Tahawolat

مقدّمة:


 تشكّلت في العالم العربي أقليّات دينيّة وطائفيّة وأثنيّة، عبر ظروف تاريخيّة في مراحل متعدّدة، منها ما هو ذاتيّ يعود إلى ظروف نشوء المذاهب الإسلاميّة والصراعات الّتي رافقتها، ومنها ما هو خارجيّ نشأ بفعل الهجرات إلى العالم العربيّ طلباً للأمن. وقد استوعبت الشّعوب العربيّة جميع هذه الهجرات، ومدّت يدها  لمساعدتها، واعتبرتها جزءاً منها باستثناء الهجرة اليهوديّة المعاصرة، التي شكلت اعتداءً على الشعب السّوريّ بخاصّة والشعوب العربية برمّتها بعامّة، بنهجها الاستيطانيّ الذي يقوم على تهجير الشّعب السّوريّ العربيّ الفلسطينيّ من وطنه، وزرع اليهوديّ مكانه بسياسة التّوطين، وهي هجرة رفضها شعبنا ولا يزال يقاومها.

إزاء تراجع الفكرة القوميّة غداة سقوط الوحدة السّوريّة - المصريّة 1961، وتنامي التيّارات المذهبيّة والطائفية والإثنية في العالم العربي، وما رافقها من حروب أهليّة لا تزال نارُها مشتعلة في العراق بعد الغزو الأميركيّ عام 2003، وفي سوريا منذ 2011، ناهيك عمّا يحدُث في ليبيا اليوم، والحرب الضّروس على اليمن التي تشنّها السّعوديّة عليه بخلفيّة طائفيّة – سياسيّة، فإنّ بحث موضوع العلمانية يأتي في غاية الأهمية، كونه السبيل لمعالجة مختلف الأوضاع المتأزّمة بهدف إقامة وحدة قومية، ومواجهة التحديّات الخارجيّة الصّهيونيّة والإمبرياليّة.


ولمّا كانت العلمانيّة هي قطبٌ رئيسٌ من أقطاب الفكرة القوميّة، إذ بدونها لا يستقيم واقع قوميّ، ولمّا كانت الأمم العربية قد بلغت حالة الخطر الحقيقي، الأمر الذي يستدعي وضع مشروع نهضويّ للعالم العربي، مما دفع الباحث إلى تبيان مستوى العلمانية في الواقع العربي المعاصر لمعرفة الواقع القوميّ على مستوى النظام العربيّ الرسميّ.

وقد اعتمد الباحث منهج البحث التّاريخيّ بشقيه الوصفيّ والتّحليليّ، مبتعداً قدر الإمكان عن السّرد التّاريخيّ، إلّا في حالات الضرورة القصوى، مستخدماً المصادر والمراجع  العربيّة والأجنبيّة.

 

 أولاً: مفهوم العلمانيّة في الواقع العربيّ المعاصر

تُشتّق عبارة العلمانية من العَلم ( بفتح العين) والعالم الدنيوي ( )، الذي يصنع تاريخ البشر بأنفسهم، البشر المعرّفين بالعمل، والإنتاج بالعقل والمعرفة والحريّة. الذين "يدخلون في علاقات محدّدة وضرورية ومستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الإنتاجية المادية، ويشكّل مجموع علاقات الإنتاج هذا البنيان الاقتصاديّ لمجتمع، أيّ يشكل الأساس الحقيقي الذي يقوم فوقه صرح علويّ قانونيّ وسياسيّ وأشكال اجتماعية، فأسلوب إنتاج الحياة المادية هو شرط العمليّة الاجتماعيّة والسياسيّة والعقلية للحياة بوجه عام، ليس وعي الناس بالذي يحدّد وجودهم، ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم"( ).


وتستمدّ العلمانيّة مشروعيتها من التناقض بين رجال العلم والمفكرين العقلانيين من جهة وبين اللاهوتيين والمدافعين عن التقديس وعن الدين، سدنة الحقيقة المطلقة من جهة ثانية، كتعبير عن الصراع الاجتماعي السياسي، الذي يخترق التاريخ البشري.


 1ـ العلمانية في المفهوم السياسي الإسلامي- العربي:


   يرى الإسلام السياسي المعاصر بجميع فروعه في العلمانية فكرة أوروبية، من حيث المنشأ التاريخي والحل السياسي والاجتماعي، إذ أنها لم تكن فقط الرد الطبيعي الأوروبي على استبداد الكنيسة، بل أيضاً الحلّ الصحيح والطبيعي في إطار الحضارة المسيحية، وحيث أن المسيحية هي ديانة روحية ليس بها تشريع مدني، لحكم الدولة وسياسة المجتمع، فإن الدولة في ظل الديانة المسيحية لا بدّ من أن تكون علمانية تفصل الدين عن الدولة.


 أما الحضارة الإسلامية فلا تعتبر فقط الدعوة إلى العلمانية تقليداً للغرب وتبعية لحضارته، بل هي عدوان على الدين الإسلامي. لأن الدين الإسلامي هو عقيدة وشريعة ودين ودولة، وليس مجرّد رسالة توحيدية، فالدولة في الإسلام عكس المسيحية لا يستقيم لها أن تكون علمانية بأي حال من الأحوال ( ).


يستند هذا المفهوم إلى عقلية توحّد السلطة السياسية مع السلطة الدينية ضد الإنسان، كونهما تعتمدان على التنزيل، تنزيل الأمر من السلطة إلى الشعب، وتنزيل المعرفة من السماء إلى الأرض مع تضمين إلغاء حق المراجعة والمناقشة والحوار. كما تستند إلى عقلية تكفير المعارضة الذي شاع بفعل الأحاديث الموجّهة للسلوك والأذهان، وخاصّة الأحاديث الموضوعة لغايات سياسية وأيديولوجية واجتماعية، كحديث "الملة الناجية" فأصبحت "كل الفرق الضالة هي كلّ أنواع المعارضة للسلطة القائمة، كما أصبحت الفرقة الناجية هي حزب الحكومة" ( ).


ويعود المفهوم الإسلامي للعلمانية إلى سلطوية التصوّر، ومركزيته، وإطلاقه، فيتجسّد هذا التصور بالزعيم الأوحد، والمنقذ الأعظم، والقائد المُلهم، والحاكم الفرد، الذي كلّما زاد صلفاً وكبراً وغطرسة وبطشاً، ازداد المحكومون ذلّاً وهواناً. إنه التصوّر الذي يعطي القمة كل شيء ويسلب القاعدة كل شيء، فينقسم البشر إلى عليّة القوم وإلى عوام، وهؤلاء العوام بنظر الكواكبي ".. هم قوت المستبد وقوته، بهم عليهم يصول وبهم على غيرهم يطول، يأسرهم فيتهلّلون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء الحياة ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف أموالهم يقولون عنه كريم، وإذا قتل ولم يمثل يعتبرونه رحيماً، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التأديب، وإن نقم عليهم منهم بعض الأباة قاتلوهم كأنهم بغاة".


هذا المفهوم متجذّر في الإسلام منذ كان هجوم الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس الهجري وقضاؤه على الفلسفة وعداؤه لكلّ اتجاه حضاريّ عقلانيّ، وتنكّره للعلوم الإسلامية بما فيها علوم الكلام والفقه والحكمة، باستثناء علوم التصوّف، وتكفيره الفلاسفة كونهم أنزلوا العلم الإلهي إلى مستوى العلم والفلسفة ومنهج الجدل، انطلاقاً من كون العلوم الدينية تمثّل بالنسبة له الأولوية على العلوم الطبيعية والفلسفية، وهدفه منهج النظر ودعوته لمنهج الذوق، وتركه الحقيقة وسلوكه الطريقة، ونقده للعلم الإنساني وانتظاره العلم اللدنيّ.. ومنذ ذلك الحين أصبح الله، السلطة، والجنس، مقدسات ومصادر للتحريم "فالله يحرّم أكثر مما يحلل، والسلطة تعاقب أكثر مما تثيب، والجنس للحرمان أكثر منه للإشباع" ( ).


وعلى الرغم من كل ذلك، فثمة مخزون فكريٌّ وسياسيّ علمانيّ آخر في التراث العربي- الإسلامي، في نظرية المعرفة في القرآن التي تدعو إلى التدبير والتفكير، وفي سنّة الرسول العربي الذي كان يحثّ على التجربة والتأويل، وفي التراث السياسي العروبي لتجربة معاوية بن أبي سفيان، وفي التراث الفكري لمدرسة المعتزلة التي رفعت من شأن العقل وحررته من قيود النص الديني، وأضافت إليه معاني الحرية والإدارة والاختيار، وفي فلسفة الكندي ونزعته العقلية البرهانية، ونزعته الإنسانية التي عللت الأعراق والأديان والأجناس، وفي مدينة الفارابي الفاضلة التي قامت على العقل والعدل، ولدى ابن سينا الذي اعتبر العقل أعلى قوى النفس البشرية، ولدى ابن رشد الذي أقام أول فصل منهاجي بين الفلسفة والدين، ولدى ابن خلدون الذي حرر علم التاريخ من الوصفيات والغيبيات، ولدى الطهطاوي ومحمد عبده، اللذين دَعَوَا إلى إعادة تفسير الشريعة انطلاقاً من حاجات العصر.

من هذا الإرث السياسي الثقافي تنشأ الحركات الإسلامية المعاصرة، السلفية والتكفيرية الإرهابية، لتقتل كل معاني الحياة الكريمة وما تكتنزه من إنسانية، وفي المقلب الآخر تنشأ حركات سياسية جهادية معاصرة، في فلسطين ولبنان والعراق تتنكّب مهمة مقاومة الاحتلال الصهيوني والإمبريالي إلى جانب القوى القومية بمدرستيها السورية والعربية.


2 ـ العلمانية في المفهوم العربي المعاصر:


يرى التيار العلماني القوميّ أن العلمانية ليست ظاهرة لصيقة بأوروبا، وإن كان منشأها في الغرب، كون العلمانية نشأت في كنف علوم المجتمع والاقتصاد والسياسة والتاريخ وهي علوم عالمية، العلمانية بهذا المعنى، تستند إلى تقديم العقل على النقل في أمور التشريع والتنظيم السياسي والاجتماعي.


فالعلمانية هي عملية تاريخية موضوعية تضافرت مع الرأسمالية وتحرير المجتمع والانتقال من الجماعات الأهلية المغلقة إلى المجتمع القائم على المواطنة والمجانسة القانونية. وهي تجذّرت في البلاد العربية في القرن التاسع عشر، منذ أدركت الدولة العثمانية أن الإصلاح الداخلي وتوطيد نماذج التنظيم السياسي والإداري والاقتصادي المدنية ومكملاتها القانونية والتربوية والثقافية هي شأن ضروري للبقاء. فالعلمانية هي فصل الدين عن الدولة دون إهمال القيم الإنسانية والمعنوية، وهي معنيّةٌ في المقام الأول بتأكيد استقلالية العقل الإنساني ودور الإنسان في العالم مشتملاً على اكتشافه باستقلالية عن الدين.


والعلمانية بذلك ليست عقيدة تضبط الأمور وتحدّ من حرية التفكير، بل تتركّز بالإلحاح على حاجة الفهم والنقد داخل توتر عام في الإنسان من أجل اكتساب استقلالية الفكر. وهي ليست مبدأ ينطوي على الإطلاق والتعميم بل مفهوم نسبيّ يرتبط تعريفه بالزمان والمكان، وهي في كلّ الأحوال ليست تقنيّة جاهزة كونها حصيلة تاريخ خاص من التطوّر السياسي والثقافي في كل مجتمع ( ).


ثانياً-العلمانية والدولة في العالم العربي

تفاوتت نسبة انتشار العلمانية في الدول العربية، بين مستوى متقدّم كما في سوريا وتونس والمغرب، ومنعدم كما في الجزيرة العربية، ومتذبذب كما في مصر ولبنان والسودان، إذ أن المستوى تحقّقه القيادات السياسية الرسمية بقدر قناعتها الفكرية بالعلمانية.


1-موطن الفكر العلمانيّ:


عملت الدولة التونسية على ترسيخ أسس علمانية بعد الاستقلال، فاستندت السياسة التعليمية إلى إلحاق المعاهد "الزيتونية" بوزارة التربية حتى أُزيلت عام 1965 وأُسّست الجامعة "الزيتونية" التي تحولت إلى جامعة تونسية عام 1960 كمرفق رئيسي للتعليم العالي في البلاد( ). وجارى هذا التهميش أصحاب الثقافة الإسلامية لعدم إلمامهم باللغة الفرنسية. وعلى الصورة نفسها حدث في المغرب الأقصى، حيث قامت الدولة بإجراءات مماثلة كتحويل جامع القرويين إلى جامعة عام 1963، وتأسيس مدرسة خاصة لتجهيز الكوادر الدينية التي بقيت دون ازدهارها ( ). فبقيت المؤسسة الدينية تحت السلطة شبه التامة في تونس وكذلك في المغرب حيث يمارس الملك دور أمير المؤمنين ( ).


 كان موقف الدولة التونسية من أجرأ المواقف بل أوضحها، فمجلة فكر التي أسّسها محمد مزالي عام 1955، ومجلات عربية أخرى، كان اهتمامها بالدين ضئيلاً، وإن لم تطلب منه نصوصاً، فقد جعلت القرآن فوق التاريخ وأولت على نحو جريء، وشجعت النظرة التاريخية التي تسمح بنسخ مضامينها، فجرى التشديد على أهمية مراعاة التطور الاجتماعي وضرورات التاريخ وتجاوز الصيغ الخارجية إلى "الروح والمعنى" ودعت إلى الاعتبار الواقعيّ للتاريخ ضد "الرومانسية"، كالإشارة إلى ثلاثة من الخلفاء الراشدين ماتوا مقتولين، مما يطعن في رومانسية النظرة إلى السلف كما دعت إلى إنقاذ الإسلام من الجمود ( ).


 وفي المشرق العربي، عملت سورية على تعميق الأسس العلمانية على صورة منهجية وترسيخها في نظام تربويّ وثقافي. فكان أول مهام النظام الاستقلالي في سوريا إلغاء التمثيل النسبي الطائفي في مجلس النواب، وفي عهد الشيشكلي تمّ إلغاء قضاء الأحوال الشخصية للطوائف الإسلامية المختلفة ودمجها في قانون واحد. ومنع كل التنظيمات والتجمعات القائمة على أسس طائفية أو إثنيه أو جغرافية، واستمرت في سياسة ثقافية عروبية كانت عنوان السياسات الثقافية لمختلف الأنظمة السورية التي أتت بعده، وبعد عام 1965 وُضِعَ كلّ المدارس الطائفية تحت رقابة الدولة المباشرة. واستمرت الدساتير السورية (1950-1954-1964-1966-1973) على عدم النّصّ على دين الدولة على الرغم من نصّها على أن الإسلام دين رئيس الدولة، فكانت الدولة العربية الوحيدة دون دين رسمي، إضافة إلى لبنان وتونس، والدستور المؤقت للجمهورية العربية المتّحدة الذي لم يأت على ذكر الدين، وسجلت الدساتير السورية واقع كون الشريعة مصدراً رئيساً للتشريع، ومنذ نظام شباط 1965، استمر العمل بتجذير العلمانية رسمياً، عندما أصبح القسم الرئاسي منذ عام 1966 قسماً بالشرف بدلاً من القسم بالله. إلى أن أًعيد القسم بالله بعد تولي الرئيس حافظ الأسد رئاسة الجمهورية، نزولاً عند رغبة قطاعات من الشعب، وبعد اضطرابات أثارها الإسلاميون حول هذه القضية( ).


جاء الدستور السوري علمانياً بشكل عام، مع إيماءات باتجاه المتدينين كان منها إقامة كلية خاصة بالشريعة في جامعة دمشق، بعد أن كانت تُدرَّس في إطار دراسة القانون، والقانون المقارن، وربما رغبت الدولة بذلك إنتاج كوادر دينية خاصة بها وخارجة عن تأثير الأزهر( ).


 وبذلك اقتصرت مهام المؤسسة الدينية على الشؤون الدينية البحت، وكان مجال استقلالها بالرأي عن الدولة أمراً شبه معدوم، ولم تولَّ وزارة الأوقاف إلى الدينيين( ).


وتضمّنت المناهج السورية التربوية تمييزاً بين العروبة والإسلام، وهذا غير موجود في الكتب المصرية والعراقية، وتشجيعاً للمرأة مما لا ينضوي تحت لواء ما يُعرف بالمهام التقليدية للمرأة، وكانت الكتب السورية هي الوحيدة التي نظرت في البراهين على وجود الله، التي غابت عن المناهج الأخرى( ).


   2-موطن الفكر الدينيّ:


أما في الجزيرة العربية، فقد رافق التحولات الاجتماعية التي أتت بفعل الإثراء النفطي، هجوم أيديولوجي من قبل إسلاميي الضفة الشرقية للبحر الأحمر، وتنامى هذا التيار بعد نكسة 1976، عندما أخذت الأجهزة التربوية والإعلامية والثقافية برعاية أعداد كبيرة من المثقفين المقيمين في الخليج  وغير المقيمين فيه، وببثّها ثقافة أصولية صرفاً كما في السعودية، وخطاباً إسلامياً إصلاحياً بأثر من المدرسين المصريين مع هوامش علمانية في الكويت، وتصديرها أعداداً كبيرة من المقيمين والمقيمين السابقين المتأثرين بنمط حياة شديد المحافظة، صائغاً محافظته بلغة إسلامية، وقارِناً بين هذه الأمور والرخاء المادي في مجتمعات فقيرة. وبذلك أصبح للصياغة الإسلامية في أمور الثقافة وأمور المجتمع شرعية مكتسبة كانت غائبة في الخمسينيات والستينيات. بل طالبت بشرعية تساويها مع شرعية الثقافة التاريخية والعملية التي بثتها الدولة على مدى قرن كامل في أرجاء واسعة من العالم العربي( ).


3-موطن التجاذب العلمانيّ والدّينيّ:


حصلت في الجزائر بعد الاستقلال، حالة من التماهي بين "الجزائري" و"المسلم" في مواجهة المستعمر في الفترة الاستعمارية على الرغم من كون قيادة جبهة التحرير وأيديولوجيتها العلمانية لم يكن الإسلام فيها إلا علاقة مبنية على التمايز والتماسك. كان لهذا نتائج بعيدة المدى أدت إلى تقوية الإسلاميين على حساب الجبهة، دون أن يخرجوا خروجاً تاماً على العناصر الأيديولوجية الأساسية للجبهة حتى الثمانينيات، وتحولت معطيات الرمزية الثقافية، إذا أضحت الثقافة العلمانية بعد فترة مقترنة بالثقافة "الفرنكفونية"، فأصبح من الممكن بالنسبة إلى عناصر اجتماعية إدخال طابع إسلامي على التعريب الثقافي، أو على الأقل، صفة إسلامية لها إدخالاً منفتحاً على تأويلات إصلاحية وأصولية في آن. أفضى هذا الوضع في نهاية الأمر وبعد الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي رعتها جبهة التحرير خصوصاً بعد وفاة الرئيس بومدين، إلى اتخاذ الصراع داخل نظام التراتب المهني في أجهزة الدولة صراعاً بين "الفرانكفونية" المقترنة بالعلمانية الثقافية وبالإمكانية المادية للسلوك على طريقة غربية، وبين العروبة المقترنة بالحرمان وانسداد الأفق الاجتماعي وأفق العلم المصاغة بلغة أخلاقية إسلامية، كما جاء الصراع مضافاً إليه تحديدات إثنية في كثير من الأحيان، فأصبح ممكناً الادّعاء أن العروبة ترادف الإسلام وأن الاثنين مرادفان للموقف الوطني، وذلك على عكس حقيقة الأوضاع التاريخية التي أسّس لها "المتطورون" وهي أنّ العلمانية أساسٌ في صياغة فكرة التحرر الوطني الذي يتمّ بقيادتها ( )


أما في مصر، فقد استمرّ قيام الدولة إبان العهد الناصري، على نهجها العلماني ضمناً، على الرغم من توسيع سلطات ومسؤوليات الأزهر عن السابق، ولعل في ذلك شيئاً ذا صلة بالصدام بين النظام والإخوان المسلمين، فأنيطت بالأزهر بموجب قانون 1961 وظيفة قومية إسلامية وتربوية واجتماعية عامة، وأصبحت المؤسسة الأزهرية جامعة على الطراز الحديث تتبعها شبكة واسعة من المعاهد الدينية. وعُدِّل القانون في عهد السادات عام 1975، فأنيطت بموجب التعديلات سلطات عقائدية شبه مطلقة بشيخ الأزهر، كما أصبحت لوزارة الأوقاف شبكة لا كابح لها، وكأنها دولة داخل الدولة( ).


وقد انعكست هذه الصلاحيات المعطاة للأزهر على الحياة الفكرية في مصر، فقامت السلطات الممثلة بالجامعة الأزهرية، بمهمة تأديب أحد أساتذتها في الأدب الإسباني، لترجمة رواية، لفارغاس يوزا، ترجمة نزيهة رأت فيها السلطات الأزهرية، بضغط من جريدة "الشعب" (لسان التحالف الإسلامي) مفسدة لأخلاق الناس والناشئة، مما دعا المترجم إلى التعليق بقوله: إن منطق المصادرة هذا ينسحب على الكثير من الكتب التراثية( ). وإدارة البحوث والنشر بالأزهر هي التي قررت مصادرة كتاب لويس عوض المعنون: مقدمة في فقه اللغة العربية( ). لاتخاذه بعض المواقف الاعتزالية الخاصة بأصل اللغات وبخلق القرآن( ).


في عهد السادات شجع النظام الحركات الأصولية الراديكالية، أملاً منه في القضاء على النفوذ اليساري في الأوساط الطلابية والشعبية، والإبراز التلفزيوني لبعض رجال الدين ذوي الآراء المغرقة في الرجعية، فأدت إلى محاصرة العلمانية ( ) وكان من نتائج ذلك تراجع الاتجاه الإصلاحي الإسلامي على طريقة الشيخ محمد عبده، فصارت قلة فقط من الإسلاميين يجرؤون على دفع ثمن الإشادة بعبد الرزاق وطه حسين.


 الخاتمة:


أظهرت الدراسة أن ثمة دلائل على وجود العلمانية في النظام العربي الرسمي في تونس وسوريا، فيما هي في الجزيرة العربية ومعظم الأقطار العربية خافتة ومعدومة، وهي متأرجحة بين المدّ والجزر في مصر والجزائر والعراق.


فإذا كان المفكرون القوميون يولون الاهتمام الزائد لدرس أسباب تعثّر الديمقراطية في العالم العربي، فإنّ تراجع العلمانية هو أحد أهم المؤشرات المانعة لانتشار الديمقراطية كونها الأساس لتشييد حصن الديمقراطية. إذ إنّ العلمانية هي السبيل لمعالجة الانقسام العمودي في المجتمع المتمثّل بالطائفية والمذهبية والعرقية وغير ذلك من الانقسام الاجتماعي العمودي.


ومن جهة ثانية، كشفت الدراسة الضعف الواضح لواقع الأحزاب القومية، في الأقطار العربية، بعدم وجود انعكاسات مؤثرة لها في بنية النظام العربي الرسمي.










المراجع العربيّة والأجنبيّة

  - أمين، حسين أحمد. دليل المسلم الحزين إلى مقتضى السلوك في القرن العشرين،  دار الشروق، ط 2، القاهرة، 1983. 

  - البشري، طارق.  المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، دار الوحدة، القاهرة. 1982.

  - الجابري، محمد عابد. ابن رشد: سيرة وفكر، دراسة ونصوص، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998.  

 - الجباعي، عبدالكريم. العلمانية في المشروع القومي الديمقراطي، في: الوحدة، (مجلة) العدد 75 كانون أول 1990، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط.

 -حنفي، حسن. في: مجموعة من الباحثين، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، بيروت، 1998.

 - الشوملي، جبرا . العلمانية في الفكر العربي المعاصر، دراسة حالة فلسطين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008.

 - العظمة، عزيز.  العلمانية من منظور مختلف، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008.

  - عمارة، محمد. في: الشوملي، جبرا. العلمانية في الفكر العربي المعاصر، دراسة حالة فلسطين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008.

 -عوض، لويس. مقدمة في فقه اللغة العربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1980. 

 - فرج، نبيل. لويس عوض أمام محاكم التفتيش، الناقد، السنة 21 العدد 9 آذار 1989. 

 - فكر، (مجلة) السنة 5 ، العدد 9 ، تونس، 1960.

  -القدس العربي. 17/01/1990.

  - الكواكبي، عبد الرحمن. طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، دار النفائس، بيروت، 1993. 

- ماركس، كارل. نقد الاقتصاد السياسي، ترجمة راشد البراوي، دار النهضة العربية، القاهرة.  

 - ياسين، بو علي. الثالوث المحرّم، دراسة في الدين والجنس والصراع الطبقي، دار الطليعة، ط2، بيروت، 1985. 

  -Abdel moula, Mahmoud. Ľ université et la société Tunisienne, Tunis1971.                                                                                                                         -Carré, Olivier. La Légitimation Islamique des socialismes Arabes: Analyse conceptuelle combinatoire des manuels scolaires Egyptiens Syriens, et Iraqiens, presses de la fondation nationale des sciences politique) paris,1979.


  

 

 

 

 


آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net