Tahawolat
المقدّمة.

"النّحو إعرابُ الكلامِ العربيّ"    "وقالَ الأزهريّ: الإعرابُ والتّعريب معناهما واحدٌ، وهو الإبانة... وإنّما سُمِّيَ الإعرابُ إعرابًا لتبيينِه وإيضاحِه... ويُقالُ: أَعرِبْ عمّا في ضميرِكَ أي أَبِنْ. ومن هذا يُقالُ للرّجلِ الذي أَفصَحَ بالكلامِ: أَعرَبَ..."  
وانطلاقًا من هذا التّحديد للنّحو في "لسان العرب" نستشفُّ علاقةً للنّحوِ بالإبانةِ عن المعنى، وهو ما سيقومُ عليه البحث، لاكتشافِ تأثيرِ البنيةِ أي تركيب الجملة في المعنى، تحديدًا في النّصّ الشّعريِّ الموزون، حيث يَفرضُ الوزنُ، أحيانًا، شروطَه على التّركيب.
 
وإذا كان هذا هو المعنى اللّغويّ للإعراب، فمعناه الاصطلاحيُّ القديمُ أنّه "أثرٌ ظاهرٌ أو مقدَّرٌ يجلبُه العاملُ في آخرِ الكلمة"  ليكونَ الإعرابُ، هكذا، مخالِفًا للبناء.
 
إلاّ أنّ هذا المعنى الاصطلاحيَّ قد توسَّع، ليشملَ الإعرابُ الإعرابَ، بمعناه الاصطلاحيِّ المذكورِ توًّا، والبناءَ. "فالإعراب، وهو ما يُعرَفُ اليومَ بالنّحو، علمٌ بأصولٍ تُعرَفُ بها أحوالُ الكلماتِ العربيّةِ من حيثُ الإعرابُ والبناء، أي من حيثُ ما يَعرضُ لها في حال تركيبِها. فبهِ نَعرفُ ما يجبُ عليه أن يكونَ آخرُ الكلمةِ من رفعٍ، أو نصبٍ، أو جرٍّ أو جزم، أو لزومِ حالةٍ واحدةٍ بعد انتظامِها في الجملة. ومعرفتُه ضروريّةٌ لكلِّ مَن يزاولُ الكتابةَ والخطابةَ ومدارسةَ الآداب..." 
 
وإذا كانت معرفةُ النّحوِ، الإعراب، "ضروريّةً" في دراسةِ الآداب، فذلكَ أنّ كلَّ بحثٍ في الآداب يجبُ أن ينطلقَ من الأساسِ النّحويّ-التّركيبيّ، حيث إنّ الموقعَ التّركيبيَّ هو الذي يحدِّدُ الموقعَ النّحويَّ لكلٍّ من الكلماتِ في النّصّ.

 
وأُضيفُ، استطرادًا وقياسًا، أنّ كلَّ بحثٍ لغويٍّ يجبُ أن يكونَ تطبيقيًّا.

إنّ "التّركيب هو الوسيلةُ المباشرة التي أعدَّتها اللّغةُ لنشوءِ المعنى الدّلاليّ للجملة" ، "فمعنى الجملةِ يتحقّقُ بترتيب الكلماتِ أي بتنظيمِها التّركيبيّ، وبالتّأثير الذي يُحْدِثُه بعضُها في بعض" .

والتّأثيرُ المتبادلُ بين الكلماتِ في الجملة ليس تأثيرًا نحويًّا، إعرابيًّا، فحسب، لكنّه تأثيرٌ دلاليٌّ أيضًا، وهو ما يُعرَفُ، اصطلاحًا، بأنّه السّياقُ الدّاخليُّ للجملةِ والنّصّ، حيث إنّ المعنى لا يمكنُ فصلُه عن السّياق.

 
فهل يستتبعُ كلُّ تأثيرٍ نحويٍّ تأثيرًا دلاليًّا؟

لقد فرّقَ بعضُ النّحويّين بين الدّلالاتِ النّحويّةِ والدّلالاتِ الأخرى، حيث إنّنا عندما نقولُ مثلاً: ضُرِبَ زيدٌ، نرفعُه، وإنْ كان مفعولاً به. وعندما نقولُ: إنّ زيدًا قامَ، ننصبُه، وإنْ كان فاعلاً.
 
والرّدُّ على هذه النّظريّةِ هو كالتّالي.

إنّ النّحوَ واسعٌ، يشملُ المواقعَ الإعرابيّةَ كلَّها. والقارئ، عندما يتناولُ نصًّا، لا يحصرُ النّظرَ في الفاعليّةِ والمفعوليّة فقط، حيث الرّفعُ للفاعل والنّصبُ للمفعول، لكنّه ينظرُ أيضًا إلى محلِّ نائب الفاعل، وهو يعلمُ أنّ أصلَه مفعولٌ به، وينظرُ إلى اسمِ "إنّ"، وهو يعلمُ أنّ معناه يمكنُ أن يكونَ فاعلاً... فالمعرفةُ بقواعدِ اللّغةِ وعبقريّتِها ينبغي أن تكونَ معرفةً شموليّة.

وإذا قلَّلَ الدّكتور تمّام حسّان من أهمّيّةِ النّحوِ في شرحِ المعنى، قائلاً: "العلامة الإعرابيّة لا تعدو أن تكونَ قرينةً من قرائنَ متعدّدةٍ تشيرُ إلى معنى الجملة، فهي بمفردِها لا تُعِينُ على بيانِ المعنى المنشود"  ، فقد اعتبرَ الدّكتور مصطفى حميدة أنّ "المعنى قد يحدِّدُ، حينًا، علامةَ الإعراب، كما أنّ الإعرابَ، حينًا، قد يحدِّدُ المعنى" . وانحازَ حسن عبّاس إلى النّحوِ، وننحازُ معه، قائلاً: "النّحوُ دعامةُ العلومِ العربيّة، وقانونُها الأعلى... ولن تجدَ علمًا يستقلُّ بنفسِه عن النّحو، أو يستغني عن معونتِه، أو يسيرُ بغيرِ نورِه وهُداه" .
 
وإذا عرّفَ إبن جنّي اللّغةَ بأنّها "أصواتٌ يعبِّرُ بها كلُّ قومٍ عن أغراضِهم"  ، فمعناه أنّ التّعبيرَ اللّغويَّ عن الأغراضِ لا يكونُ إلاّ بالأصوات. والأصواتُ هي مادّةُ الكلمات. فإذا تغيّرَت الكلماتُ تغيّرَ القصد. وإذا تغيّرَ ترتيبُها وتأثيرُها المتبادَل تغيّرَ القصدُ أيضًا. لذلك فليس في وسعِنا أن نعزلَ المعنى عن التّركيب، ولا أن نتجاهلَ تأثيرَ السّياق في تشكيل المعنى، حيث إنّ المعنى لا يتشكّلُ إلاّ في سياق.
 
وقد قالَ عبدُ القاهر الجرجاني إنّ العلامةَ ليسَت هي الإعراب، بل المعنى  .

لقد توسّعَ مفهومُ النّحوِ تباعًا، فصارَ يضمُّ الإعرابَ، والبناء، والصَّرف، والتّركيب، وكذلك النّاحيةَ الوظيفيّةَ لكلِّ معطًى لغويّ. "وإنّ وجهةَ نظرٍ بنيويّةً لا بدَّ أن تفترضَ وجهةَ نظرٍ وظيفيّة"  . لذلك قالَ الدّكتور محمّد خطّابي: "النّحو يظلُّ ناقصًا ما لم يهتمَّ بالمعنى"  . ومعلومٌ أنّ المعنى الوظيفيَّ لا يُقرَأُ إلاّ في سياقِه.
 
فهل يدفعُنا هذا الاتّساعُ في النّظرةِ إلى النّحوِ إلى تبنّي الفرضيّةِ القائلة بأنّ النّحوَ شاملٌ مجالاتِ البحثِ اللّغويِّ كلَّها؟
يَعتبرُ بعضُ الباحثين المعاصرين أنّ النّصَّ وحدةٌ لا تُجْزَأُ، وبناءً عليه فلا يوجدُ حدٌّ يفصلُ بين الشّكل والمضمون. "فكلّما تعمّقْنا في تفاصيلَ أكثر في دراسة القواعد، يصبحُ التّوافقُ بين القواعدِ أقوى فأقوى، حتّى نصلَ إلى مرحلةٍ يكونُ فيها صعبًا، إنْ لم يكنْ مستحيلاً، أن نقولَ ما إذا كانت التّصانيفُ شكليّةً أم دلاليّة"  .

وربّما يكونُ هذا البحثُ خطوةً في هذا الاتّجاه.

ونجدُ، في الألسنيّةِ التّوليديّةِ والتّحويليّة، ترجمةً لِأهمّيّةِ التّركيب في تشكيل المعنى، فيقول الدّكتور ميشال زكريّا "إنّ المكوّنَ التّركيبيَّ هو المكوّنُ التّوليديُّ الوحيد، أي المكوّن الذي يتناولُ البنية العميقة للجُمَل..."  حيث "يحتلُّ موقعُ الكلمةِ أهمّيّةً بالغةً في القواعدِ التّوليديّة، فالكلمةُ تأخذُ قيمتَها النّحويّةَ من حيث موقعُها في البنيةِ العميقة" . وإنّ بلوغَ ما تسمّيه الألسنيّةُ "البنيةَ العميقةَ" للجملة إنّما يتحقّقُ انطلاقًا من "التّحويل"، ومعناه احتمالاتُ تغيُّرِ التّركيب.

لذلك فقد أطبّقُ قواعدَ "التّحويل" على أبياتٍ للمتنبّي والأخطل الصّغير، في هذا البحث، للوقوفِ على عمق المعنى من خلال خصائص التّركيب، وهو القاعدةُ النّحويّةُ للّغة.

"يُعتمَدُ مفهومُ التّحويل عندما تفيدُ أكثرُ من جملةٍ واحدةٍ المعنى ذاتَه، بالرّغم من تباينِ تراكيبها، فنقولُ إنّ الجملَ هذه متحوّلةٌ من جملةٍ واحدةٍ موجودةٍ في مستوى البنية العميقة" .

يقتضي مصطلحُ "التّحويل" تحويلَ جملةٍ معيّنةٍ إلى جملةٍ أخرى، باعتمادِ مستوًى أعمقَ من المستوى الظّاهرِ في الجملةِ الأولى. ولا يتمُّ ذلك إلاّ بتغيّرِ العلاقاتِ النّحويّةِ والتّركيب.

ويذكرُ الباحثون بعضَ ما يسمّونه "أدوات الاتّساق" وهي أساساتٌ في العلاقات النّحويّة، أبرزُها "الإحالة [ومن عناصرِها الضّمائر، وأسماءُ الإشارة، وأدواتُ المقارنة]... والاستبدال... والحذف... والوصل [ومنه الوصلُ الإضافيّ، أو الوصلُ العكسيّ أي التّعارض، أو السّببيّ... أو الزّمنيّ]... والاتّساق المعجميّ..." 

وإذا كانَ "الاستبدال" و"الاتّساقُ المعجميّ" يخصّان المستوى المعجميّ، فإنّ العناصرَ الأخرى المذكورةَ كلَّها نحويّة.

 

منهجُ البحث.

"لقد انتهى فقهاءُ اللّغةِ اليوم إلى أنّ وظيفةَ اللّغويّ هي وصفُ الحقائقِ، لا فرضُ القواعد"  . لذلك فإنّ كلَّ منهجٍ في البحث اللّغويّ يجبُ أن يقومَ على الوصفِ، فالتّحليل. وفي هذا البحث أعتمدُ "المنهج الوصفيّ التّقريريّ... وهو ينطلقُ من الملاحظات إلى الفرَضيّات على النّحو التّالي:

-ملاحظة الأحداث والمعطيات اللّغويّة.
-صياغة بعض التّعليمات للأحداثِ المتشابهة.
-صياغة افتراضات تفسِّرُ هذه الأحداث...
-التّأكّد من ملاءمة هذه الافتراضاتِ الواقعَ اللّغويّ.
-بناء نظريّة قائمة على هذه الافتراضات....
أمّا الخصائص التي اتّسمَ بها، فأهمُّها ما يلي:

... 3 – شمول المستويات اللّغويّة (الصّوتيّة، والصّرفيّة، والتّركيبيّة، والدّلاليّة)، واستنفاد القضايا اللّغويّة بالبحث.
... 5 – تناوُل اللّغة على أنّها موضوعٌ من موضوعات الوصف كالتّشريح، لا مجموعة من القواعد كالقانون..."   
إلاّ أنّني، في هذا البحث، أخالفُ النّقطةَ السّادسةَ من خصائصِ هذا المنهجِ المحدّدةِ وفقَ واضعِها، وهي "اختيارُ مرحلةٍ بعينها لوصفها وصفًا استقرائيًّا"  ، فمن خصائصِ البحثِ اللّغويِّ أيضًا أن يتابعَ تطوّرَ الاستعمالاتِ اللّغويّةِ عبر الزّمن.

ولذلك فقد اخترْتُ، كمدوَّنةٍ للبحث، ديوانَ المتنبّي المكتوب في القرن العاشر، وديوانَ الأخطل الصّغير المكتوب في القرن العشرين، لأنّ عشرةَ قرونٍ من الزّمن قد تشكّلُ مصدرَ ثراءٍ للبحثِ اللّغويّ، في وقوفِه على تطوّرِ التّركيب، وتطوّرِ الاستعمال. "فلئنْ كانت اللّغةُ العربيّة هي اللّغة نفسها التي تناولَتها كتبُ اللّغويّين العرب القدامى، إلاّ أنّها تطوّرت في مسيرتها الحيّة على امتداد مئات السّنين" .

إنّني، في هذا البحث، أعتمدُ المنهجَ الوصفيَّ التّقريريّ، وقواعدَ التّحويل الألسنيّة، تطبيقًا على أبياتٍ للمتنبّي والأخطل الصّغير، وصولاً إلى كشف اتّجاهات الصّورة الشّعريّة انطلاقًا من المواقف النّحويّة في سياق الأبيات، على أن يَمنحَ الاختلافُ الزّمنيُّ بين الشّاعرَين الذي يقاربُ ألفَ عامٍ اتّساعًا لنطاقِ البحثِ، وتاليًا صدقيّةً علميّةً وواقعيّةً أكبر.


الفصلُ الأوّل: البيتُ البادئُ باسمِ فعل.
"أَوْهِ لمَن لا أرى محاسنَها
وأصلُ واهًا وأَوْهِ مَرآها"  [من المنسرح]
"أَوْهِ من فلانٍ إذا اشتدَّ عليك فَقدُه... وقولُهم عند الشّكايةِ: أَوْهِ من كذا، ساكنة الواو، إنّما هو توجُّعٌ، وربّما قلَبوا الواوَ ألِفًا فقالوا: آهِ من كذا..."  
"أَوْهِ: اسم فعل مضارع بمعنى أتوجّعُ..."  
"واهًا": "واهَ: تلهُّفٌ وتلوُّذٌ، وقيلَ: استطابة، وينوَّنُ فيقال: واهًا لفلان" .
"واهًا: اسم فعل مضارع بمعنى أَعجَبُ مبنيٌّ على الفتح..." 
يبدأُ الشّاعرُ بيتَه باسم الفعل المضارع الذي معناه الشّكايةُ والتّوجُّع، ثمّ يبيّنُ سببَ شكايتِه وتوجّعِه وهو "مَن لا يرى محاسنَها".
يتّخذُ حرفُ اللاّم الواقع بعد "أَوْهِ" دلالةَ السّببيّة، وظيفيًّا.
فإذا كانَت تلك الحسناءُ غائبةً عمدًا عن الشّاعر، صحَّ قولُه إنّها هي سببُ توجُّعِهِ، بذاتِها.
أمّا إذا كان غيابُها قسرًا، فإنّ عدمَ رؤيةِ محاسنِها هو السّبب.
وربّما يرِدُ في الشّطرِ الثّاني ما يحدّدُ القصد.
في الشّطر الثّاني يقولُ إنّ رؤيةَ تلك الحسناءِ هي أصلُ التّلهُّفِ والتّعجّب "واهًا"، والشّكايةِ والتّوجّع "أَوْهِ". ذلك أنّ رؤيتَها هي سببُ الفرحِ والحزنِ، معًا.
فإنّ معنى الكلمة "أصل"، في بدايةِ الشّطر الثّاني، هو "سبب". 
ويستخدمُ الشّاعرُ الحذفَ في الشّطر الثّاني، حيث يقصد أنّ "مرآها" هو أصلُ قولِكَ "واهًا" وقولِكَ "أَوْهِ". إذًا لقد حَذَفَ فعلَ القول وهو مقدَّرٌ في السّياق.
وفي المعادلةِ الحسابيّةِ بين الشّطرين، نرى أنّ في غياب الحسناءِ قولَ "أَوْهِ" شكايةً وتوجّعًا. أمّا في حضورِها فـ"واهًا" وَ"أَوْهِ" تلهّفًا وتعجّبًا، وشكايةً وتوجّعًا.
إنّ الواو العاطفةَ "أَوْهِ" على "واهًا" في الشّطر الثّاني، تجمعُهما معًا، ولا تقدِّمُ أحدَهما على الآخر. فالواو "العاطفة معناها مُطْلقُ الجمع... وقولُ السِّيرافي إنّ النّحويّين واللّغويّين أجمَعوا على أنّها لا تفيدُ التّرتيب" . 
وعندما يقولُ الشّاعرُ "أصل" قاصدًا السّبب، فذلك أنّ المذكورَ هو السّببُ الأصليّ أي السّبب الأوّل.
وإذا كان السّببُ الأوّلُ للتّلهّفِ والتّعجّب، والشّكاية والتّوجّع، هو "مرآها"، فمعناه أنّ "مرآها" أشدُّ وجعًا من غيابها. فما سيكونُ معنى "الواو" الفاصلة بين الشّطرين؟ 
وما هو سببُ التّوجّع في الشّطر الأوّل؟
 الواو الفاصلة بين الشّطرين هي، في إعرابها، حرفُ استئناف، وذلك أنّ عطفَ جملةٍ اسميّةٍ على جملةٍ فعليّةٍ لا يجوز.
والواو الاستئنافيّةُ، في إعرابها، قد تختلفُ معانيها وفقَ سياق النّصّ؛ فهل هي، في هذا السّياق، تضيفُ المعنى اللاّحق إلى المعنى السّابق؟ أم تعارِضُ المعنى السّابقَ بالمعنى اللاّحق؟
"فالواو قد تكونُ رابطًا للتّعارض، إضافةً إلى معانيها الأخرى العديدة، وهي في معناها التّعارضيّ تكونُ حرفَ عطفٍ، أو حرفَ استئناف" .
إنّ الوقوفَ على معنى الواو السّياقيّ بين الشّطرين، هو الذي سيحدِّدُ معنى الشّطر الأوّل.
فإذا كانَ معنى الواو هو الاستدراك والإضافة، أي إضافة معنى إلى معنى، فالشّاعر قد توجّعَ في الشّطر الأوّل من المرأة التي لا يرى محاسنَها، ثمّ أضافَ أنّ رؤيتَها أصلُ دهشتِه وحزنِه، معًا.
 أمّا إذا كان معنى هذه الواو هو التّعارض، فيكونُ معنى الشّطر الأوّل أنّ الغيابَ هو سببُ توجّع الشّاعر. ويعارضُ توجّعَه لغيابها أنّ رؤيتَها هي السّببُ الأوّلُ للتّوجّع. فكيفَ يتوجّعُ لغيابها، وفي حضورِها وجعٌ أكبر؟ 
هكذا يتعارضُ الحبُّ مع المنطق.
وأنا أميلُ إلى احتمالِ التّعارض، لأنّه قد أثبتَ أنّ منطقَ العاطفةِ أعلى، لدى الشّاعرِ، من منطق العقل.

"إيهِ لبنانُ، والجداولُ تَجري
فيكَ بَردًا فتُنعِشُ الظّمآنا
إيهِ لبنانُ، والنّسيمُ، عليلاً
يتَهادى فيَعطِفُ الأغصانا"  [من الخفيف]
"إيهِ: كلمةُ استزادةٍ واستنطاقٍ، وهي مبنيّةٌ على الكسرِ، وقد تنوَّنُ. تقولُ للرّجلِ الذي استزدْتَه من حديثٍ أو عملٍ: إيهِ، بكسر الهاء" .
"إيهِ": اسمُ فعلِ أمرٍ بمعنى حَدِّثْ .
فإذا جاءَ في "شرح المفصَّل" أنّ معنى "إيهِ" حدِّثْ، فإنّ "لسان العرب" قد جعلَ لها معنيين من الاستزادة هما الحديثُ، أو العمل.
يتوجّهُ الشّاعرُ باسمِ الفعل "إيهِ" إلى المنادى "لبنان" ثمّ يستخدمُ واو الحال. "واو الحال الدّاخلة على الجملةِ الاسميّة... ويقدِّرُها سيبويه والأقدمون بـ "إذْ"، ولا يريدون أنّها بمعناها؛ إذْ لا يرادِفُ الحرفُ الاسمَ، بل إنّها وما بعدها قَيدٌ للفعل السّابق، كما أنّ "إذْ" كذلك" .
 إلاّ أنّ هذا الكلامَ لا يَمنعُ، في رأيي، أن تتّخذَ واو الحال أحدَ معاني "إذْ" حين يفرضُ السّياقُ هذا المعنى. وإنّما قولُ ابن هشامٍ يعني أنّ واو الحال لا تطابقُ "إذْ" في كلِّ معانيها بالضّرورة.
لقد قال ابن هشام إنّ واو الحال تشكِّلُ "قَيدًا للفعلِ السّابق"، ويقصدُ أنّها تحصرُ صلاحيّةَ الفعل السّابق بهذه الحال المحدَّدة.
وفي البيت الأوّل المذكور أعلاه للأخطل الصّغير، يستزيدُ الشّاعرُ وطنَه لبنانَ قائلاً: "إيهِ"، والجداولُ تَجري فيكَ بَردًا فتُنعِشُ الظّمآنا". 
إذًا، ووفقَ المعنى النّحويّ لواو الحال، يقيِّدُ الشّاعرُ طلبَه "إيهِ" من وطنِه بحالِ جريان الجداولِ في لبنانَ بردًا، وإنعاشِها الظّمآنَ.
وفي البيت الثّاني يقيِّدُ طلبَه "إيهِ" بحالِ تهادي النّسيمِ العليلِ في لبنانَ وعَطْفِه الأغصان.
"التّهادي: مشيُ النّساء والإبل الثِّقال، وهو مشيٌ في تمايلٍ وسكون" .
فإذا كانَ النّسيمُ، في البيت الثّاني، ساكنًا بلا صوت، فمعنى الاستزادةِ بـ "إيهِ" ليس حدِّثْ، ولكنّ معناه زِدْ من تهادي النّسيمِ العاطفِ الأغصانَ.
أمّا في البيتِ الأوّل فقد قيَّدَت واو الحالِ اسمَ الفعل "إيهِ" بجرَيان الجداولِ ولهُ خريرٌ. وهكذا فَتحَتِ الاستزادةَ على احتمالَي العملِ والحديث: زدْ يا لبنانُ من جرَيانِ الجداولِ وإنعاشِ الظّمآن، أو زدْ من حديثِ الخرير. هكذا يصيرُ حديثُ لبنانَ هو خرير الجداول. 
فهل تنبَّهَ الشّاعرُ إلى أنّه يستزيدُ مرّةً من فعلٍ ومرّةً من حديث؟


الفصلُ الثّاني: البيتُ البادئُ بالحال.

"بعزمٍ يسيرُ الجسمُ في السَّرجِ راكبًا
بهِ، ويسيرُ القلبُ في الجسم ماشيا"  [من الطّويل]
"السَّرجُ: رحلُ الدّابّة، معروف، والجمعُ سُروج. وأسرجَها إسراجًا: وضعَ عليها السَّرج" .
الباء في أوّلِ البيتِ ليست زائدة. وذلك لأنّها أحدثَتْ معنًى، كما في الآية: ﴿تُنبِتُ بالدّهنِ﴾  "وتأويلُه: تُنبتُ ما تُنبتُه، والدّهنُ فيها"  ، حيث يكونُ معنى الباءِ هو المصاحَبة، وتكونُ الجملةُ الاسميّةُ في موضعِ الحال.
وإذْ بدأَ المتنبّي هذا البيتَ قائلاً: "بعزمٍ"، فقد بدأَ بجملةِ الحالِ وتقديرُها "وهو عازمٌ"، وهي تعني أنّه مصاحِبٌ العزم. والضّميرُ عائدٌ على "الجسم" وهو صاحبُ الحال.
ويجوزُ، في النّحو، أن تتقدّمَ الحالُ على صاحبها.
وإذا كان "الجسمُ يسيرُ في السّرجِ" فربّما ظنَّ القارئُ أنّ "السّرجَ" مجازيٌّ وهو سَرْجُ الحياة، إلاّ أنّ هذا المعنى المحتملَ يبدِّدُهُ سياقُ القصيدةِ الذي يؤكِّدُ أنّ "السَّرجَ" حقيقيٌّ، والمقصود به هو سَرجُ الخيلِ الذي يَحملُ الفارسَ في المعركة.   
إذًا، تؤكِّدُ الحالُ المتقدّمةُ على تقديرِ الجملةِ الاسميّة أنّ جسمَ الفارسِ يسيرُ، وهو عازمٌ، "في السّرجِ راكبًا". فكيف يسيرُ جسمٌ راكبًا في السَّرج؟
"راكبًا": حالٌ ثانيةٌ؛ ويجوزُ في النّحوِ تعدُّدُ الحال.
إذًا لقد وَصَفَت جسمَ الفارسِ حالان: أنّه عازمٌ، وأنّه راكبٌ. وهُما متعلّقتان بالفعل: يسيرُ. 
فكيفَ يمكنُ للجسمِ أن يسيرَ راكبًا "في السَّرج"؟ وهل يخطئُ شاعرٌ كالمتنبّي باستخدامِ حرف الجرّ؟
"في: حرف جرّ، له عشرة معانٍ: ... الرّابع: الاستعلاء، نحو: ﴿ولَأَصلبَنَّكم في جذوعِ النَّخلِ﴾  " . 
واضحٌ أنّ حرفَ الجرّ "في" يحملُ، في هذه الآيةِ، معنى الاستعلاء، وكأنّ التّقديرَ: على جذوعِ النّخلِ.
وإذًا فلا ريبَ في قولِ المتنبّي: "يسيرُ الجسمُ في السَّرجِ" ويقصدُ: على السَّرجِ. 
فكيفَ "يسيرُ" الجسمُ على السَّرجِ؟ المعنى أنّ السَّرجَ يسيرُ بالجسمِ الموجودِ عليه؛ وإنّما الجملةُ، مثلما وردَت في البيتِ، هي من المجاز. وقد يفسِّرُهُ ما سيَرِدُ في الشّطرِ الثّاني؛ وسنأتي عليه.
وبعدَ ختامِ الشّطرِ الأوّلِ الذي جاءَ فيه:
"بعزمٍ يسيرُ الجسمُ في السّرجِ راكبًا" – والمعنى: (على) السَّرج – يتابعُ الشّاعرُ هذه الجملةَ في الشّطرِ الثّاني قائلاً: "بهِ". والهاء ضميرٌ عائدٌ على السَّرج.
فكيف يسيرُ الجسمُ على السَّرجِ راكبًا "به"؟
وما هو معنى الباء في هذا السّياق؟
"الباء المفردة حرفُ جرٍّ لأربعةَ عشَر معنًى:
أوّلُها: الإلصاق، قيلَ: وهو معنًى لا يفارقُها، فلذا اقتصرَ عليه سيبويه، ثمّ الإلصاقُ حقيقيٌّ... ومجازيٌّ نحو: "مررْتُ بزيدٍ" أي ألصقْتُ مروري بمكانٍ يَقرُبُ من زيد. وعن الأخفش أنّ المعنى: مررْتُ على زيدٍ، بدليل ﴿وإنّكم لَتمرّون عليهم مُصْبحين﴾  ... فإذا استوى التّقديران في المجازيّةِ، فالأكثرُ استعمالاً أَوْلى بالتّخريجِ عليه، كَـ "مررْتُ بزيدٍ" ومررْتُ عليه" .
فهل يمكنُ أن يكونَ المعنى الذي أرادَه المتنبّي:
بعزمٍ يسيرُ الجسمُ على السَّرجِ راكبًا عليه؟
وهل كانَ المتنبّي شويعرًا ليقحمَ جارًّا ومجرورًا في بدايةِ الشّطرِ الثّاني غيرَ لازمَين؟
لا. بل المعنى:
بعزمٍ يسيرُ الجسمُ راكبًا على السَّرجِ وملتصقًا به.
هكذا فإنّ المعنى النّحويَّ للباء، والذي اقتصرَ عليه سيبويه، هو الذي حدَّدَ دلالتَها في البيت، بما لا يرقى إليه الشّكّ.
ويتابعُ الشّاعرُ، في الشّطر الثّاني، مستخدمًا واو العطف بمعنى الإضافةِ والجمع، ليَجمعَ سَيرَ القلبِ في الجسمِ ماشيًا، معَ سيرِ الجسمِ على السَّرجِ راكبًا وملتصقًا به، أي بالسَّرج. والجمعُ هنا جمعٌ لفعلين متزامنين.
أمّا مشيُ القلب في الجسمِ فدليلٌ على سرعةِ الخيلِ حتّى كأنّ قلبَ الفارسِ قد تحرَّكَ من مكانِه.
وهذا يؤكّدُ تفسيرَنا للجارِّ والمجرور "بهِ" على معنى التصاقِ الفارس بسَرج الخيل، بسبب سرعةِ عَدْوِها.
وأمّا الحالُ في أوّلِ البيت "بعزمٍ" التي تصفُ جسمَ الفارس، والحالُ في آخرهِ "ماشيا" التي تصفُ قلبَ الفارس، فهما متعارضتان، وتُولّدان التّعارضَ بين جسمِ الفارس وقلبِه.
فإذا كانَ القلبُ قد تحرّكَ من مكانِه، فإنّ الجسمَ قد ظلَّ عازمًا، وملتصقًا بالخيل.
ولئنْ كرَّرَ الشّاعرُ الفعلَ "يسيرُ" مسندًا إيّاه إلى الجسم والقلب معًا، فإنّ لكلٍّ منهما معنًى مختلفًا، بل متعارضًا، اكتسبَه من الحال.

"مَعبدًا قامت على دين الهوى
ذاك دينُ الحقّ بل دينُ الأبَدْ"  [من الرّمَل]
والضّميرُ الفاعلُ في "قامَت" عائدٌ على سابقٍ هو "أُوَيقاتُ الصِّبا". 
"معبدًا": حالٌ تجيبُ عن كيفَ. والتّأويلُ: قامَت شبيهةً بمعبد.
"اعلمْ أنّ الحالَ وصفُ هيئةِ الفاعل أو المفعول" . وعلى ذلك فإنّ "معبدًا" حالٌ جامدةٌ مؤوّلةٌ بمشتقٍّ هو التّالي: "شبيهةً بمعبدٍ" إذْ تبيِّنُ هيئةَ "أُويقاتِ الصّبا" التي قامَت كمعبدٍ، بما فيه من دلالاتِ العبادةِ والتّقديسِ لأيّام الصِّبا التي مضَت.
و"الأصلُ في الحال أن تتأخّرَ عن عاملِها. وقد تتقدّمُ عليه جوازًا بشرطِ أن يكونَ فعلاً متصرّفًا" . وإنّ عاملَ الحالِ، في هذا البيت، هو الفعلُ المتصرِّفُ "قامَت". ومعناه ارتفعَت. وعلى هذا فقد أمكنَ تقديمُها.
ومن الواضح أنّ الغايةَ الدّلاليّةَ من تقديم الحالِ هي إبرازُها، وإظهارُ حماسةِ الشّاعر في "عبادةِ" أيّام الصِّبا. وإذا قالَ عنها "أُويقاتٍ" فذلك أنّها مرّت سريعة.
وإذْ تحوّلت أيّامُ الصّبا معبدًا، بوساطةِ الحال المقدَّمة، فذلك معبدٌ قامَ "على دين الهوى". 
إنّ للحالِ تابعًا وردَ بعد العامل-الفعل- يبيِّنُ الدّينَ المتّبعَ في معبد الصّبا، وهو دينُ الهوى.
ويستأنفُ الشّاعرُ كلامَه، في الشّطر الثّاني، بلا أداة استئناف، قائلاً:
"ذاك دينُ الحقّ بل دينُ الأبَدْ"
مستخدمًا اسمَ الإشارةِ الذي يحيلُ إلى "دين الهوى"، ليخبرَ عنه بأنّه "دينُ الحقِّ بل دينُ الأبدْ". 
نتوقّفُ عند معنى "بلْ" في هذا الشّطر الثّاني، لأنّ معناها النّحويَّ السّياقيّ هو الذي سيحدِّدُ معنى الجملة.
"بلْ": حرف عطف، لأنّها لم تقعْ بين جملتين.
لفظةُ "دين" الثّانية، في الشّطر الثّاني، هي اسمٌ معطوفٌ على الأولى.
وإنّ معنى العطفِ، دلاليًّا، هو الجمعُ في الحُكْم.
لقد أجمعَ النّحويّون على أنّ "بلْ" بعد إثباتٍ تفيدُ معنى الإضراب، حيث تُضرِبُ بما بعدها عمّا قبلها فتجعله كالمسكوتِ عنه. غير أنّ الإضرابَ ليس دقيقًا، في رأيي. ففي هذا الشّطر مثلاً، لم يُرِدِ الأخطل الصّغير أن يُضربَ عن قوله إنّ دين الهوى هو دينُ الحقّ، لكنّه أرادَ أنّ دين الهوى هو دينُ الحقِّ، وأكثر، فالأبدُ أكثرُ من الحقّ، ويتضمّنُه.
هكذا يؤكّدُ الشّاعرُ، بوساطةِ الحال، أنّ أيّامَ الصّبا معبدٌ يصلَّى به على اسم الهوى. ثمّ يَستأنفُ، في الشّطر الثّاني، ليؤكّدَ أنّ تلك عبادةٌ صحيحة، لأنّ هذا الدّين هو دينُ الحقّ، ودينُ الأبد. والأبد يتضمّنُ الحقَّ، ويتجاوزُه.
إذًا، ينسجمُ إعرابُ "بلْ" على أنّها حرفُ عطفٍ، مع عطف الأبدِ على الحقّ، دلاليًّا. فإنّ اعترافًا بالأبد لا ينفي ولا يفيدُ الإضرابَ عن الاعترافِ بالحقّ. إلاّ إذا كان القصدُ هو الإضراب عن الحقِّ وحدَه، لصالحِ ما يتضمّنُهُ، فأكثر.
لقد سمَّيْتُ هذه الوظيفةَ لِـ "بلْ" : "التّأكيد بالتّضمُّنِ بعدَ إثبات"  حيث يؤكِّدُ ما بعدَ "بلْ" معنى ما قبلَها، ويتضمّنُه.

الفصلُ الثّالث: البيتُ البادئُ بالحرف المشبَّهِ بالفعل.

"كأنّ سهادَ اللّيلِ يعشقُ مقلتي
فبينهما في كلِّ هجرٍ لنا وصْلُ"  [من الطّويل]
فبينهما: الضّمير المثنّى يعودُ على سهادِ اللّيلِ ومقلةِ الشّاعر.
لنا: ضمير المتكلّم يعودُ على الشّاعرِ وحبيبتِه.
ضميرُ المثنّى الغائب مذكورٌ مَن يحيلُ إليهما في البيتِ نفسِه، فإنّ العناصرَ التي توضِّحُ الإحالةَ مُثبَتةٌ صراحةً في النّصّ.
أمّا ضميرُ المتكلّم فقد حدَّدَ هويّتَه السّياق، ولا سيّما كلمة الهجر. وما الهجرُ الذي يسبّبُ الأرقَ وسهادَ اللّيلِ سوى هجر الحبيب. 
إذًا لقد وردَ في النّصِّ دليلٌ تداوليٌّ على المحالِ إليهما بضمير جمع المتكلّم، وإنْ لم يُذكَرا تصريحًا.
واللاّفتُ أنّ الشّاعر قد استخدمَ ضميرَ الغائب لسهادِه ومقلتِه، واستخدم جمعَ المتكلّم ليجعلَ الحبيبةَ معه في الموقف نفسِه، وهو موقفُ الهجر.
وما بين ضمير الغائب وضمير المتكلّم أنشَأَ التّعارضَ المعجميَّ الذي هو انعكاسُ التّعارضِ بين الهجرِ والوصل. فهل كان التّعارض حقيقيًّا أم مجازيًّا؟
وكيف تكونُ المقلةُ في وصلٍ وصاحبُها في هجر؟ ألأنّ الوصلَ مع السّهادِ سراب؟
يكتسبُ الوصلُ، في سياق البيت، دلالةً مجازيّةً، لأنّه لا يلائمُ الطّرفَ المسنَد إليه. وإنّ "وصلَ" المقلةِ والسّهادِ كنايةٌ عن الأرق. 
وإذا غيَّبَ الشّاعرُ مقلتَه محيلاً إليها بضمير الغائب، وجاعلاً إيّاها في وصلٍ مع السّهادِ، وهو والحبيبة معًا في هجر، فهل أرادَ أنّ الحبيبةَ أقربُ من مقلتِه إليه؟
إنّ لاختيار الضّميرِ دلالةً ليست محض صدفة.
وإنّ تحديدَ المحال إليهما بالضّمير الغائب المثنّى قد ألغى احتمالَ الشّكّ في معنى الشّطر الثّاني. فقد كان من المحتمل أن يَقرأَ قارئٌ أنّ الجارّ والمجرور "لنا" هما المتعلّقان بخبر المبتدأ "وصلُ". ولكنْ بتحديدِ صاحبَي الضّمير الغائب لم يعدْ ذلك ممكنًا. فلا يمكنُ أن يكونَ تأويلُ الشّطر الثّاني هكذا: 
بين السّهاد ومقلتي، في كلّ هجرٍ، لنا وصلُ ! فهذا كلامٌ غيرُ سليم؛ والوصلُ لا يمكنُ أن يكونَ قائمًا "بين السّهاد ومقلتي". 
وهكذا فإنّ تحديدَ المحالِ إليهما بضمير الغائب قد أكّدَ أنّ شبه الجملة المتعلّق بخبر المبتدأ "وصلُ"
هو: "بينهما"؛ فإنّ الوصلَ بين السّهادِ ومقلةِ الشّاعرِ قائمٌ، كلّما كان هجرٌ بينه وبين الحبيبةِ. لذلك أقحمَ المتنبّي "في كلِّ هجرٍ لنا" بين المبتدأ والخبر، ليحدِّدَ شرطَ هذا الخبرِ – الوصل – بأنّه الهجرُ بين الحبيبين. 

"إنّها وا لهْفَ نفسي
قطَراتٌ من دمي"  [مجزوء الرّمَل]   
يقولُ الشّاعرُ إنّ ما يُشْجي فيه ليس نغَماتِ فمِه في ذاتِها، وإنّما كونُها قطَراتٍ من دمِه. وهنا نجدُ فائدةً في إيرادِ البيتِ السّابق لهذا البيت:
ليس ما يُشجيكَ منّي نغَماتٌ في فمي
إنّها وا لهْفَ نفسي قطَراتٌ من دمي
الضّمير "ها" وهو اسم "إنّ" عائدٌ على سابقٍ هو "نغماتٌ في فمي". 
لقد أقحَمَ الأخطلُ الصّغيرُ النّدبةَ بين المبتدأ والخبر؛ فالموقفُ جللٌ، ونزفُ الحزنِ يدفعُ الشّاعر إلى أن يندبَ نفسَه.
وإذا ظنَّ ظانٌّ أنّ نغمات الشّاعر هي التي تُشْجي، والمقصودُ شِعرُه، فقد جاءَ البيتُ الثّاني ليعلنَ أنّ هذه "النّغمات" هي قطراتٌ من دم الشّاعر. وكم من شاعرٍ أقرَّ بأنّ الشّعرَ يُسقَى من جراح القلب!
ولو استخدمَ الشّاعرُ الضّميرَ الهاء بدلاً من الضّمير "ها" في "إنّها"، لاختلفَ معنى البيتِ كثيرًا، وذلك أنّ الضّميرَ المذكّر الهاء كان سيحيلُ إلى "ما يُشجيك"، ليصبحَ معنى البيت الثّاني: 
إنّ ما يُشجيكَ منّي هو قطراتُ دمي؛ وا لهفَ نفسي!
أمّا استخدامُ الضّمير المؤنّثِ "ها" فقد أحالَ إلى "نغماتِ فمي" وهي القصائد، ليصيرَ معنى البيت الثّاني: 
إنّ نغماتِ فمي هي قطراتٌ من دمي ولذلك هي تُشْجي؛ وا لهفَ نفسي!
نلاحظُ أنّ تحديدَ المحالِ إليه بالضّمير هو أساسٌ في بلوغ المعنى. فإذا اختلفَ الضّميرُ، أو المحالُ إليه به، اختلفَ المعنى.



الفصلُ الرّابع: البيتُ البادئُ بالشّرط.

"فإنْ تَفُقِ الأنامَ وأنتَ منهم
فإنّ المِسكَ بعضُ دمِ الغزالِ"  [من الوافر]
يستخدمُ الشّاعرُ أسلوبَ الشّرط في مدح سيف الدّولة، لكنّه شرطٌ نحويٌّ لم يُقصَدْ به الشّرطُ وإنّما التّقرير. فلم يكن المتنبّي ليقصدَ الشّرط، بل أرادَ تأكيدَ أنّ سيفَ الدّولةِ قد فاقَ الأنامَ، وإنْ كانَ منهم. وأمّا جوابُ الشّرط المقترنُ بفاء الجزاء فقد جاءَ ليجيبَ عن محذوفٍ تقديرُهُ: 
فلا تعجبْ، لأنّ المسكَ بعضُ دمِ الغزالِ.
هذا البيت يخالفُ قواعدَ المنطقِ الرّياضيّ، مثلما يخالفُ منطقَ الشّرط في الجملةِ الشّرطيّة.
فالمنطقُ الرّياضيُّ يعتبرُ أنّ أفرادَ الجماعةِ الواحدةِ أو الفئةِ الواحدةِ يكونون متساوين. فيخالفُ الشّاعرُ هذه القاعدةَ المنطقيّة مقدّمًا برهانًا ثابتًا هو أنّ المسكَ يُستخرَجُ من دم الغزال. وكأنّ هناك تشبيهًا ضمنيًّا لسيف الدّولةِ بالمسك، فيما سائرُ النّاسِ قطراتٌ من دم الغزال الذي يخرجُ المسكُ منه فيكونُ فريدًا متميّزًا.
ولا بدّ، أمامَ هذه الصّورةِ الشّعريّةِ التي يخرجُ منها جزءٌ كانَ يُفترَضُ بقاؤُه في مكانِه، من إيرادِ بيتِ سعيد عقل الذي يقولُ فيه عن بلادِه:
"ووحدَهم أهلُها أغلى عليك هوًى
كمثلِ عينيك أغلى منهما البصَرُ" سعيد عقل 
وإنّ بيتَ المتنبّي يخالفُ أيضًا صِدقيّةَ قواعدِ الشّرطِ النّحويّة، ليثبتَ أنّ الشّرطَ النّحويَّ قد لا يكونُ شرطًا في معناه. وهنا تتقدّمُ الدّلالةُ على النّحو. فالشّاعرُ لا يقصدُ الشّرطَ بل يقصدُ التّأكيد. 
وكذلك نجدُ أنّ هناك حذفًا مقدَّرًا من ضمنِ جواب الشّرط يمكنُ تأويلُه: "فإنّ المسكَ بعضُ دم الغزالِ" ليس جوابًا أو جزاءً لكونِ سيفِ الدّولةِ قد فاقَ الأنام. وإنّما جوابُ الشّرط هو تأويلٌ لمحذوفٍ تقديرُه "فلا تعجبْ إذا فقْتَ الأنامَ وأنتَ منهم، لأنّ المسكَ بعضُ دم الغزال".
"لو مَرَّ سَيفٌ بينَنا لم نكنْ
نعلمُ هل أجرى دمي أو دمَكْ"  [من الرّجز]
في هذا البيتِ شرطٌ نحويٌّ، ودلاليّ. فالجملةُ الشّرطيّةُ تحملُ معنى الشّرط، وهو افتراضيّ.  
إنّ تركيبَ الجملةِ الشّرطيّة يؤسِّسُ لمعنًى متضمَّنٍ غير المعنى الظّاهر في جواب الشّرط. فالمعنى الظّاهر هو أنّ السّيفَ كانَ، إذا مَرَّ بين الشّاعرِ وحبيبتِهِ، لم يعرفا دمَ مَن أجرى؟ أهو دم الحبيبة أم الشّاعر.
أمّا المعنى المتضمَّنُ، والممكنُ تأويلُه من هذه الجملةِ الشّرطيّة، فهو أنّ الحبيبين كانا ملتصقين التصاقًا تامًّا حتّى لا يتمكّنَ سيفٌ من المرور بينهما إلاّ إذا جرحهما معًا فامتزجَت دماؤُهما. إنّ هذا الشّرطَ دليلٌ على تلاصقِ العاشقين أو توحُّدِهما.
"لو المستعملة في نحو: "لو جاءَني لَأكرمْتُه" تفيدُ ثلاثةَ أمور:
أحدُها: الشّرطيّة...
والثّاني: تقييدُ الشَّرطيّةِ بالزّمن الماضي...
والثّالثُ: الامتناع..." 
وفي شرحٍ مختصرٍ لهذا البيت في ضوءِ هذه الشّروطِ الثّلاثة، فالشّاعرُ يقولُ إنّ السّيفَ، لو مرَّ في الماضي بينه وبين حبيبتِه، لامتزجت دماؤهما معًا حتّى لم يمكنْ تمييزُهما؛ إنّه مجرّدُ شرطٍ افتراضيٍّ لم يحدثْ. 
الفصل الخامس: أبياتُ السّرد والوصف.
"شاميّةٌ طالما خلَوْتُ بهاتبصرُ في ناظرِي محيّاها
فقبَّلَت ناظري تغالطُنيوإنّما قبَّلَت بهِ فاها
فليتَها لا تزالُ آويَةًوليتهُ لا يزالُ مأواها"  [من المنسرح]
شاميّةٌ: خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ: هي. والضّميرُ يحيلُ إلى امرأةٍ شاميّة.
ما (في طالما): كافّةٌ.
يقولُ الشّاعرُ في البيتِ الأوّل إنّ تلك المرأةَ الشّاميّةَ، طالما هو خالٍ بها، أي طالما أنّهما معًا، وحدَهما، فإنّها تنظرُ في عينيه، فترى محيّاها، أي وجهها.
فربّما كانت تريدُ أن ترى حبَّه لها، وكيف ينظرُ إليها أي كيف ترتسمُ هي في عينيه. 
وربّما كانَت تحبُّه إلى حدِّ التّماهي. 
إنّ استخدامَ الشّاعرِ "طالما"، ومعناه طوالَ وقتِ خلوِّ الحبيبين، يجعلُ المعنى يَميلُ إلى فرضيّةِ التّماهي. لأنّ المرأةَ، لو شاءت أن تعرفَ كيف ترتسمُ في عينيه، لَكفَّت عن النّظرِ حينما عرفَت ما تريدُ معرفتَه. غير أنّ البيتَ التّالي سيثبتُ العكس.
ويصعدُ المعنى، في البيت الثّاني، من البصرِ إلى التّقبيل. فعندما رأَت جمالَ محيّاها في ناظرِهِ قبّلَته، ويقولُ: "تغالطُني"، لأنّ المقبَّلَ، في الحقيقةِ، لم يكنْ ناظرَ الشّاعر وإنّما فمها المرتسم في عينِه.
أمّا إذا افترضْنا أنّ "ها" في "فاها" ليس ضميرًا متّصلاً عائدًا على المرأة، وإنّما المقصود به "فاهًا" حيث سقطَ التّنوين للضّرورةِ الشّعريّة، فعندها يصبحُ المقصود بـ "فاهًا" هو فم الشّاعر. ويصيرُ معنى البيت الثّاني أنّها قبّلَت ناظرَه تضليلاً "تغالطُني"، ولكنّها في الحقيقةِ قبَّلَت فمَه.
وإذْ يستخدمُ الشّاعرُ الجارّ والمجرور "به"، حيث يعودُ الضّميرُ الهاء على "ناظر" الشّاعر، فمعنى الباء هو الإلصاق، كما مرَّ في هذا البحث؛ ومعنى البيت أنّ المرأةَ قد قبَّلَت فمَ الشّاعر ملتصقةً بعينِه، ومن خلالِها.
 فهل توحَّدَت حواسُّ الشّاعرِ بالحبّ، وأصبحَ لا يفرِّقُ حاسّةً عن حاسّةٍ، مثلما يَفعلُ الصّوفيّون؟
إنّ إنكارَ وجودِ الضّمير "ها" واعتبار الكلمة "فاها" في حالةِ تنوين النّصب، من شأنِه أن يبدّلَ المعنى بشكلٍ كامل، وأن يوصلَ قارئَ هذا النّصِّ إلى تراسُلِ الحواسّ لدى الشّاعر.
إنّما: إنّ وقد دخلَت عليها ما الحَرفيّةُ الزّائدة.
أمّا معناها الوظيفيّ فهو، في سياقِ هذا البيت الثّاني، التّعارض.
فلقد حاولت المرأة أن توهمَ الشّاعر بما هو متعارضٌ مع الحقيقة. إنّها توهِمُهُ بتقبيلِ ناظرِهِ، غيرَ أنّها ربّما تقبِّلُ وجهَها في عينيه، وربّما تقبِّلُ ثغرَه. وما يحدِّدُ أحدَ هذين الاحتمالين هو اعتبار وجود الضّمير في "فاها" أو إنكارُه.
وأمّا في البيت الثّالث فينتقلُ المتنبّي إلى أسلوب التّمنّي، متمنّيًا بـ "ليتَ" لو أنّ تلك المرأةَ قد بقيَت "آويةً" أي لاجئةً إلى مأوًى، ومكرِّرًا "ليتَ" معطوفةً في الشّطر الثّاني، متمنّيًا: "ليتَهُ لا يزالُ مأواها". 
والهاء في "ليتَه" لا يمكنُ أن تعودَ على الشّاعر، لأنّه يستخدمُ ضميرَ الغائب، والسّياقُ لا يوحي أبدًا بأنّه يقصدُ بالغائب نفسَه. 
"الواو" بين الشّطرين هي حرف عطف.
والشّاعرُ، في الشّطر الأوّل، يتمنّى لو أنّ المرأةَ قد بقيَت لاجئةً، من دونِ أن يحدِّدَ مكانَ لجوئها المتمنَّى. أمّا في الشّطر الثّاني فيحدِّدُ هذا الملجأَ المتمنَّى محيلاً إليه بالضّمير قائلاً: ليتَه".
والعائد عليه الضّمير الهاء يحدِّدُه التّفسيرُ المعتمَد للبيت الثّاني: فإذا كان الفمُ في البيت الثّاني فمَ المرأة، فإنّ الهاء في "ليتَه" عائدةٌ على ناظر الشّاعر الذي يريدُ أن يخبِّئَها في عينيه.
أمّا إذا افترضْنا أنّ المقبَّلَ في البيت الثّاني هو فمُ الشّاعر، فربّما كان هو المأوى المتمنَّى لتلك المرأة: "وليتَهُ لا يزالُ مأواها".
إنّ الوقوفَ على معنى البيتين الثّاني والثّالث رهنٌ بالضّمير المتّصل. ويتغيّر المعنى وفْقَه.

     "تمُرُّ قفزَ غزالٍ   بين الرّصيفِ وبينِي
  وما نصَبْتُ شِباكِي   ولا أَذنْتُ لعَينِي"   
يخاطبُ الشّاعرُ الحبيبَ "عاقدَ الحاجبين"، ويقصدُ حبيبةً امرأة، مستخدمًا الحالَ في وصفِ مرورِها قائلاً إنّها تمشي "قفزَ غزالٍ" فيشبِّهُ مشيتَها بقفزِ الغزالِ، من خلالِ الحال.
أمّا مكانُ القفزِ فهو المتّسعُ ما بين الرّصيف والشّاعر. 
وإذا كانَ السّياق "بين الرّصيف وبيني" يوحي بضيقِ تلك المساحة، فإنّ الحال "قفزَ غزالٍ" توحي باتّساعٍ يسمحُ لغزالٍ بالقفزِ بحرّيّة.
وما بين البيتين أُقحِمَت واو الاستئناف.
يُنكِرُ الشّاعرُ، في البيت الثّاني، أن يكونَ قد نصبَ شِباكًا لاصطيادِ المرأة، كما ينكرُ أن يكونَ قد سمحَ لعينِه بالنّظرِ إليها. 
فما معنى واو الاستئناف؟
إذا مرَّت الحبيبةُ بين الرّصيف والشّاعر وهي تقفزُ كالغزال، فذلك يَفترضُ أنّ ينظرَ الشّاعرُ إليها، وأن ينصبَ شِباكَه المجازيّة لاصطيادها. 
وما بين الشّطر الأوّل (المجاز)، والشّطر الثّاني (الحقيقة)، ينفي الشّاعرُ بـ "ما" مكرّرة بـ "لا" أيّ ردِّ فعلٍ له أمامَ المرأة، إلاّ وصفها من خلال الحال، بالغزال...
بناءً على ما تقدَّم، فإنّ معنى الواو، في هذا السّياق، هو التّعارض بين المتوقَّع والواقع.
أمّا الواو الواقعة بين شطرَي البيت الثّاني فهي لعطفِ الجملتين المنفيّتين، لاشتراكهما في النّفي. 


الخاتمة.

لقد اخترْتُ، من مدوّنةِ البحث، أبياتًا لكلٍّ من المتنبّي والأخطل الصّغير، تبدأُ باسم فعل في الفصل الأوّل، وبحالٍ في الفصل الثّاني، وبحرفٍ مشبّهٍ بالفعل في الفصل الثّالث، وبحرفٍ للشّرط في الفصل الرّابع، وأبياتًا سرديّةً ووصفيّةً في الفصل الخامس.
وقد اعتمدْتُ الوصفَ الدّقيقَ والتّحليل، مستخدمةً كلَّ مستوياتِ البحثِ اللّغويّ، ومعتمدةً التّقديمَ والتّأخيرَ والتّحويل كلّما اقتضى البحث. 
وكانَ ممكنًا، وسيبقى ممكنًا، أن أختارَ أبياتًا وفقَ صفاتٍ أخرى، لكنّ غايةَ البحثِ ليست شمولَ قواعدِ اللّغةِ واحتمالاتِها، وإنّما الوقوفُ على التّأثير المتبادل ما بين النّحوِ والصّورة.

لذلك أعرضُ، هنا، بعضَ الاستنتاجات التي ظهرَت، تباعًا، في سياق البحث.
-لم نلحظ اختلافًا لافتًا، على مستوى علاقةِ النّحو بالصّورة، بين أبياتِ المتنبّي وأبيات الأخطل الصّغير، ولذلك لم نضطرَّ إلى المقارنة.
-قد تكونُ العناصرُ التي توضِّحُ الإحالةَ بالضّمير مثبَتةً صراحةً في النّصّ. كما قد يردُ في النّصِّ دليلٌ تداوليٌّ على المحال إليه. وربّما غابَ كلُّ دليلٍ فنلجأ إلى المعنى النّحويّ والإعرابيّ. أمّا إذا لم نتمكّنْ من ترجيحِ تأويلٍ على آخر، فنبقي المجالَ مفتوحًا أمام التّأويلَين.

تأثيرُ اتّجاهاتِ الصّورةِ في النّحوِ، وفي المعنى التّداوليّ.
-لقد اتّضحَ لبعضِ الكلماتِ معنًى عمليٌّ ظهرَ في السّياق، مثلاً: "أصلُ" التي تبيّنَ أنّ المقصودَ بها هو السّبب.
-لقد تحدَّدَ أيّ معنًى من معاني حرف الجرّ هو الذي يجب اعتمادُه، استنادًا إلى شرح النّصّ. 
مثلاً: معاني "في".
-لقد ظهرَ تأويلٌ لمحذوفٍ يشكّلُ جوابَ الشّرطِ الدّلاليَّ الحقيقيّ، لا جواب الشّرط النّحويّ السّطحيّ.
مثلاً: "فإنّ المسكَ بعضُ دمِ الغزالِ"
حيث يوجدُ تأويلٌ لمحذوفٍ تقديرُه: لا تعجَبْ، فإنّ المسكَ بعضُ دم الغزالِ.
-لقد ظهرَ، أحيانًا، في التّحليل الدّلاليّ، معنًى متضمَّنٌ جديدٌ أعمقُ من المعنى المباشر.
مثلاً: "لم نكنْ نعلمُ هل أجرى دمي أو دمَكْ"
ومعناه الالتصاق والتّوحُّد في الآخر.

تأثيرُ النّحو في اتّجاهاتِ الصّورة.
-لقد تحدَّدَ معنى بعضِ الكلماتِ المقصود من خلال الإعراب.
مثلاً: "واهًا" وَ "إيهِ"
حيث أكّدَ السّياقُ صوابَ معناها الإعرابيّ.
-إنّ المعنى النّحويَّ لحرف الجرّ هو الذي حدَّدَ، في بعضِ النّماذجِ، معنى النّصّ.
مثلاً: المعنى النّحويّ للباء وهو الالتصاق.
-لقد استُخدمَ الفعلُ نفسُه، أحيانًا، بمعنًى مختلفٍ، وفقَ الحال، سواء أكانت مفردةً أم مؤوَّلةً بجملةٍ اسميّة.
-لقد تطابَقَ المعنى النّحويُّ لِـ "بلْ" وهو العطف، ومعناها الدّلاليّ، بعد الإثبات، في تأكيد المعنى السّابق لها بتضمّن المعنى اللاّحق له.
-اختيار الضّمير يسهمُ في تحديد الدّلالة، فإذا استبدلْنا الضّميرَ اختلفَ المعنى.
مثلاً: كون الضّمير مذكّرًا أم مؤنَّثًا.
-اعتبار وجود الضّمير المتّصل، كما إنكارُه، يمكنُ أن يغيّرَ المعنى.

إذًا، لقد وقفنا على تأثيرٍ للصّورة في تحديد المعنى النّحويّ، مثلما وقفنا على تأثير النّحو والتّركيب في اتّجاهات الصّورةِ وفهمِها.
ولذلك فلا بدّ من أن نستعيرَ من مقدّمةِ هذا البحث قولاً أوردناه هناك: "كلّما تعمّقْنا في تفاصيلَ أكثر في دراسة القواعد، يصبحُ التّوافقُ بين القواعدِ أقوى فأقوى، حتّى نصلَ إلى مرحلةٍ يكونُ فيها صعبًا، إنْ لم يكنْ مستحيلاً، أن نقولَ ما إذا كانت التّصانيفُ شكليّةً أم دلاليّة".
وربّما يكونُ هذا البحثُ خطوةً في هذا الاتّجاه.


مدوَّنةُ البحث.

الأخطل الصّغير: شِعر الأخطل الصّغير، دار الكتاب العربيّ، بيروت، 1439 هـ/ 2018 م.
المتنبّي: ديوان المتنبّي، تحقيق درويش الجويدي، المكتبة العصريّة، بيروت، 1435 هـ/ 2014م.

لائحةُ المصادرِ والمراجع.
القرآن الكريم.
إبن جنّي، أبو الفتح عثمان: الخصائص، تحقيق عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، ط1، 1421 هـ/ 2001 م.
إبن منظور، الإمام العلاّمة جمال الدّين أبي الفضل محمّد بن مكرم: لسانُ العرب، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، ط1، 2003م./ 1424 هـ.
إبن هشام الأنصاريّ: أوضحُ المسالك إلى ألفيّة ابن مالك، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، ط2، 2003م./ 1424 هـ.
إبن هشام الأنصاريّ: مُغْني اللّبيب عن كُتب الأعاريب، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، ط1، 1418هـ/ 1998 م.
إبن يعيش: شرحُ المفصّل للزّمخشريّ، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، ط1، 1422 هـ/ 2001 م. 
الجرجاني، عبد القاهر: المقتصد في شرح الإيضاح، تحقيق كاظم بحر المرجان، دار الرّشيد للنّشر، بغداد، 1982م.
حميدة، مصطفى: نظامُ الارتباطِ والرّبط في تركيب الجملةِ العربيّة، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 1997م.
الحِميَريّ، عبد الواسع: الخطاب والنّصّ، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت، 2008م.
خطّابي، محمّد: لسانيّاتُ النّصّ، المركز الثّقافيّ العربيّ، بيروت، ط1، 1991 م.
زكريّا، ميشال: الألسنيّة التّوليديّة والتّحويليّة وقواعدُ اللّغةِ العربيّة، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، 1983 م.
الصّالح، صبحي: دراسات في فقه اللّغة، دراسات في فقه اللّغة، دار العلم للملايين، بيروت، ط12، 1994.
عبّاس، حسن: النّحو الوافي، دار المعارف بمصر، ط 5، لا ت.
الغلاييني، الشّيخ مصطفى: جامعُ الدّروسِ العربيّة، المكتبة العصريّة، بيروت،ط32، 1996م./1417 هـ.
يعقوب، إميل: كيف تكتبُ بحثًا أو منهجيّة البحث، جروس برس، طرابلس، لبنان، 1986م.

ﭘالمر، ف. ر.: علم الدّلالة، ترجمة مجيد الماشطة، بغداد، 1985م.

البيطار، يسرى: روابط التّعارض والسّبب والاستنتاج في النّصَّين السّياسيّ والأدبيّ، أطروحة أعدّت لنيل شهادة الدّكتوراه اللّبنانيّة في اللّغة العربيّة وآدابها، الجامعة اللّبنانيّة، 2013.

Martinet, Andre: Structure et langue, revue internationale de philosophie, Numero 73-74, 1965.



آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net