Tahawolat

نُسميه الوعد المشؤوم. إنه الوعد الإستعماري الذي قطعته بريطانية للصهاينة بأن تعطيهم الحق في اقتطاع أرضٍ من فلسطين ليقيموا فيها "وطناً لهم".


حدث هذا يوم الثاني من تشرين الثاني عام 1917. أول ما يُلفت النظر في هذا الوعد كونه يصدر عن سلطةٍ إستعمارية لا تملك الحق في إعطاء بلادٍ ليست لها ولا تملك أي حقٍ فيها. ومن الناحية الحقوقية يُشكل هذا الوعد أول عملٍ إجرائي إجرامي لإغتصاب فلسطين، نجم عنه "الكيان الغاصب". هو وعد متوحش يُعبر عن ثقافةٍ متوحشة تقوم على سرقة الشعوب وممتلكاتها بدءاً من حقها في الحياة على أرضها. يُضاف إلى ذلك أن فلسطين يومها كانت رازحة تحت احتلال متوحش آخر هو الاحتلال العثماني الذي جعل منها جزءاً لا يتجزأ من المقاطعات والأمصار التابعة، ظلماً وبهتاناً، للسلطنة العثمانية.


المشهد في حدِ ذاته يُعبر بوضوح عن شريعة الغاب التي تطبع العلاقات الدولية القائمة بين الأقوياء والمستضعفين. سلبٌ، إجرامٌ، انتحال صفة، وانتهاك حقٍ بالملكية. يصدر كل ذلك عن دولة امبراطورية تزعم أنها دولة قانون وديمقراطية تقوم على احترام مبدأي الحريات العامة والحقوق الفردية. مزاعم تعكس هول التوحش والكذب وانعدام الأخلاق.


قبل ذلك بعامٍ واحد، أي في سنة 1916 كان الإنكليز والفرنسييون قد أبرموا فيما بينهم اتفاقاً سرياً يقضي باقتسام سورية الطبيعية إلى مناطق نفوذ انكليزية وفرنسية عُرفت فيما بعد بإسم اتفاقية سايكس – بيكو تيمناً بإسميي رئيسيي الوفدين البريطاني والفرنسي، مارك سايكس وفرنسوا جورج بيكو. تم ذلك بسرية كاملة في سياق التحضير لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى بقصد الإستيلاء على "أملاك السلطنة العثمانية".


والواقع التاريخي يُثبت أن هذه المفاوضات، والاقتسام، لم تجرِ بين الفرنسيين والبريطانيين فقط بل كانت مفاوضات ثلاثية بين الامبراطورية البريطانية و"الجمهورية الثالثة" الفرنسية والقيصرية الروسية التي كان يرأس وفدها آنذاك رجلٌ يُدعى سازونوف.


وإذا كان الإنكليز والفرنسييون قد وضعوا هذا البرنامج بقصد اقتسام بلادنا فيما بينهم عند هزيمة الامبراطورية العثمانية في الحرب فإن الشريك الروسي القيصري في المفاوضات كانت حصته تنحصر بجزءٍ من أراضي تركيا، بمساحتها المعروفة الآن، وفي البلقان والقوقاز.


وكانت هذه التقسيمات الثلاثية تحمل اسم سايكس – بيكو – سازونوف وكانت الدول الثلاث تُحيط هذا الإتفاق الثلاثي بسريةٍ تامة بهدف خداع شعوب هذه المناطق التي كانت تنظر إلى الغرب كحليفٍ لها في معركة تحررها من نِيّر الإستعمار العثماني المتوحش. وبالتالي كان على هذه الدول الثلاث المتآمرة، وخصوصاً بريطانيا وفرنسا، أن تستمر في زرع الأوهام عند أهل هذه البلاد بأنها ستحمل إليهم بُشرى الحرية والتحرر والإستقلال والديمقراطية وحقوق الإنسان، وربما الحيوان أيضاً، وبالتالي أن ليس لها أطماع في أراضيهم فيما هي تُعد العدة للإستيلاء عليهم والفتك بهم ونهب خيراتهم واستعبادهم بطرقها الخاصة.


والسؤال المطروح، خصوصاً برسم الأجيال الشابة، هو: كيف تحولت الإتفاقية الثلاثية، البريطانية – الفرنسية – الروسية، إلى اتفاقيةٍ ثنائية تحمل اسم سايكس – بيكو فقط!!!...

هنا لابد من سرد الرواية الحقيقية لذلك لأنها رواية مليئة بالمعاني وتعكس صورة عن طبيعة لعبة الأمم وأهوالها.


تروتسكي ينفذ أوامر واشنطن

الرواية الحقيقية هي الآتية:


من المعروف أن دولة الاتحاد السوفيتي التي قامت على أنقاض القيصرية الروسية كشفت أمر هذه الاتفاقية معلنةً الانسحاب منها. ولكن، ما لا يُشير إليه المؤرخون عادةً هو السبب الذي دفع بالدولة السوفيتية الناشئة إلى كشف النقاب عن هذه الاتفاقية.


السبب يعود إلى قرارٍ اتخذته إدارة الرئيس الأميركي وودرو ويلسون وتبنته، أو بالأحرى التزمت بتنفيذه، القيادة السوفيتية ويقضي بفضح الاتفاقات السرية التي كانت تبرمها الحكومات الإستعمارية الغربية. يا للمفارقة. ها أن أول نظام شيوعي يقوم في العالم يأتمر بقرارٍ تتخذه الإمبراطورية التي تُجسد الرأسمالية الفاقعة ويتولى تنفيذ القرار ليون تروتسكي، قائد التيار المتطرف في الثورة البولشيفية وأحد الرموز الأوائل للنظام الشيوعي الناشىء.


صاحب نظرية فضح الإتفاقات السرية هذه كان العقيد في الجيش الأميركي إدوارد هاوز وهو من أقرب المقربين من الرئيس ويلسون ودوره يشبه الدور الذي لعبه فيما بعد هنري كيسنجر على صعيد صياغة استراتيجية دولة الولايات المتحدة الأميركية ما يجعل من هذا الأخير تلميذاً، ولو مع فارقٍ زمني، للعقيد هاوز. وانطلاقاً من مكانته هذه، كان هاوز الرجل الوحيد الذي شارك الرئيس ويلسون في صياغة المبادىء الـ 14 الشهيرة التي عُرفت بـ "مبادىء الرئيس ويلسون". حتى أن هاوز كتب عن ضرورة كشف أمر هذه الإتفاقيات وشارك رئيسه في "رسم خارطة جديدة للعالم". ويذكر في هذا الخصوص أن الجلسة التي عقدها مع ويلسون لرسم هذه الخريطة لم تدم أكثر من ساعتين. أي أنهما، وخلال ساعتين فقط، رسما مخططاً متكاملاً، مستقبلياً لنسفِ المكاسب التي سيحققها البريطانيون والفرنسييون من خلال اتفاقية سايكس – بيكو. إنها صورة عن المنافسة الشرسة بين الحلفاء أنفسهم وعن المؤمرات التي يُحيكها الحلفاء على بعضهم البعض وليس فقط على الدول والشعوب الضحايا.


وقبل تفصيل هذا الأمر، حسبنا الإشارة بشكل سريع إلى سبب التزام القيادي الشيوعي الأكثر تطرفاً، أي ليون تروتسكي، بالقرار الأميركي.


تُؤكد الوثائق المتعلقة بتاريخ الحركة الشيوعية الروسية أن بعض قادة البلاشفة المؤثرين كانوا على صلاتٍ وثيقةٍ بعددٍ من حكومات الغرب، المهتمة بتدمير القيصرية الروسية، وفي مقدمتها حكومات ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة. وانخرطَ في هذا البرنامج مجموعاتٌ من بيوت المال والكُتل الضاغطة في هذه الدول. وكان تروتسكي من ذوي الحظوة عند بيوت المال والشبكات الصهيونية في الولايات المتحدة، إذ كان المعنيون هناك قد رصدوا كفاءات تروتسكي القيادية وميزاته الخطابية الهائلة التي كان يتفوق فيها على الكثير من رفاقه الثوريين، ناهيك عن أصوله اليهودية وبعض الأواصر العائلية التي كانت تشدُ أُسرتهُ برونشتاين إلى أُسرٍ يهوديةٍ مليئةٍ ومُؤثرةٍ في الأوساط الاقتصادية والمالية، وبالتالي السياسية. هذه الشبكات احتضنت تروتسكي ووفرت له ظروفاً معيشية مرفهةٍ خلال فترة إقامته في برلين وباريس ولندن ونيويورك خلال فترة التحضير للثورة ضد الحكم القيصري في روسيا. كما أن جزءاً لا بأس به من المساعدات المالية واللوجستية والإعلامية التي قدمتها تلك العواصم الغربية إلى البلاشفة كان من شأنها أن تُعزز مكانة تروتسكي في الأوساط الشيوعية الإنقلابية. فما أن انتصرت الثورة حتى تولى تروتسكي مباشرةً مسؤولياتٍ عُليا إلى جانب لينين كان أبرزها وزارة الدفاع على الرغم من كونه مدنياً وقليل الخبرة في الشؤون العسكرية. فأسهم من موقعه الحكومي هذا بفعاليةٍ في تدمير بنية الجيش القيصري وفي تفريغ خزائن الاحتياطي من الذهب وشحنها إلى الولايات المتحدة وألمانيا ونهب كمياتٍ هائلة من محتويات المتاحف الوطنية الروسية. وفي هذا المجال  تحديداً أمر تروتسكي بتعيين زوجته مشرفةٍ عامةٍ على المتاحف ومجوهرات الأسرة القيصرية من دون أن يكون لها أي خبرة في هذا المجال. وشارك في عملية النهب هذه زوجة سفير الولايات المتحدة في روسيا السيدة بوست. كانت هذه مرحلة النهب الكبير والسريع لبعض ممتلكات روسيا بما يشبه ما حصل خلال فترة التسعينات من القرن الماضي أيام حكم بوريس يلتسن، أول رئيسٍ لدولة الاتحاد الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وفي الفترتين السالفتي الذكر جرى بيع التحف، ومنها الأيقونات العظيمة بأسعار أقل من بخسة.


طبعاً كان الإجراء الأول الذي اتخذه تروتسكي هو الكشف عن الاتفاقية الثلاثية موضوع بحثنا أي اتفاقية سازونوف – سايكس – بيكو، وبالتالي إعلان انسحاب روسيا من هذه الاتفاقية فصارت تُعرف باتفاقية سايكس – بيكو معطوفاً عليها وعد بلفور الذي تزامن مع الثورة البولشيفية. هذه عُرفت بثورة أكتوبر 1917، وذاك أي الوعد، في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر 1917. مدهشٌ هذا التزامن أليس كذلك؟!...عقولٌ شيطانية متوحشة تُخطط وفي أيديها أكثر من مبضعٍ يقص ويُمزق في الخرائط والحدود والشعوب. بالإذن من الذين لا يتقبلون وجود نظرية المؤامرة.


الوعد الروسي القيصري


وفي العودة إلى وعد بلفور المشؤوم، فلقد سبق لنا أن أشرنا إلى أن هذا الوعد لم يكن بريطانياً صِرفاً بل كان بريطانياً – فرنسياً – أميركياً "راجع تحولات مشرقية العدد رقم 10 تاريخ أيار 2016 بمناسبة الذكرى المئوية لإتفاقية سايكس – بيكو". إن جذور الوعد معقدةٌ جداً، منها ما هو سياسي ومنها ما هو ثقافي – ديني – سياسي. الجذور السياسية روسية قيصرية تعود إلى أواسط القرن الثامن عشر. حدث هذا في زمن الامبراطورة الروسية الشهيرة كاترين الثانية، وهي من أبرز ثلاثٍ اعتلوا العرش القيصري في تاريخ روسيا قبلها كان إيفان الرهيب وبطرس الأكبر. لقد شعرت الإمبراطورة كاترين الثانية، الملقبة بكاترين العظمى، أن اليهود يعيثون فساداً في مملكتها وقد يتسببون لها بمشاكل داخلية ربما تُهدد مناعة دولتها أو حتى تقضي عليها. فطلبت إلى الرجل الوحيد الذي كان يحظى بثقتها المطلقة، وهو الماريشال بوتمكين، بأن يجد وسيلةً للقضاء عليهم أو في أحسن الأحوال للإجهاز على قوتهم المتنامية. والمعروف أن بوتمكين الذي عرفته وهي في ريعان صباها وكان شاباً في مقتبل العمر فعشقته وعشقها ونمت بينهما ثقةٌ لا حدود لها. وفي الوقت نفسه كانت كاترين تُبدل العشاق كما تُبدل أزياءها مثلما هو كان يبدل النساء ولا يرف له جفن. كانت مزاجية إلى أقصى الحدود وكان هو كذلك وتوصلا إلى اتفاق بأن يكونا صديقين حميمين يحترم كلٍ منهما الحياة الخاصة للآخر. صار هو صديقها الوحيد وأمين سِرها وكذلك هي بالنسبة إليه الصديقة الوحيدة وأمينة سره. تلجأ إليه حين يتطلب الأمر قراراً دقيقاً وحساساً وخطيراً. وكان يَصْدِقَها.


بعد بحثٍ وتدقيق ودراسة متأنية توصل بوتمكين إلى قناعة مفادها أن اليهود في روسيا باتوا متجذرين ومؤثرين لدى القيادات وحكام المناطق والأقاليم في المملكة بحيث أن أي ضربة توجه إليهم قد تعطي مفعولاً عكسياً ليس لصالح ملكها. فاقترح عليها إغراءهم بالرحيل إلى فلسطين، بهدوء وتفاهم بحيث يشكلون مستقبلاً رأس جسرٍ للنفوذ القيصري الطامح بالحضور المؤثر في "المياه الدافئة". طبعاً وقعت أحداثٌ عدة حالت دون تحقيق المشروع هذا بشكل متكامل.


وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر وعلى أثر اجتياح ابراهيم باشا المصري لأجزاء واسعة من بلاد الشام ووضوح نوياه بالوصول إلى الآستانة دخلت معاهدة الدفاع المشترك التي كانت مبرمة ما بين السلطنة العثمانية والقيصرية الروسية حيز التنفيذ وتقدم الأسطول الروسي إلى مضائق البوسفور والدردَنيل للمشاركة في حماية عاصمة السلطنة. شكل ذلك نذير خطرٍ بالنسبة إلى بريطانيا التي كانت تحذر من وصول الروس إلى "المياه الدافئة" ودعوا إلى مؤتمرٍ رباعيٍ في لندن ضم إلى جانب المملكة المتحدة كلٍ من روسيا وبروسيا والنمسا حيث توصلوا إلى حلٍ لهذه الأزمة يقضي بتراجع جيش ابراهيم باشا وعودته إلى مصر مقابل انسحاب الأسطول الروسي من المضائق العثمانية على أن تحصل روسيا من السلطنة على امتيازات لحماية الكنيسة الأورثوذكسية في الأراضي المقدسة في فلسطين ويحصل عرش محمد علي في مصر على المُلك بالوراثة. وهذا الاجتماع الرباعي الذي عُقد في لندن استثنى فرنسا التي كانت مؤيدة لـ محمد علي ونجله ابراهيم. وثمة تزامن ذا دلالات استراتيجية خطيرة بين هذا الحدث وحدث آخر حصل في تلك السنة وهو افتتاح قناة السويس في 15 تموز 1940 على يد الفرنسيين الذين كانوا قد جمعوا المال ومولوا شق قناة السويس وأشرف المهندس الفرنسي الشهير فرديناند دي لسبس على تنفيذ المشروع. وبالنسبة إلى الإنكليز أتى شق القناة بمثابة فرصة عظيمة لهم تُسهل التواصل مع البلاد التي شكلت المصدر الأكبر لثروتهم بحيث أسموها "درة التاج البريطاني"..بلاد الهند. فكيف لا يحاولون المستحيل لتلافي وصول الروس إلى "المياه الدافئة"؟...


هرتزل الأنغليكاني


وأما الجذور الثقافية – الدينية – السياسية للوعد فهي انكليزية، بدأت في القرن السابع عشر مع كتابات القس الأنغليكاني، من أصلٍ يهودي، جون بنيان الذي شكل مجيئه إلى فلسطين ومكوثه فترة من الزمن في القدس طليعة رحلاتٍ متتالية إلى الأراضي المقدسة. ومن أبرز نتاج بنيان في هذا المجال كتابه الذي دَون مخطوطته الأولى أثناء إقامته في القدس وعنوانه "رحلة الحاج" وتلا ذلك عدد من المؤلفات لـ بنيان انصب معظمها على وجوب اهتمام الإنكليز بفلسطين كبلاد تحتوي على جذور اليهود. وكتاب "رحلة الحاج" سرعان ما انتشر وطُبع مراتٍ عدة وصار الأكثر مبيعاً في بريطانيا بعد كتاب العهدين القديم والجديد. وصارت المؤلفات تصدر في هذا الاتجاه مستلهمة من الدرب الروائي والتنظيري الذي شقه هذا القس الأنغليكاني. فنشأ ما يشبه التيار الديني الثقافي على خطى بنيان. وراح بعض الوجهاء اليهود الإنكليز، أو من هم من أصل يهودي وصاروا أنغليكان، يتحركون في اتجاه الحديث عن أهمية إقامة مملكة "إسرائيل" على أرض فلسطين، ولمع في هذا المضمار اسم منظرٍ، أنغليكاني من أصل يهودي، يُدعى إدوارد بيكر ستيث الذي راح يكتب وينشر وينشط داعياً إلى تشجيع الرحلات إلى الشرق لمن أسماهم بـ "بني إسرائيل" بقصد تشييد "مملكة إسرائيل" على أرض فلسطين معتبراً أن ذلك سيمهد الطريق للمسيح بالعودة إلى الأرض وجعل العالم كله يعتنق المسيحية على المذهب الأنغليكاني، أي المسيحية التي يتزعمها العرش البريطاني، أي الامبراطورية. هنا بدأت طلائع الوصل ما بين الكتابة الثقافية الدينية مع السياسة. إن دور بيكر ستيث هذا كان فاعلاً جداً في شق درب الاجتهاد السياسي في الشأنين الثقافي والديني الأنغليكاني وبث سمومه بدهاءٍ شديد مستقوياً بسياسيٍ انكليزيٍ بارز، ذي جذور يهودية قديمة، هو اللورد شافتسبيري ذي المكانة المرموقة في العهد الفكتوري. وكان بيكر ستيث يعمل كمستشار عند اللورد. كان هو العقل المفكر لـ اللورد وأقنع معلمه بالفكرة الصهيونية بحيث أن الأوساط السياسية في بريطانيا في آخر القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين أطلقت عليه لقب هرتزل الأنغليكاني. أي حين يذكرون اسمه يقولون أنه هرتزل الأنغليكاني تيمناً بثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة. فاللورد هذا هو رجل سياسة وعزز الترابط ما بين الشأنين الديني والسياسي بحيث يكون الشأن الديني بوصلة تُبرر المخطط السياسي وتعطيه بعداً "إيمانياً" ويُروى أن ذاك المستشار هو الذي كان يكتب المقالات التي تُنشر في الصحافة الإنكليزية باسم اللورد وتشرح الأهمية  الاقتصادية التي يمكن لبريطانيا أن تحققها من خلال الإستيلاء على الأراضي المقدسة في فلسطين. ويعود إلى اللورد هذا الفضل الكبير في إعطاء مشروعية للدعوات التي كان يُطلقها في هذا الاتجاه، في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر المتمول اليهودي القوي موسى مونتيفيوري ذي الصلة الوثيقة جداً بعائلة روتشيلد. هؤلاء وأتباعهم كانوا يملئون الصحافة في القرن التاسع عشربكتابات في هذا المضمار فالتحق بهم عددٌ من الكُتُّاب الرحالة إلى فلسطين مثل الكاتب الشهير مارك توين وغيره. وبذلك يكون الطرح السياسي قد تسلل عبر الأدب والطرح الديني تسلل إلى السياسة دائماً من بوابة الأدب.


أُكذوبة وعد بونابرت


ثمة جذور سياسية أخرى مصطنعة وغير صحيحة تتعلق بإعطاء اليهود وعداً بوطن لهم في فلسطين قبل وعد بلفور. يرجع هذا إلى أكثر من مئةٍ وثمانِ عشر سنة من وعد بلفور أي إلى العام  1799. في ذلك العام يُقال أن نابليون بونابرت بعد أن احتل مصر وتوجه  شرقاً مستهدفاً احتلال بلاد الشام والوصول إلى الآستانة وحاصر الجزار في عكا، يقال أنه راسل اليهود فيها وكانوا قلّة قليلة وأعطاهم وعداً مفاده أن انتصار فرنسا وسيادتها على سوريا الطبيعية سيسمح لها بإقامة مملكة "إسرائيل" على أرض فلسطين. ولكن لا يوجد أي أثر يثبت أن هذا الوعد قد صدر فعلاً عن بونابرت. وفي اعتقادي أن الإنكليز كانوا خلف هذه الرواية المختلقة. كيف؟


عندما قام بونابرت بمحاصرة عكا سارع الإسطول الإنكليزي إلى مساندة العثمانيين ضد بونابرت لأنهم كانوا يريدون التخلص من هذا الجنرال الفرنسي، ابن الثورة الفرنسية، المعادي للعرش البريطاني وصاحب الطموح الذي لا يعرف حدوداً. فهم من جهة ساندوا السلطنة العثمانية واختلقوا رواية الوعد البونابارتي لليهود إمعاناً منهم في تحريض السلطنة العثمانية ضد الفرنسيين على اعتبار أن بونابرت كان يهدد الباب العالي ويريد أن يستولي على الأراضي التي كان  يعتبرها السلطان من ممتلكاته وخصوصاً أراضي فلسطين التي تحتضن القدس التي بدورها تحتضن المسجد الأقصى كيف لا والسلطان هو أمير المؤمنين وخليفة المسلمين. الترويج لهذا الوعد لا يعني مطلقاً بأن هذا الوعد قد صدر فعلاً إذ لا يوجد أي أثر له.


وعلى الرغم من أن من مجمل هذه التعقيدات ومن قوة الدفع نحو إصدار الوعد المشؤوم غير أن ثمة عقبة كانت تقف في سبيل إصداره تمثلت بمنابر يهودية انكليزية قوية ذات تأثير داخل دوائرالقرار في الحكومة البريطانية كانت ترفض الفكرة وسبق لنا أن أشرنا إلى ذلك في العدد العاشر من تحولات مشرقية. وهنا المفارقة الكبرى والأساسية. من هذه المنابر القوية البأس والمسموعة الكلمة شخصيات من أمثال السيّر إدوين مونتاجو الذي كان وزيراً في الحكومة البريطانية مسؤولاً عن إدارة بلاد الهند المحتلة من الإنكليز، والذي قام بنشاط كبير لقطع الطريق أمام إصدار الوعد ذاهباً إلى حد اعتبار أن هذا الوعد يعكس توجهاً عنصرياً معادياً للسامية من قبل الحكومة البريطانية التي ستجعل من اليهود محرقة إن هي شكلت منهم القاعدة العسكرية المنوي إقامتها في فلسطين باسم دولة "إسرائيل". ثم نشر بتاريخ 23 آب (أغسطس) من العام 1917 مذكرة تحمل عنوان "مذكرة تتناول العداء للسامية التي تتسم بها الحكومة البريطانية". وإلى جانب مونتاجو وقف يهودي آخر يدعى لوشيان وولف وهو المستشار الرسمي للحكومة البريطانية للشؤون اليهودية أي أنه الرجل المفترض به أن يكون صاحب الكلمة الفصل في كل ما له علاقة بالشؤون اليهودية في السياسة الإمبراطورية البريطانية. وإلى جانب هذين المنبرين وقف رجل أعمال بارز يدعى كلود مونتيفيوري وهو ابن شقيق موسى مونتيفيوري سالف الذكر. هؤلاء اليهود الثلاثة قادوا، من مواقعهم الحكومية والاقتصادية القوية، حملة التنديد بالحركة الصهيونية وبتجاوب الحكومة البريطانية مع طلبات هذه الحركة.


بطبيعة الحال، إن هذا التيار اليهودي، وخصوصاً قادته الثلاثة آنفي الذكر، يدركون جيداً أن ثمة قناعة في شرائح واسعة داخل مراكز القرار البريطاني تريد إنشاء هذه القاعدة العسكرية لأهدافٍ تخدم استراتيجية الإمبراطورية البريطانية بمعزلٍ عن الطموحات العقائدية للصهيونية وبالتالي فإن هذه الطموحات هي التي تستخدم "القضية الصهيونية" وليس العكس هذا على الرغم من التزاوج الذي حصل ما بين مصلحتي الصهيونية والإمبراطورية البريطانية. فعلى هذا الصعيد يعتبر قادة التيار المعارض أن الحماس اليهودي لمشروع "مملكة إسرائيل" حماسٌ غير عاقل ويُحول اليهود إلى أداة حربية تُهدد وجودهم. بمعنى آخر إن هؤلاء القادة رفضوا كل الأدبيات التي ذكرناها آنفاً كما رفضوا كل الطموحات التي كان قد تقدم بها سياسيون بريطانيون مثل ديسرائيلي واللورد بارلمرستون وغيرهما خصوصاً وأن الأخير أي بارلمرستون لم يكن يُخفي أمام أوساط القرار في لندن همه في أن يكون لبريطانيا "مْلكية استراتيجية" في هذه المنطقة من العالم وأن تشجيعه للصهيونية لا يعدو كونه إجراءٌ يخدم مصالح الإمبراطورية وبالتالي فإن آخر اهتماماته هو البعد العقائدي الذي يتم الترويج له. ربما كان بارلمرستون يهدف من خلال هذا البوح تبرير المغالاة التي أظهرها بخصوص ضرورة هجرة اليهود إلى فلسطين والتي بلغ أوجها في تلك الرسالة الشهيرة، التوجيهية، التي كان قد بعث بها إلى سفيره في اسطنبول جون بونسنبي بتاريخ 11 آب(أغسطس) 1840 والتي جاء فيها:


" إنه من الأهمية بمكان بالنسبة إلى السلطان أن يُقدم على تشجيع اليهود على العودة والإستقرار في فلسطين خصوصاً وأن الثروات التي سيحملونها معهم معدةٌ لأن تزيد من مداخيل ممتلكات السلطان. كما أن الشعب اليهودي في حال عودته تحت إشراف وحماية السلطان، وبناءً على رغبته، سوف يسهر على مراقبة كل التحركات المعادية التي من الممكن ان يُقدم عليها محمد علي أو خليفته (...) ومن واجبي أن أُعطي سعادتكم التوجيهات الصارمة القاضية بأن تقنعوا الحكومة العثمانية بوجود مصلحة لها في تبني الوعد المقطوع إلى يهود أوروبا بالعودة إلى فلسطين". هذه الرسالة تُعتبر من أقوى وأوضح التوجيهات السياسية الصادرة عن السلطات البريطانية والتي لقيت على ما يبدو اعتراضات من بعض الأوساط الإنكليزية المعادية لليهود مما اضطر اللورد بارلمرستون بأن يبوح بما باح به أمام دوائر مغلقة كما ذكرنا في السابق.



بن غوريون:"سرقنا أرض فلسطين"


وسط هذا الجو العام ظهر شيء من التردد عند الحكومة البريطانية. وشعرت كلٍ من واشنطن وباريس بهذا التردد. صارت باريس تضغط دبلوماسياً على لندن بشكل مزايدةٍ صهيونية. أما واشنطن فاتخذت ضغوطها طابعاً أكثر خطورة بكثير إذ راحت بيوت المال تستهدف الجنيه الإسترليني مما اضطر بلفور للسفر إلى العاصمة الأميركية. وخلال إقامته هناك ومباحثاته مع إدارة الرئيس ويلسون لُوحظ تزايد في هذه الضغوط وأفهمه المسؤولون الأميركيون بأن إصدار الوعد أمرٌ مُلح وبأن مصير الاقتصاد البريطاني بات مرهونٌ بهذا الأمر. وكان أكثر المسؤوليين الأميركيين وضوحاً القاضي برانديز، الصهيوني المتشدد والقريب جداً من الرئيس ويلسون الذي كان قد عينه قاضياً في المحكمة العليا. لقد اجتمع بلفور مرتين مع برانديز وتبلغ الرسالة بوضوحٍ مُطلق. فقفل عائداً إلى لندن وعرض التفاصيل كلها في وقتٍ كان فيه الاقتصاد البريطاني يمر بظروفٍ صعبة جداً لا تسمح بتعريض العملة الوطنية لمزيدٍ من الأهوال بل لكارثة حقيقية. فحزمت الحكومة أمرها وأعطت تكليفاً لبلفور بمراسلة اللورد روتشيلد وإصدار الوعد.



بلفور، كما بارلمرستون كان قومياً انكليزياً واهتمامه بالموضوع الصهيوني كان من منطلق ما يراه مصلحة لبريطانية. إنه شخصية استعمارية متوحشة ككل الإستعماريين المتوحشين ولعل من أبلغ ما يعكس توحشه تصريح شهير له صدر بتاريخ 11 آب (أغسطس) 1919  جاء فيه:


"نحن، في فلسطين، لسنا في صدد أو في وارد اللجوء إلى استجماع أماني ورغبات السكان الحاليين للبلاد... إن الصهيونية، سواء أكانت محقة أم مخطئة، جيدة أم سيئة، فإنها مجزرة في التقاليد القديمة، وفي الاحتياجات الراهنة، وفي الآمال المستقبلية التي تفوق بأهميتها رغبات وأماني السكان العرب المقيميين على هذه الأرض القديمة والذين يبلغ عددهم 700 ألف، كما تفوق بأهميتها الأضرار التي تلحق بهم".


ويدور الزمن دورته وتستقر فلسطين الضحية الشهيدة في النكبات المتتالية. ولعل أوضح وأنصع ما يشهد على الجريمة ذاك البوح – الإعتراف الذي نطق به المجرم الوحش بن غوريون أمام صديقه نحوم غولدمان مؤسس المؤتمر اليهودي العالمي وأحد الآباء الثلاثة لـ"إسرائيل" الحالية مع بن غوريون ووايزمن والذي أورد هذا البوح في كتابه الشهير بعنوان "المفارقة اليهودية.." لو كنتُ فلسطينياً لرفضت كل الحلول. لقد سرقنا أرضهم".




آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net