية نضالية ذات غائية محدودة بالاستقلال، وبطرد الاستعمار المباشر ورده إلى حدوده الطبيعية، فإذا كانت حركات التحرر في هذه البلدان تمكنت من إيجاد وعي لتحيك الطاقة الفردية والاجتماعية ومن أن توجه هذا الوعي في اتجاه معين، نجد ارتباطها بأيديولوجيا كافية لنيل الاستقلال السياسي. لكن ما حدث بعد ذلك أن بدأ هذا الوعي في هذه البلدان بالتراجع، لأن النشاط الفردي أضلّ وانحرف وابتعد عن النشاط الاجتماعي، ومن هنا نشأت أزمة أيديولوجية لفّت هذه البلدان لأنها صارت تملك استقلالاً وتملك خطط عمل، ولكنها لا تملك أيديولوجيا. فإذ كانت الأيديولوجيا وليدة مشروع ثقافي وحضاري ضخم لا بد من إنجابه طوباوياً، نجد في الحضارة العربية والإسلامية خير دليل على تجسيد مشروع حضاري من هذا القبيل.

7-العقلانية: إن تحديث الفكر العربي وقراءة التراث قراءة تجديدية، وتحديث الفكر العربي والنهوض به، لا يمكن أن تتم إلا من الداخل، وإذا كان التحديث يتم على أنقاض القديم لينتظم في تراث هذا الماضي بعينه، فإن التحديث يكمن فيما تحتويه هذه الذات. وإذا كان التحديث استرجاعاً، فنجد فيه حالة بنائية للتراث وإعادة ترتيب للعلاقات بين أجزاء الماضي، بطريقة تجعل الذات العربية تمتلك ماضيها بدل أن يتملكها، وتكون منه أساساً للنهضة ولاستشراف المستقبل. إنها ممارسة صريحة للعقلانية وللتفكير العلمي في التراث تأسيساً على مفاهيم علمية، ورؤى مستجدة في العلوم الرياضية، والفيزيائية، والإنسانية، لتجعل من المعرفة كلاً موحداً يؤثر في كل العلوم ومناهجها، التي هي أدوات ومفاهيم مرتبطة في الأصل بواقع فكري واجتماعي وأيديولوجي.

لكن الجابري يرى أن واقع العرب والمسلمين اليوم مغاير لواقع ماضي الذات العربية، لذلك يرى أنه لا بد من تطويع هذه المناهج كي تخضع لمقتضيات الموضوع، أي لمعالجة التراث بتفكيكه، فليس المطلوب أن نبرهن على صحة المنهج، بل المطلوب هو تفكيك موضوع معين (سبق القول في التحليل إحلال)، والاستفادة منه وممارسة التفكير فيه، وهذا يتطلب بالضرورة تحليل الواقع وليس تفكيكه، لأن التراث جزء من واقع الذات العربية الراهنة. لذلك يجب أن نمارس التجديد في التراث ليتجدد عقلنا وتتجدد رؤانا الفكرية، إنه السبيل لإثارة الروح العلمية باعتبارها الأساس المكين في سيادة الروح النقدية.

إذا كان الإنسان حامل لتراثه بشكل واع أو غير واع، فهو بحاجة أيضاً إلى معرفة هذا التراث وإلى أدوات تمكنه من الاتصال به والتواصل معه، وإلا لهذا التراث أن يعتقلنا كلما حاولنا الانسلاخ منه والتنكر له. فمعرفة التراث في أن نحتويه بدل أن يحتوينا، ولكي نحتويه يجب أن نضعه في مكانه التاريخي وتحليله تحليلاً أبستمولوجيا وإعادة بنائه بإعادة ترتيب علاقاتنا معه، وبذلك نتحرر منه ومن القراءات الغربية له، فنصبح مستقلين من عقال التراث ومن المعتقل ضد الفكر الغربي برمته، ولا يمكن لنا أن نتحرر منهما إلا بالتعامل معهما معاً .

ففكرة التحرر من حيث مكانتها ومركزها الإشكالي في النهضة التي تنشدها الذات العربية هي عملية معقدة ومتشعبة وتحمل أقفالها، فيها جملة متنوعة من العوامل التي لا يمكن اختزالها أو تبسيطها. فما قام به المأمون عبدالله بن هارون الرشيد (786- 833م) لا يمكن أن يعدّ عملاً مجانياً أو ترفاً فكرياً، بل إنه عمل هادف وظيفي (ذات الربط الطوبا- أيديولوجي)، فالدولة العباسية نمت بقوة، ونمت حاجاتها إلى علوم وفلسفة وإلى أيديولوجيا عقلانية تجابه بها خصومها ممن كانوا ينتمون إلى الفرق الشعوبية التي كانت تطالب باسترجاع استقلالها وسيادتها.

أشار ابن خلدون إلى خلفية نماء الصنائع ودوامها، ومن هذه الخلفيات ما هو اجتماعي، وما هو حضاري، ومنها ما يعود أصلاً إلى السياسة، أي إلى الدولة، فيقول (الصنائع وإجادتها إنما تطلبها الدولة، فهي التي تتفق سوقها وتوجه الطلبات إليها، وما لم تطلبه الدولة إنما يطلبه غيرها من أهل المصر، فليس على نسبتها، لأن الدولة هي السوق الأعظم وفيها نفاق كل شيء والقليل والكثير فيها على نسبة واحدة، فما نفق فيها كان أكثرياً ضرورة، والسوقة وإن طلبوا الصناعة فليس طلبهم بعام ولا سوقهم بنافقه). إلا أن كثرة ونمو الصنائع لا تمنع من وجود صراع أيديولوجي حاد بين الدولة ورواد الخروج عليها، ولذلك وظِّف داخل هذا الصراع ما أمكن توظيفه مما احتوته الساحة العربية آنذاك من مانوية وغنوص، فتسرب منها ما تسرب إلى الفكر العربي من تصوف وفكر إسماعيلي وغيرهما، تماماً كما رافقت الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني هذا الصراع الأيديولوجي على أيام الدولة العباسية، وأدى في نهاية المطاف إلى درجة من النمو في تنوع الاجتهادات وقفزات نوعية. وهكذا تجلت البوادر في الأندلس انطلاقاً من علي بن أحمد بن حزم الأندلسي وأبو بكر محمد بن باجه، ويلتمس التجديد في مشروع الشاطبي كما يرى الجابري في ثلاث خطوات:

فالأولى كانت مع الشاطبي الذي دشن مقالاً في الأصول، يُثبت قوامه بضرورة الحس أو بضرورة العقل أو بالنظر إلى الاستدلال، أما الثانية فتُثبت بالنقل نقلاً صحيحاً (ومن النقل إلى العقل)، وتحمّل هذه الخطوة بالاستقراء، إذ دعا ابن حزم إلى ضرورة اعتماده منهجاً في التعامل مع النص القرآني، وسلك ابن رشد المسلك نفسه حين جعل معنى التأويل هو استخلاص معنى للفظ من النص القرآني باعتماد نوع من الاستقراء، ثم يأتي الشاطبي فيوظف هذا التطبيق الرشدي للاستقراء الحزمي توظيفاً جديداً قوامه استخلاص من (كليات الشريعة) التي هي كليات استقرائية.

والخطوة الثالثة هي مقاصد الشريعة، حيث يؤكد الجابري أن الشاطبي أخذ هذه الفكرة من ابن رشد ليوظفها في مجال الأصول التي دعا إلى ضرورة بنائها على مقاصد الشرع بدل بنائها على استثمار لفظ النصوص كما لدى الشافعي، واعتبر الجابري هذه النقاط الثلاث وهي (مفهوم المقاصد والمفهوم الكلي والطريقة التركيبية) إنما هي عناصر لم يكن لها حضور تأسيس في حقل المعرفة البياني، وبالتالي يكون الشاطبي قد دشن نقلة ايبستمولوجية هائلة في الفكر الأصولي البياني العربي، حققت فيه المشروع الحزمي الرشدي القائم على تأسيس البيان على البرهان، وذلك انطلاقاً من مركز الدائرة البيانية نفسها (علم الشريعة).

 
إن مشكلة التراث ليست من المشكلات السهلة، لأن التراث يؤطرنا ويثقلنا ويساهم بقدر وافر في بنية عقلنا وأيديولوجيتنا، فهو عنصر مفهومي أساسي مهيمن لا يتجاوز المفهوم النظري، ويبقى خالٍ من المعنى ما لم يوضع داخل النظام المعرفي الذي ينتمي إليه والذي أنتجه، وإلا بقينا كما يوضح الجابري في كتابه (نحن والتراث) ضمن قراءات سلفية تعاني من آفتين، إحداهما في المنهج والأخرى في الرؤية. فإن آفة المنهج وآفة الرؤية هما آليتان كافيتان لتأسيس ضرورة إعادة النظر في مكونات العقل العربي والبحث في بنية مفاهيمية، تمكنه من تجاوز عوائقه ومعوقاته المعرفية.

لقد تضافرت عوامل سياسية داخلية عامة مع عوامل حضارية كونية، أدت إلى إجهاض عملية التجديد التي حبلت بها الثقافة العربية الإسلامية في الأندلس، فأوصدت أبواب المحيط التكويني عن الذات الأصل المفكرة، إلى أن جاء عصر النهضة والسؤال يُطرح، هل من الممكن الكشف عن المعوقات المنهجية داخل آليات العقل العربي الحديث؟ فإذا كان نقد العقل العربي عملاً فكرياً تأسيسياً محمّلاً بهم النقد التجديدي، نجد التحديث عملية تبدأ من داخل مخزون الثقافة العربية الإسلامية ومن داخل مكونات العقل العربي، فالذات العربية تفكر بطريقة معينة وبثوابت معينة، وانطلاقاً من مرجعية معينة تندرج أساساً في إطار الحضارة العربية الإسلامية التي فيها نشأت هذه الذات وفيها تدرس.


الخاتمة
إن ضرورة الحصول على طريق واضح أصوله ونير حاضره وجلي مستقبله، يستدعي قراءة متفحصة للماضي والعودة إلى التراث دون الوصل معه بشكل تام، ولا الفصل عنه بشكل تام. فإذا أردنا الترقي بمختلف معارفنا في إطار من التواصل الفكري مع التراث التاريخي للإنسان العربي، فلا بد أن نتواصل مع الماضي وإعادة بناء أسس صحيحة لجعله تراثاً معاصراً لنا وفق الشروط والظروف التي نعيشها اليوم، هذا لا يعني الانفصال عن الماضي أو القطيعة التامة معه، بل إنه فصل الموضوع عن الذات.

إن تجديد العقل لا يتم فقط على مدى استيعابنا للمكتسبات العلمية والمنهجية المعاصرة، بل على مدى قدرتنا على استيعاب نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون، وهكذا فإن القناعة الراسخة بأن تجديد العقل العربي لا يمكن أن يتم فقط بالدعوة إلى استعمال مناهج جديدة وشرحها، ولكن بضرورة استعمال هذه المناهج وتوظيفها في تحليل تراثنا، لا من أجل أن نكتشف التقدم فيه، ولكن لنمارس فيه العقلانية كبنية جديدة، لذلك جعل الجابري نقد العقل العربي ممارسة للعقلانية في التراث وممارسة للتحليل والرؤية بواسطة المناهج العلمية دون التقيد بواحد منها. لأن كل المناهج مفيدة في مسألة بعينها، وكلها غير مفيدة في مسألة غيرها، بهذا يمكن التأكيد أن طبيعة الموضوع تفرض نوعية المنهج، وأن نقد العقل شرط ضروري من شروط النهضة، وتغييب النقد في فكر النهضة الحديثة من أهم عوامل تعثرها، تالياً إنه المطلب الذي لم يتحقق حتى الآن. ثمة بدء فك الأقفال يتطلب عملية نقد متحررة من أسر القراءات السائدة واستئناف النظر في معطيات الثقافة العربية الإسلامية بمختلف فروعها دون التقيد بوجهات النظر السائدة.

من المراجع التي تم الاطلاع عليها
1)ابن خلدون، عبد الرحمن، مقدمة كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، ط. ثانية، بيروت 1961.
2)ابن رشد، تهافت التهافت، انتصاراً للروح العلمية وتأسيساً لأخلاقيات الحوار، محمد عابد الجابري، سلسلة التراث الفلسفي، مؤلفات ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998.
3)ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة، مقدمة تحليلية وشروح (محمد عابد الجابري)، سلسلة التراث الفلسفي العربي، مؤلفات ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998.
4)الجابري، محمد عابد، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1989.
5)الجابري، محمد عابد، نحن والتراث، قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1982.
6)الجابري، محمد عابد، نقد العقل العربي، بنية العقل العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، دراسات الوحدة العربية، بيروت 1986.
7)النشار، د. علي سامي، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، دار النهضة العربية، الاسكندرية، ط ثالثة 1984.
8)زيادة، د. معن، معالم على طريق تحديث الفكر العربي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 115، الكويت 1987.
9)عطية، عاطف، الثقافة المعولمة، إشكالية العلاقة بين الثقافة العربية والعولمة، دار نلسن، بيروت 2011.
10)مانهايم، كارل، الأيديولوجيا والاتوبيا، مقدمة في سيولوجيا المعرفة، ترجمة محمد رجا الدريني، شركة المكتبة الكويتية، الكويت 1980.
11)مجموعة مؤلفين، فلسفة النقد ونقد الفلسفة في الفكر العربي والغربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ط أولى 2005.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net