Tahawolat

الاشتغال على احتمالات النص الشعري تتصدر المشهد. في الشام والعراق ولبنان، هناك تجريبٌ جريء يقوده شباب يحاولون اختراق المعجم وتقنيات الكتابة القديمة عبر طقوس ومفاهيم تبدو غريبة للوهلة الأولى، لكنها تنمُّ عن حجم الضيق الذي يعصف بالقصائد وهي تحاول التحرّر ممن يُفترض أنهم حرّروا النصوص سابقاً مثل السياب وأدونيس والماغوط. هذه الطقوس والأفكار تظهر غير مألوفة من الناحية الفكرية أيضاً، لكنها تطرح وجهات نظر تحميها مشروعية البحث والتجريب على أمل حدوث انفجارٍ ما في القصيدة المنتظرة التي لا يعرف شكلها أحد!. في هذا الفضاء يأتي تأسيس مجموعة "ميليشيا الثقافة" في بغداد وصدور كتابها الأول حاملاً عنوان "الشعر في حقول الألغام"، مناسبةً للحديث عن احتمالات النص الشعري في هذه المرحلة، حيث استيقظت جميع الأسئلة الفكرية والأدبية وكل ما يتصل بالتنوير.


ميليشيا الثقافة، مجموعة شعراء اشتهروا منذ مدة بالعمل على تكريس التماهي بين النص الشعري وأشكال الموت السائدة في البلد، من خلال طقوس دأب أولئك الشعراء على تنفيذها عندما ذهبوا بالقصائد إلى حقول الألغام فقرؤوا الشعر أمام احتمالات الخطر، ثم فعلوها ثانية عندما كتبوا النصوص في مقابر السيارات المفخخة التي تضم خردة الموت وبقايا الدماء الناشفة على الصاج الساخن.. ذهبوا أيضاً إلى المشرحة وثلاجات الجثث في مشافي الضحايا المجهولين.. تمدّدوا على الأسرّة بين أكياس السيروم ثم انهمكوا بالتأمل ومارسوا ما سموه "التماهي مع الموت". تلك كانت ردات فعل على وجود الشعراء في أبراج عاجية تحولوا فيها إلى نخب معزولة عما يجري على الأرض، هكذا يشرحون تجربتهم عندما وصلوا أخيراً إلى قراءة الشعر وكتابته في الطائرات الحربية والحوّامات التي تحمل احتمالات مختلفة للموت هي الأخرى!. الملفتُ في كل هذا، أن الموت بمفهومه العادي ظهر متعدد الأساليب والأدوات ويملك الكثيرمن أدوات الفتك والدمار، بينما القصيدة تبحث عن تقنيات جديدة خارج السياق!. الموت تمكن من المجاهرة بأهدافه ثم تفنن في الوصول إليها، بينما القصائد بقيت مترددة تشحذ أدواتها ولا تقترف ما يُفترض أن ترتكبه منذ عدة سنوات من الحرب الدائرة في المنطقة!.


يقول الشاعر العراقي الدكتور مازن المعموري، وهو عرّاب "ميليشيا الثقافة" في بغداد، إننا جميعاً مشتركون في صناعة الشرّ، بل نحن نحوّله إلى مبررات يومية عندما نحمل سيوفنا لنقتل تحت شتى الذرائع.. يضيف: "كل مظاهر الشر مثل السرقة والإهانة والاغتصاب والاحتيال على الآخرين أصبحت مقبولة بشكل أو آخر..".


يعوّل المعموري على الشعر من أجل إشهار الفضيحة وتعريتها ومحاولة التعبير عنها بجرأة دون تردد، لكن ذلك لن يتم دون التماهي مع الموت الذي يجري كما يعتقد. حين يظهر كل شيء ملطخاً بالدم، لابد للقصيدة من هدم المعبد وإعادة الرشد للعقول والأجساد المصابة بالزهايمر. في هذه العملية من الذهاب الطوعي إلى حقول الموت وأدواته الكثيرة، يمكن للقصيدة أن تنهمك في حل لغز ما يجري عبر التماهي معه ومحاولة تفكيكه من الداخل، والهدف دائماً شكلٌ جديد في الكتابة الشعرية لا يبدو مصاباً بالفصام، يقول المعموري: "الشعر، برأينا، هو الفن القادر على فضح الإبادة التي نتعرض لها في هذا الموقع من العالم المظلم بكل تفاصيله المؤلمة، وقد تهيأت لنا سبل الوصول إلى الطائرات الحربية للتصوير، فلم نترك الفرصة تفوتنا، ولكن دون أن نصور المكان العام لأن ما يهمنا هو الطائرة كجسد وآلة للقتل والتدمير، الطائرة هنا هي المكان الذي نستطيع به أن نقدم بديلاً استعارياً للموت في عرض شعري جديد ينتقل فيه الخطاب من الكتابة إلى الفعل، بما أن التواصل الافتراضي ممكن التأثير والتأثر بشكل سريع ومدهش، لسبب جوهري يكمن في أن وسائل الاتصال حولت العالم إلى صورة، ونحن أكثر الكائنات تأثراً بالصورة والفيلم وغيرها، وهكذا يكون على الآخر المتلقي أن يمتد معنا ليصبح جزءاً من اللعبة الثقافية وتمرير الخطاب ضد الحرب والموت إلى كل أنحاء العالم".


مجموعة "ميليشيا الثقافة" العراقية تضم الشعراء "مازن المعموري، كاظم خنجر، علي ذرب، محمد كريم"، وقد سبق للمجموعة أن ذهبت إلى معظم حقول الموت الحقيقية في بغداد وضواحيها ليحط بها الرحال مؤخراً في طائرات الهليوكوبتر التي تقدم مقترحاً مختلفاً للموت هي الأخرى. اللقطة هنا أن يكتب الشاعر ما تقوله الأرض بالذهاب شخصياً إليها: أرض المعركة.. أسواق الجثث.. مشافي المجهولين. ذلك أن عجزاً كبيراً يطبق الخناق اليوم على النص الشعري بسبب عزلته عما يجري أو عدم تمكنه من اختراع معجم جديد يتطابق مع الهول الذي نشاهده بأم العين!.


يقول المعموري: "الحاضر تجاوز كثيراً من مدركاتنا القديمة، من جهة علاقتنا بالمكان الذي نعيشه، فما قدمناه من فعاليات سابقة يضع الشاعر العراقي والعربي أمام مساءلة من نوع خاص، لأننا مطالبون بابتكار أشكال جديدة للتعبير والقول وإثراء الأرض التي بدأت باليباس، ولهذا فإننا نقترح أن نكتشف أنفسنا في ضوء واقعنا العياني كما هو دون تزييف، ونضع أنفسنا أمام تساؤل خطير، هل نحن فعلاً أصحاب حضارة إنسانية علمت البشرية كل شيء؟".


في العودة إلى التساؤل الرئيسي حول تركّز إشكالية النص الشعري في التقنيات والأساليب أم الأفكار والمفاهيم؟، تبدو الإجابة مرتبطة جداً بماهية النصوص التي كتبها شعراء "الميليشيا الثقافية" في ذهابهم إلى حلبات الموت المختلفة، بدءاً من مدافن السيارات المفخخة إلى حقول الألغام وثلاجات الجثث في المشافي، وصولاً إلى الطائرات الحربية التي كانت آخر ميدان للفجيعة، في هذا الميدان كتب الشعراء نصوصاً ثم قرؤوها تحت مدافع الأباتشي ومراوحها، ثم جلسوا خلف المقود كي يكتشفوا منسوب الموت وهو يظهر على رادارات المقتولين. في تلك النصوص، نقرأ موضوع التماهي مع الموت، وربما التنافس معه في تصوير الفجيعة والهول، سنتبارى في تقطيع الأوصال، تقولُ القصائد وهي تغرز السكاكين في جبهة المعجم وتحاول البحث عن مفردات تصفع القارئ بشكل قوي!. يقول كاظم خنجر في قصيدته التي كتبها وقرأها في الطائرة الحربية:


"بأصابع مقطوعة نحصي ندوبنا

بأصابع مقطوعة نرفع الإسمنت والحديد عن الموتى

بأصابع مقطوعة نقطع الطريق

بأصابع مقطوعة نقطع الأصابع

بأصابع مقطوعة نمسح الرصاص عن صدورنا

نحن القتلة الصغار

نحد السكاكين

ونضع الخطط

ونتابع الضحايا

لأننا قتلة صغار

غالباً ما نلبس القفازات

ندفن الأدلة

نطعن في الخاصرة

نتظاهر بأننا نجيد الحساب

فنحن قتلة صغار

ننام على التراب

ونأكل بالأيدي

ونغطي أطفالنا عند النوم

نحن القتلة الصغار".


النصوص التي تمت كتابتها في الطائرات الحربية، تبدو وكأنها تتنافس في تصوير الموت في شناعاته الكبرى، إلى درجة يبدو فيها المعجم وكأنه ملطخ بالدم، فمن جهة المفردات والصور، باتت القصيدة حقول موت مسفوحة تحاول ضرب الرقم العالي في "ريختر" الجثث والضحايا والمقتولين.. إلى ما هنالك من ألفاظ تتبارى في كشف الجراح وتعريضها للشمس.. يقول مازن المعموري: "إننا نشهد اليوم تهجيناً في ثقافة المنطقة، بسبب التداخل التقني بين التواصل الافتراضي وتقنيات الأسلحة الحديثة التي انتقلت من استخدام السيف إلى الإلكترونيات". في ضوء هذه الرؤيا، كانت قصيدة محمد كريم تحت عنوان (REMOTE CONTROL) التي تبدو كمحادثة بين أطراف يمتهنون الموت بأشكال مختلفة، لكنه هنا أدخل الألفاظ الأجنبية في إشارة ربما إلى القتلة الغرباء وهم يحولون المشهد إلى لعبة "أتاري"، يقول كريم:


R: Kill him again

E: هراء، الجنة لنا وحدنا

M: نعم سيدي

O: عراقيونَ بلا شهادةِ وفاة

T: تباً للقطة التي تقلب الحاوية كلّ صباح

E: إدخالُ سيّارةٍ مفخخةٍ ولا إدخال عبوة ويسكي

C: حاول التحدّث بشيءٍ من الطائفية وأنتَ تؤدي كلمة الخميس

O: فسادي هو فسادك

N: في مقهى رائد المجرم النادل يقدّمُ أصابع الديناميت على رأس الأركيلة

T: ذبحُ الدجاجِ إعلانٌ لتنظيم داعش".


في قصيدة مازن المعموري التي كتبها أيضاً في الطائرة الحربية وقرأها هناك، يظهر الاستقرار في النص مع مورثات الكتابة الشعرية القديمة، لكن المعموري يجيد الاشتغال على الصورة والبانوراما العامة للنص الذي لم يقطع جذوره إنما حاول أن يخضع الواقع إليه، فالسؤال الكبير في هذا التجريب يتعلق أساساً بماهية الشعر ودوره مثلما هو متعلق أيضاً بشكله وأساليبه، هي المشكلة في المعنى أو تقديم المعنى؟ يكتب المعموري:


"لا ترحلي بعيداً أيتها الطائرة

الأولاد مازالوا يلعبون في ساحة المدرسة

لا ترمي قنابلك على البيوت

الزوجات يتقدمن في السن سريعاً

عندما يسمعن صفير الأجنحة

والبطون التي تحمل أجنة الحرب تتحول إلى أسلاك شائكة

لا ترحلي بعيداً فإن زجاج واجهتك متسخ بالدم

انتظري قليلاً ريثما أحلّ وثاق الصواريخ

من بطنك الملتهبة بشغف النار

هناك ثقب في الخزان

ربما يكون حلمة مقطوعة

من فم طفل

انتظري قليلاً ريثما أمسح بلادة الطيار

وهو يكنس ملابس الحرب

ويرحل إلى بيته في آخر الشارع

لا تحملي الشر الذي فينا

فالحديد سوف يحترق

بينما تظلين في ساحة النفايات مجرد خردة

تبكين على زهو الماضي

الشر فكرتي

فلا تبرحي صوتك القديم

لأن المراوح بلا قلب

والمحركات فكرة الجنس المعلق بلذة الموت

دعي الرطوبة تتغلغل في أسلاك عقلك

وسوف تعيشين لذة الكسل".


مبارياتٌ في مكاشفة الهول، أم هي منازلات تحدٍّ في التجرؤ على الموت وتحمّل تبعاته إلى الحدود القصوى، قصائد تبدو وكأنها خارجة للتوّ من طزاجة الجراح، وهي عملية قصدية كما أسلفنا، أراد منها الشعراء تقديم ما يسميه المعموري: "المشاهد السادية للذة تمزيق الجسد والتلذذ بالعدم".. يقول علي ذرب في قصيدته:


"بوسعكم الآن تقطيعَ أصابعي فوقَ إطار فارغٍ.

بوسعكم حشوي بنداءاتٍ تحبونها.

بوسعكم أن تقلبوني على رأسي كصفيحةٍ

ليخرجَ مني ما تبقى من معنى

بوسعكم أيضاً سحب صُرتي إلى بالوعةٍ

أو النفخُ في حلم، قدمي عالقة فيه

لأنني أخافُ منكم.

الدخولُ إلى فمِ قاتلٍ

يحتاجُ منكَ أن تكون كأنثى حتى وإن كانت مُشعرة

أن تتأكد أنه لن يجدك عكازاً حين يُصاب لُعابه بالعمى

ألا تتخذا ساقيكَ شكل خيطينِ

لتُمسّد بقايا اللحم العالق بين أسنانه

وقبل ذلك عليك أن تشتري لأخيك الصغير مُسدساً بلاستيكياً

ولأبيك نظّارة شمسيةً أكبر من وجههِ

وأن ترسم عيناً على ورقةٍ وتتركها على سريرِك

كي تحدقَ في غيابكَ.

المرآةُ التي تعرضت لفتوحاتِ هُدنةٍ،

كانت قد وقعت في هيئتي لأسبابٍ مفروزةٍ بعنايةٍ

تضعُ الآن في فمي إشارة الالتباس

وتدفعني لانتهاكِ أقلية التساؤل

بأغلبيةِ العنادِ الناعمِ.

على السطوحِ وجوه مغسولة بتهدمِ الحناجرِ

يستطيعُ الجسمُ ضمَ مخاوفه

حين تتدفقُ اللعناتُ من ثقبٍ يتوجُ خزانةً

لكنه يفرزُ التماسهُ فوقَ طاولاتٍ مقلوبةٍ

حيث العيونُ هناك

خيوطٌ يتسلقها النملُ لأكلِ الأفكار.

كانت النهايةُ

حبلُ غسيلٍ ودمٌ قليل

على حذاءِ زائرنا

بينما كان عالياً ضحكُ المارقين".


نستطيع اليوم الحديث عن اشتغالات حثيثة على صعيد النص الشعري تتركز في الشام والعراق ولبنان بشكل أساسي، ربما لأن الأحداث الخطيرة تجري في هذه الدائرة، أو لأن هذه المنطقة كانت أساساً معقلاً لتطوير القصائد واختراعات الحداثات الأولى، لكن ما لا يختلف عليه أحد هو الضرورات التطويرية للقصيدة إلى حد العمل على نسف المعجم من أساسه من أجل كتابة نص خارج الإطار والكادر الذي صار مرسوماً سلفاً!. التمايزات بين جغرافيا الشعراء وخصوصيات التجارب خلقت نوعاً من الاختلاف في اكتشاف الحلول، ومثلما قال الشعراء العراقيون المعروفون بميليشيا الثقافة، بضرورة الذهاب إلى المواجهات الحتمية مع الموت ومنازلته في اختراع التعابير والصور، فإن آخرين اشتغلوا على المفهوم وأسلوبية التعبير كفكرة قبل أن تكون تقنيات في الكتابة.. كل هذا يضع النص الشعري أمام احتمالات كثيرة تختزلها مقولة إن نص التفعيلة صار قديماً، ونص النثر صادر قديماً، ونحن الآن أمام احتمالات تقترف كل شيء.. حتى تصل!.


 


آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net