Tahawolat
ملخّص

 تُعتبر الدراسة البينيّة واحدة من الأساليب العلميّة المتطورة في معالجة بعض المسائل والقضايا وفي الإجابة عن عدد كبير من الإشكاليات التي تُطرح بين مختلف التخصّصات. وفي هذا الإطار تُعتبر رواية «حكايتي شرح يطول» للكاتبة حنان الشيخ نموذجاً مهمّاً لدراسة بينية تشمل فروع الجغرافية من جهة والرواية الأدبيّة من جهة أخرى. سمحت لنا هذه الدراسة البينية باستخراج العناصر الجغرافية من الرواية، وتبيان دلالاتها المختلفة. إنّ هذا النوع من الدراسات يفتح الطريق أمام تعاون كبير بين العديد من العلوم، ما يساهم في شرح أدقّ لمختلف الظواهر العلميّة والأعمال الأدبيّة.

كلمات مفاتيح: دراسات بينية – رواية – جغرافية – دلالات.

Résumé. L’études interdisciplinaires est l'une des méthodes scientifiques les plus avancées pour traiter certaines questions et répondre à un grand nombre de problématiques qui se posent entre les différentes disciplines. Dans ce contexte, le roman «حكايتي شرح يطول» de l’écrivain Hanane El-Sheikh est un exemple important d'une étude interdisciplinaire, comprenant les sciences géographiques d'une part et le roman d'autre part. Cette étude interdisciplinaire nous a permis d'extraire les éléments géographiques du roman, et de montrer ses différentes indicatrices. Ce type d'étude ouvre la voie à une grande coopération entre de nombreuses sciences, ce qui contribue à une explication plus précise des divers phénomènes scientifiques et des œuvres littéraires.

Mots Clés: étude interdisciplinaire – roman – géographie – indicateur.

Summary. Interdisciplinary studie is one of the most advanced scientific methods for addressing certain issues and responding to a large number of problems asked between different disciplines. In this context, the roman «حكايتي شرح يطول» by the writer Hanane El-Sheikh is an important example of an interdisciplinary study, including geographical sciences and the novel. This interdisciplinary study allowed us to extract the geographical elements of the novel and to show its different indicators. This type of study opens the way to a great cooperation between many sciences, which contributes to a more precise explanation of various scientific phenomena and literary works.

Keywords: interdisciplinary studie – novel – geography – indicator.

1- مقدّمة
يتزايدُ الترابط في عالمنا اليوم بشكل متسارع عبر شبكات التواصل بين عدة تخصّصات ذات أهداف ومناهج عمل متباينة. وذلك بهدف تبادل المعلومات المختلفة لمواجهة تحديات العالم المتغيّر. ساهم هذا الأمر في تغيير طبيعة العمل من العمل الفردي إلى العمل الجماعي المُبدِع بين مختلف هذه التخصّصات.
 
من جهة أخرى، ومنذ آب من سنة 1937، وجد عالم الاجتماع في جامعة شيكاغو Christian Chevadier، وفي تقرير أعدّه لمجلس أبحاث العلوم الاجتماعية في الولايات المتحدة، أنّ الدراسات البينية، هي واحدة من المفاهيم الرئيسية التي تنبغي دراستُها بشكل دقيق (Chevadier, 2014). ومنذ ذلك الحين، بدأ هذا النوع من الدراسات يتطوّر وينتشر بسرعة. وتعرّف الدراسات البينية على أنّها عبارة عن التفاعل بين اثنين أو أكثر من التخصصات، بدءاً من التواصل البسيط للأفكار، وصولاً إلى التكامل المتبادل للمفاهيم التوجيهية للمعرفة، والمصطلحات، والمنهجية، وغيرها (Routhier, 2009).

ويمكن اعتبار أن كلّاً من الجغرافيا من جهة (وهي واحدة من العلوم الإنسانية) والرواية الأدبية من جهة أخرى، تخصصان نموذجيان يمكنُ من خلالهما تنفيذ دراسات بينية، وذلك بسبب وجود تشارك بين بعض فروع الجغرافيا، علم المياه بالتحديد، وأصل كلمة رواية، على الرغم من اختلاف الميدان التطبيقي لكلّ منهما. فالجغرافيا هي علمٌ قديمٌ يُنسب الفضل في تأسيسه إلى اليونانيين. وفي البداية عُرف بأنه علمُ وصف الأرض (Geo: الأرض وGraphos: رسم) (الزوكة، 2000). أمّا Pierre Georges فهو يفسّر في قاموسه أن الجغرافيا هي العلم الذي يدرس مسبّبات الظواهر التي كانت تُوصف فقط في السابق، بالإضافة إلى مقارنة هذه الظواهر مع غيرها من الظواهر في أماكن أخرى (جورج، 2002). وبذلك اكتسبَت الجغرافيا صفة الوصف والتّحليل والربّط بين مختلف الظواهر الطبيعيّة والبشريّة على الكرة الأرضيّة، ولم تبقَ أداة لاستكشاف الأماكن ووصفها فقط. وتحوّل الجغرافيّ من الاهتمام بالأماكن إلى الاهتمام بالإنسان وبنشاطاته التي يمارسُها في مكان معيّن.
 
أما كلمة «رواية» فهي تعود في أصلها اللغوي إلى «روى»، وهو جرَيان الماء (علم المياه هو فرع من فروع الجغرافيا كما ذكرنا)، أو وجوده بغزارة، أو ظهوره تحت أيّ شكل من الأشكال، أو نقله من حال إلى حال أخرى، وكانوا يطلقون على الشخص الذي يستقي الماء «الراوية». ومن ثمّ أُطلقت هذه الكلمة على ناقل الشعْر، وذلك بسبب وجود تشابه معنويّ بين الريّ الروحيّ الذي هو الارتواء من التلذّذ بسماع الشعر أو استظهاره بالإنشاد من جهة، والارتواء المادي بالماء العذب البارد الذي يقطع الظمأ من جهة أخرى. وقد لاحظ العربي الأوّل العلاقة بين الماء والشعر لأن موطنه الصحراء، كان أعز شيء فيه هو الماء ثم الشعر (مرتاض، 1998). وهناك من عرّف الرواية بأنها جنسٌ أدبيٌّ يشترك مع الأسطورة والحكاية في سرد أحداث معيّنة، تمثّل الواقع وتعكس مواقف إنسانية وتتخذ من اللغة النثرية تعبيراً لتصوير الشخصيات (حجازي، 2005).

من جهة أخرى، كتبت الأديبة حنان الشيخ رواية «حكايتي شرح يطول» التي تروي فيها حياة والدتها ومعاناتها في حياتها الزوجية وحالة الفقر التي عاشتها في طفولتها. ضمن هذا الإطار، يمكن طرح الأسئلة التالية: هل تُعتبر هذه الرواية نموذجيّة للدراسات البينية بين الأدب والجغرافيا؟ وما هي العناصر الجغرافيّة التي يمكن استخراجُها من الرواية؟ وما هي دلالاتُها؟ وهل تتشابَهُ العناصر المكانيّة الجغرافيّة مع العناصر المكانيّة في الرواية؟

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل رواية «حكايتي شرح يطول»، من زاوية بينية عبر استخراج كل العناصر الجغرافية الموجودة فيها والحديث عن دلالاتها. وذلك بهدف إظهار مدى أهمية استعمال الطريقة البينية في تنفيذ الدراسات في علومنا المعاصرة، التي يمكن أن تحلّ مكان الدراسات الأحادية.

إنّ من يقرأ هذه الرواية لا يسَعُه إلّا أن يتوقف عند مجموعة كبيرة من العناصر الجغرافية التي تكمن أهميتها في أنّها تجعل القارئ يتسلّل إلى داخل شخصيات الرواية ويعيش معها مختلف الحالات النفسيّة التي عاشتها. تمثّل هذه العناصر الجغرافية مختلف فروع الجغرافية البشرية مثل جغرافية العمران والجغرافية الاقتصادية. بالإضافة إلى فروع الجغرافية الطبيعية مثل المناخ والمياه والبيئة وغيرها.

2- عناصر الجغرافيا البشرية في الرواية ودلالاتها

تتنوع عناصر الجغرافيا البشرية بشكل عام، ولكنّنا سنكتفي في ما يلي بتبيان دلالات عناصر الجغرافيا البشرية التي وردت في الرواية.
أ- عناصر الجغرافية الاقتصادية
تهتم الجغرافيا الاقتصادية التي وضعَ أسسها العالم الألماني جونز غوتا بالسببية، بهدف إظهار المؤثرات الإقليمية المباشرة على إنتاج السلع، بالإضافة إلى الربط بين الحرف المتعددة والبيئة الطبيعية بما تحتويه من ثروات مختلفة، وإيجاد العلاقة المتبادلة بينهما. وذلك بعكس الجغرافيا التجارية التي تهتم بدراسة إنتاج المحاصيل الرئيسية في العالم وتجارتها الدولية، وفق منهج إحصائيّ يعتمد على الوصف من دون الاهتمام بالعوامل الجغرافية المؤثرة في الإنتاج والتسويق (الزوكة، 2000).

وتَظهر العناصر الاقتصادية والتجارية في الرواية من خلال الحديث عن السوق المكتظّةِ في النبطية، الذي يشير إلى عنصر الجذب التجاري الذي تميزت به هذه المنطقة، ما أعطى أهمية تجاريّة كبيرة لها. ويتجلّى ذلك بشكل واضح، عندما تُحدِّثُنا الكاتبة عن الطفلة التي لم تكن تستطيع أن تمّيز والدها في السوق إلّا من خلال صوته بسبب وجود عدد كبير من التّجار والناس الذين يشترون ما هم بحاجة إليه من مواد غذائية وحيوانية تُباع فيه. ويدلّ عدم خوف الطفلة من جموع التجار على أنها اعتادت على التنقّل بين الناس من دون خوف وبكلّ طمأنينة، فحدود مساحة الأمان النفسيّة في المكان الذي كانت تعيش فيه كانت واسعة.

ومن عناصر الجغرافية الاقتصادية أيضاً التي تظهر في الرواية، الحالة الاقتصادية المتردية التي كانت تعاني منها عائلة والدة الكاتبة، فالأمّ كانت ترى أيادي والدة الكاتبة وأخوتها فارغة بعد عودتها من السوق التجارية. هذه الحالة المتردية ربما ساهمت في خلق مشاكل وخلافات كبيرة بين أب الطفلة (والد حنان الشيخ) وأمها وصلت إلى الطلاق.

وتتجلى الجغرافية الاقتصادية في الرواية أيضاً في الحديث عن النشاط البشري الزراعي الذي كانت تمارسه عائلة الطفلة وسكان المنطقة بشكل عام. كانت عائلة الطفلة تزرع الفول، وتقطف محاصيل التين من الحاكورة (وهي الأرض التي تخصّص لزراعة الأشجار قرب الدور). وتظهر هنا واحدة من أشكال النظام الاقتصادي الذي كان سائداً بشكل عام في القرى خلال هذه الحقبة الزمنية وهو نظام الزراعة التقليديّة والاكتفاء الذاتيّ الذي كانت تمارسه العائلة. وورد في الرواية أيضاً أن السكان في تلك المنطقة كانوا يزرعون مساحات كبيرة من حقول القمح وغيرها. يقودنا هذا الأمر إلى استنتاج النظام الاقتصادي الزراعي الآخر الذي كان سائداً في تلك المنطقة وهو الزراعة التجارية. يمكننا أن نتبيّن أن المجتمع الذي كانت تعيش فيه أم حنان الشيخ هو مجتمع زراعي بامتياز. والمجتمع الزراعي عادة ما يتميز بالكرم ويُظهر مدى تعلّق المُزارِع بأرضه وهذا ما كان يميّز أسرة الأم.

ب- عناصر جغرافية العمران
تُعنى جغرافية العمران بدراسة موضوعين أساسيين: الأوّل يتعلّق بالسكن الريفي (نشأة السكن الريفيّ وأنماط القرى والعوامل الطبيعية والبشرية التي تؤثر في توزيع السكن، ...) أما الثاني فهو يتعلق بالسكن المدني (تحديد الأقاليم المدنية بعد دراسة تحليلية لنشأة المدن وشكلها ومحتوياتها ووظائفها وسكانها) ويتم ذلك بالملاحظة والتسجيل والرسم (وهيبة، 1980).
 
يمكننا، من حيث جغرافية العمران، استخلاص خصائص الأمكنة الريفية والمدنية التي وُجدت فيها شخصيات الرواية. ويجب قبل ذلك، أن نوضح الفرق بين المكان من وجهة نظر روائية والمكان من وجهة نظر عمرانية جغرافية. يكتسب المكان في الرواية أهمية كبيرة لأنه يتحوّل في بعض الأعمال المتميزة إلى فضاء يحتوي كل العناصر الروائية، بما فيها من حوادث وشخصيات، وما بينهما من علاقات، ويمنحها المناخ الذي تفعل فيه، وتعبّر عن وجهة نظرها. والمكان في الرواية قائم في خيال المتلقي وليس في العالم الخارجي، ولذلك فإن استعانة الروائي بوصف المكان أو بتسميته، لا يعني تصوير المكان الخارجي وإنما المكان الروائي لإثارة خيال المتلقي. وإذا كان السرد يروي الأحداث في الزمان، فإن الوصف يصوّر الأشياء في المكان ولكنّه ليس غاية في ذاته، إنّما هو لأجل صنع المكان الروائي أو بالأحرى لخلق الفضاء الروائي (حمادة، 2008). أمّا في الجغرافيا فللمكان معانٍ مادية علمية بحت. فإذا كانت الجغرافيا تدرس نشاطاً بشريّاً معيناً، فإن دراستها هذه لا تكتمل من دون ربط هذا النشاط بمكان ما على سطح الأرض لديه أبعاد مادية علمية محددة كالطول والعرض والمساحة والارتفاع. مثلاً، دراسة النشاط الزراعي لا تكتسب قيمتها الجغرافية إلّا إذا حددت المكان الذي يُمارَس فيه هذا النشاط (مساحة الأرض المزروعة، موقعها،...).
 
وتظهر جوانب جغرافية العمران في رواية «حكايتي شرح يطول»، عندما تحدِّثنا الكاتبة عن هندسة البناء في بيروت بوصفها شرفات الأبنية والقرميد وغيرها... يُظهر هذا الوصف أن الطفلة كانت تعيش صراعاً داخليّاً قبل الانتقال إلى بيروت. هذا الصراع يتجلّى في التعبير عن الحزن الذي كانت تعيشه عندما تركت الريف حيث الأصدقاء، ويتجلّى في الوقت نفسه في حالة الفرح التي كانت تشعر بها لأنها كانت تنتظر بشوق وصولها إلى بيروت، مدينة المرايا الكبيرة. لكنّ هذا الصراع سرعان ما انتهى عند وصولها إلى المدينة إذ حُسم لصالح التعلّق بالريف: فهي استهزأت بشرفات أبنية المدينة عندما ظنّت أن السكان الذين يوجدون على شرفات الأبنية ليس لديهم أسقف تأويهم، وهذا الوصف ما هو إلا ردّ فعل تلقائيّ يُظهر مدى تعلق الطفلة بالريف الذي كانت تعيش فيه. وشبّهت، بالإضافة إلى ذلك، قرميدها بما هو جميل في الريف، فهو يشبه لبّ الرمان في ارتصافه.

وتختلط في هذه الرواية عناصر الجغرافيا البشرية مع تلك الطبيعية التي لا تقلّ أهمية في دلالاتها عن العناصر البشرية. وكلّ تلك العناصر، أطبيعية كانت أم بشرية، لم تكن لتظهر لولا المقاربة البينية للرواية بين ميادين وفروع الجغرافية من جهة والرواية من جهة أخرى.

3- عناصر الجغرافيا الطبيعية في الرواية ودلالاتها
تزخر رواية «حكايتي شرح يطول» بالعناصر الجغرافية الطبيعية وأهمها المناخ والبيئة والجيولوجيا والمياه. هذه العناصر ساعدتنا في فهم الإطار الطبيعي حيث دارت الأحداث وتنقلت شخصيات الرواية.

أ- عناصر علم المناخ
إن علم المناخ هو العلم الذي يدرس عناصر الطقس نفسها (المتساقطات والرطوبة والحرارة،...) التي يدرسها علم الأرصاد الجوية، ولكن بمقياس زمنيّ مختلف: فإذا كان علم الأرصاد الجوية يدرس حالة الطقس لمدة لا تتجاوز الساعات أو الأيام، فإن علم المناخ يدرس حالة الطقس لمدة طويلة تصل إلى 30 سنة (Aguedo, 2015). وتتفاعل عناصر المناخ مع النشاط البشري بشكل واضح. فمثلاً، يؤدي استعمالُ الوقود الأحفوريّ إلى زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي وبالتالي يؤدّي ذلك إلى زيادة التلوث (Lamarre, 1999). في المقابل، يسهم بعض عناصر المناخ مثل الحرارة، في تحديد أماكن سكن الإنسان، وبالتالي تحديد الكثافات السكانية على سطح الكرة الأرضية. فنلاحظ مثلاً أن كثافة السكان تنخفض في العروض العليا وعند أعالي السلاسل الجبلية بسبب انخفاض الحرارة، وفي المقابل ترتفع هذه الكثافة في المناطق التي تعتدلُ فيها درجات الحرارة.

تظهر العناصر المناخية في الرواية عندما تحدِّثنا الكاتبة عن طول أيام فصل الصيف التي بينت من خلالها معاناة الطفلة، فهي كانت تجلس حزينة منتظرة مرور ساعات النهار الطويلة وهبوط الليل حتى تخطّط للهرب من بيت أبيها للعودة إلى بيت أمها. ومن المعروف جغرافياً أن محور الأرض يكون مائلاً باتجاه الشمس في فصل الصيف في نصف الكرة الشمالي، ما يؤدي إلى جعل النهار في الصيف أطول منه في الشتاء. وتتابع الكاتبة حديثها عن عناصر المناخ عندما تخبرنا عن تكوّن قطرات الندى في الصباح الباكر، وهذا يشير إلى رقّة الطفلة وإحساسها المرهف. والندى هو ظاهرة مناخيّة تتكوّن عندما يتكاثف بخار الماء ويتحوّل إلى مياه سائلة بسبب ملامسته لسطح بارد.

ب- عناصر المنظومة البيئيّة والوسط الطبيعيّ
تشكل المنظومة البيئيّة مجموعة الكائنات الحية (biocénose) التي تتفاعل مع عناصر الموئل (biotope) الذي تعيش فيه (الصخور والمجاري المائية...) من خلال مجموعة من الروابط المعقدة (كالطاقة...). إن الجغرافيا لا تدرس المنظومة البيئية كما يدرسها عالم البيئة، ويكمن الفرق في نقطتين اثنتين: تتمثل الأولى في أن عالم البيئة يركّز في دراسته على الكائنات الحيّة بشكل أساسي، وهو لا يهتم بدراسة الموئل إلّا في إطار إمكانية تأثيره في الكائن الحيّ موضوع الدراسة، وذلك بعكس الجغرافي الذي يركز في دراسته على الموئل باعتباره العنصر الأساسي في موضوع الدراسة. أمّا النقطة الثانية، فتتمثّل في أن عالم البيئة يعتبر أن الإنسان هو كائن عادي مثله مثل باقي الكائنات الحية، أمّا الجغرافي فهو يعتبر أن الإنسان هو كائن أساسي ومركزيّ بين باقي الكائنات الحية، وهو الذي أثر في تلك الكائنات وفي الموئل خلال آلاف السنين (Demangeot, 2000). وتدرس الجغرافيا بشكل أساسي الوسط الذي يحتل مركز المجال الجغرافي: فمثلاً نقول إن السمكة تعيش في الوسط البحري. هذا الوسط يسمّى طبيعياً عندما تسيطر عليه العناصر الطبيعية التي ظلّت بمعظمها محمية من التدخل والتحول من قِبل البشر مثل الغابات والمستنقعات... وهو لا يصبح طبيعياً عندما يتحوّل بمعظمه إلى بشريّ بسبب كثرة النشاطات البشرية مثل انشار العمران فوق المساحات الخضراء وغيره.

وتتجلّى عناصر المنظومة البيئية في الرواية، عندما تحدثنا الكاتبة عن الأراضي الوعرة والحجارة والضباع والنباتات الطبيعية، التي أشارت من خلالها إلى المكان الذي يسكنه أب الطفلة وهو في مكان ناءٍ وبعيد. يمكن لهذا المكان المُوحِش والوعر أن يكون قد أثر في شخصية الأب وطبع فيه التصرفات القاسية التي جعلته يطلّق الوالدة الحنونة التي تخاف على أطفالها وتسهر على تأمين مأكلهم ومشربهم ومأواهم. وتظهر عناصر البيئة الطبيعية أيضاً، في وصف سمّ الحية والثعابين والدبابير والزراقط، التي، وبحسب طريقة الحديث عنها في الرواية، كانت تشكّل عامل خوف للطفلة ولأخيها عندما كانا يصادفانها في طريق عودتهما إلى بيت أمهما هرباً من الإقامة في بيت أبيهما.

ج- عناصر علم الجيولوجيا
يُعنى علم الجيولوجيا (من اليونانية الأرض: Geo والحديث: Logos) بدراسة كوكب الأرض. ويقسّم هذا العلم تقليدياً إلى الجيولوجيا التاريخيّة والجيولوجيا الفيزيائيّة التي تدرس المواد المكوّنة للقشرة الأرضية والتي تساعد في فهم العمليات التي تؤثر في تشكيل سطح الأرض. وترتبطُ الجيولوجيا بالإنسان بشكل مباشر، لأنّ عدداً كبيراً من الكوارث الطبيعية التي تصيب الملايين من الناس على سطح الكرة الأرضية وتسبّب أضراراً ماديّة ضخمة، تكون من منشأ جيولوجيّ (Lutgens, 2015). على سبيل المثال، تسونامي الذي ضرب منطقة جنوب شرق آسيا سنة 2004، وذهب ضحيته أكثر من 250 ألف نسمة ونتجت عنه خسائر مادية تقدّر بعشرات المليارات من الدولارات.

وتتجلّى العناصر الجيولوجية في الرواية، عندما تحدثنا الكاتبة عن صخرة رمادية كبيرة ساهمت في إضفاء حالة من الاطمئنان على الطفلة، لأنها عرفت أنها وصلت إلى قريتها عندما مرّت بالقرب من هذه الصخرة. ومن المعروف جيولوجياً أن اللون الرمادي للصخور يشير إلى الصخور الجيرية بشكل عام. واستطعنا أيضاً معرفة أنواع أخرى من الصخور المنتشرة في هذه المنطقة، من خلال وصف ألوانها مثل صخور الغريه التي وصفتها الطفلة بأنها صخور متعددة الألوان (بنية وحمراء وغيرها). شكلت هذه الصخور دليلاً للطفلة أثناء سيرها على طريق العودة إلى قريتها إالى والدتها هرباً من بيت أبيها.

د- عناصر علم المياه
يُعرَّف علم المياه على أنه العلم الذي يدرس المياه السائلة من خلال توزعها الجغرافي وتبدّل حالتها بين صلبة وغازية، وخصائصها الفيزيائية والكيميائية وعلاقتها بالكائنات الحية، واستعمالها من قِبل البشر، والكوارث التي يمكن أن تحدثها (Touchart، 2010).
وتظهر عناصر علم المياه، عندما تحدثت حنان الشيخ عن أن عائلة الطفلة كانت تستخدم مياه نهر الليطاني للاستحمام. ويشير ذلك إلى أن مياه النهر في تلك الأيام، وبعكس حالته اليوم، كانت نظيفة. وفي الحديث عن الاستحمام بمياه النهر، إشارة إلى أن العائلة لم تكن تمتلك غرفة خاصة للاستحمام. وفي ذلك دلالة على حالة الفقر المادي الذي كانت تعيشه هذه العائلة.

4- الخاتمة
تناولنا في هذه الدراسة رواية «حكايتي شرح يطول» للكاتبة حنان الشيخ من وجهة نظر جغرافية واستطعنا استخراج عناصر عدّة ميادين وفروع للجغرافيا البشرية والجغرافيا الطبيعية، وتحدَّثنا عن دلالاتها العلميّة والنفسيّة لبعض الشخصيات الواردة في الرواية.

ويكمن عنصر الجدّة في هذه الدراسة في أننا استطعنا المزج بين تخصصين متباينين في التطبيق: الأول علمي وهو الجغرافيا والثاني أدبي وهو الرواية. وذلك في إطار ثورة الدراسات البينية التي تتفاعل وتنتشر في عالمنا اليوم. هذا المزج ضيّق هامش التباين (contrast) بين هذين التخصّصين، وجعلنا نفهم الرواية بشكل أوسع وأعمق وفتح لنا الباب واسعاً أمام إجراء دراسات بينية إبداعية أخرى. بالإضافة إلى ذلك، استطعنا تبيان الفرق في فهم «المكان» من وجهة نظر روائية أدبية ومن وجهة نظر جغرافية: فإذا كان المكان في الرواية يخدم خيال الراوي والمتلقي، فهو يخدم في العلوم الجغرافية النشاط البشري المدروس باعتباره عنصراً ماديّاً أساسيّاً لا تكتمل الدراسة الجغرافية من دونه.

لم يكن من السهل أبداً استخراج عناصر علمية من عمل أدبيّ بحت، خاصّة أنّ هذه العناصر العلمية الجغرافية وردت في الرواية بصورة تلقائية وغير مقصودة، لكنها ساعدتنا في فهم بعض الجوانب النفسيّة العميقة لبعض الشخصيّات. واكتفينا في هذه الرواية أيضاً بالحديث عن بعض العناصر الجغرافية التي ظهرت في بعض أقسامها، وإنّ أيّ دراسة شاملة لكلّ هذه العناصر، إنما تنتج كتباً ومجلدات كبيرة، وهذا ما يمكن أن يشكّل مشروع أعمال بحثية بينية أخرى تدخل فيها تخصّصات أخرى مثل علم الاجتماع وعلم النفس وغيرهما.

تناولتْ هذه الرواية في جزء مهمّ منها طفولة والدة الكاتبة في الريف، وهذا ما جعلها غنية بالعناصر الجغرافية البيئية والمناخية وغيرها. وهنا يمكننا طرح هذه الأسئلة: هل هذا النوع من الدراسات البينية يمكن تطبيقه على كلّ أنواع الروايات؟ أم أنّه محدود ويقتصر فقط على الروايات التي تتضمن مواضيع جغرافيّة؟ وهل يمكن لذلك أن يشكّل الحدّ أو الإطار الذي لا يُسمح للدراسات البينية أن تتجاوزه؟ وبالتالي يكون ذلك الموضوع واحداً من نقاط ضعف الدراسات البينية؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلّب أبحاثاً معمقة في مروحة واسعة من الروايات. ولكن حتى ذلك الحين، يمكننا القول إن رواية «حكايتي شرح يطول» للكاتبة حنان الشيخ قد نجحت وبشكل كبير في خدمة أهداف دراستنا، ولو أن الحديث المفصّل عنها يحتاج بحدّ ذاته إلى شرح يطول بطول معاناة الوالدة: الشخصية الرئيسية في الرواية.




5- المراجع
- الزوكة محمد (2000). الجغرافية الاقتصادية. دار المعرفة الجامعية، 550 صفحة، صفحة 17 و20.
- جورج بيير (2002). معجم المصطلحات الجغرافية. ترجمة د. حمد الطفيلي ومراجعة هيثم اللمع. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1007 صفحات، صفحة 254.
- حجازي سمير (2005). النقد العربي وأوهام روّاد الحداثة. ط1، مؤسّسة الطيبة للنشر والتوزيع، القاهرة، 320 صفحة، ص.297.
- حمادة سديف (2008). وظيفة المكان وأهميته في الرواية المعاصرة. الانتقاد، العدد 1286.
- مرتاض عبد الملك (1998). في نظرية لرواية: بحث في تقنيات السرد. عالم المعرفة، 289 صفحة، صفحة 22.
- وهيبة عبد الفتاح محمد (1980). في جغرافية العمران. دار النهضة العربية للطباعة والنشر، 387 صفحة، صفحة 9-10-11-12.
- Aguedo Edward, Bert James E. (2015). Understanding Weather and Climate. Pearson Education Limited, seventh edition, 596 pages, page 33.
- Chevandier Christian (2014). Travailler ensemble ? Des disciplines aux sciences sociales, Mont-Saint-Aignan, Presses universitaires de Rouen et du Havre.
- Demangeot J. (2000). Les milieux naturels du globe. Armand Colin 10e edition, 364 pages, Pages 1 – 2 – 3 – 4.
- Lamarre Denis, Pagney Pierre (1999). Climats et sociétés. Armand Colin, Paris, 272 pages, page 8.
- Lutgens Frederik, Tarbuek Edward J., Illustreted by Tasa Dennis (2015). Essentials of Geology. Pearson Education Limited, twelfs edition, 592 pages, pages 22 – 23.
- Olivier David (2015). La population mondiale : répartition, dynamique et mobilité. Armand Colan, 3è édition, 221 pages, page 13.
- Routhier Anik (2009). Multidisciplinarité, interdisciplinarité, pluridisciplinarité, quand on y perd son latin. carrefoureducation.qc.ca. http://carrefoureducation.qc.ca/guides_thematiques /multidisciplinarit%C3%A9_interdisciplinarit%C3%A9_pluridisciplinarit%C3%A9_quand_on_y_perd_son_l. Consulter le 24/01/2018.
- Touchart Laurent (2010). Hydroloie: mers,fleuves et lacs.  Armand Colin, 190 pages, page 11.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net