الدعوة إلى وحدة القوى التقدمية العربية ليست جديدة. فلقد تكررت مرات كثيرة على مدى العقود الأربعة أو الخمسة الماضية وإن بصياغات مختلفة مثل: وحدة القوى القومية، وحدة قوى اليسار العربية، وحدة القوى الناصرية الخ... كانت الدعوة إلى هذه "الوحدات" ترتفع عند كل هزيمة أو نكسة أو مصيبة تحل بالأمة العربية، وهذا دليل على مدى الحاجة لهذه الوحدة من أجل مواجهة التحديات والأخطار والمصائب والنكسات التي تتعرض لها أمتنا وأوطاننا. غير أن الوحدة هذه، وبصرف النظر عن مسمياتها، لم تتحقق مرة، بل على العكس من ذلك فإن القوى التقدمية كانت كل مرة، وبعد فشل محاولات الوحدة، تتجه إلى المزيد من الانقسام والتشرذم والضعف. هذا لا يعني أن الهدف الذي كانت تدعو إليه القوى التقدمية طوباوي وغير قابل للتحقيق، فلماذا فشلنا في الماضي؟ وهذه المرة، ومن أجل عدم تكرار الفشل ما الذي علينا أن نعمله لكي ننجح؟
برأينا أن السبب الأساس للفشل كان غياب المشروع السياسي العربي الذي يمكن أن تنضوي فيه القوى التقدمية، وتحدد من ضمنه الدور الذي يمكن أن تؤديه في خدمة هذا المشروع.
وحدة الشعار لا تكفي، ولكنها وحدة المشروع هي الأساس الذي يجب أن ترتكز عليه القوى التقدمية في سعيها من أجل تحقيق وحدتها.فما هي نقاط الارتكاز الأساسية التي يجب أن يلحظها المشروع السياسي للقوى التقدمية العربية لكي تحقق من خلاله وحدتها وتنطلق إلى تحقيق أهداف الأمة في التحرر والتقدم والوحدة؟ هذه النقاط تقع في مجال الخيارات الجيواستراتيجية قبل أي مجال آخر.
أولاً: في المجال الدولي.
منذ انهيار النظام الدولي السابق في العام 1991، يمر العالم بمرحلة انتقالية ما بين نظام دولي انتهى وآخر لم يتشكل بعد. وفي هذه المرحلة يحتدم الصراع بين تكتلات دولية عابرة للقارات. فمن جهة هناك منظمة "الناتو" والاتحاد الأوربي اللذين توسعت رقعتهما في تسعينات القرن الماضي بضم أو بانضمام دول المنظومة الاشتراكية إليهما وكذلك بعض الجمهوريات التي انفكت عن الاتحاد السوفياتي السابق. لكن، وخلال العقد الأول من هذا القرن قامت تكتلات دولية كبرى أبرزها منظمة "شنغهاي" ومجموعة "البريكس" ومجموعة "سيلاك"، وجميع هذه التكتلات تتصدى "للناتو" ولمشاريع الهيمنة الغربية على النظام العالمي العتيد في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية.
إن صورة النظام الدولي العتيد ومرتكزاته وموازين القوى والمصالح فيه تتوقف على نتائج الصراع بين التكتلات الدولية هذه، والذي يرجح أن يمتد حتى نهاية العقد المقبل.
نلاحظ في هذه الفترة سعياً محموماً من قبل العديد من الدول للانضمام إلى التكتلات الدولية المتصارعة وفق خيارات استراتيجية محددة وواضحة من أجل أن يكون لها موقع في خارطة العالم الجديد. أوكرانيا مثلا التي تسعى إلى الانضمام "للناتو"، وكذلك الهند وباكستان اللتان انضمتا مؤخراً إلى منظمة شنغهاي، ثم إيران التي سوف تكتسب العضوية الكاملة في هذه المنظمة خلال وقت قصير. ومما لا شك فيه أن الفترة المقبلة سوف تشهد المزيد من ضم أو انضمام دول أخرى إلى هذه التكتلات.
هل نلاحظ أن الدول العربية، بما فيها تلك المرتبطة بالكامل بالولايات المتحدة الأميركية، غائبة أو مغيبة عن خارطة هذه التكتلات وحتى عن تكتل "الناتو" الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية؟ ألا يشكل هذا الغياب أو التغييب دليلاً دامغاً على أن الأنظمة العربية وكذلك "الجامعة العربية" عاجزة عن تحديد خياراتها الاستراتيجية وعن إيجاد موقع لدولها وللأمة العربية في خارطة العالم ونظامه الدولي العتيد؟
بل ثمة ما هو أخطر من ذلك...لماذا لم تعمل الولايات المتحدة الأميركية على ضم الدول التابعة لها إلى حلف "الناتو"؟ هل لأن هذه الدول، في المشروع الأميركي "للشرق الأوسط الجديد"، هي دول مؤقتة مصيرها التقسيم والتفتيت وإعادة رسم جغرافيتها بما يتلاءم والخارطة الأميركية – الإسرائيلية لهذه المنطقة؟ نحاول أن نجيب بعد قليل.
إذن فإن المسألة الأولى أو نقطة الاتكاز الأولى التي يجب أن يلحظها المشروع السياسي للقوى التقدمية العربية هي تحديد الخيارات الاستراتيجية للأمة بالانضمام إلى التكتلات التي تواجه الولايات المتحدة الأميركية وحلف "الناتو"، والشروع في حوار جاد مع هذه التكتلات.
ثانياً: في المجال الإقليمي.
في الخيارات الاستراتيجية التي يجب أن يلحظها المشروع السياسي للقوى التقدمية ما يتعلق بالصراع الدائر في منطقتنا، والأهداف التي تسعى إليها القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في هذا الصراع، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية ومشروع "الشرق الأوسط الجديد". فما هو هذا المشروع؟
باختصار يمكن تحديده بالآتي: إقامة نظام إقليمي جديد يرتكز على قوى إقليمية ثلاث هي تركيا وإسرائيل وأثيوبيا. ومن أهم ضرورات قيام هذا النظام تفتيت البلاد العربية وإعادة رسم جغرافيتها على أسس طائفية وعرقية وقبلية، وذلك عن طريق إغراقها في حروب أهلية متواصلة.
في هذا المجال تلعب المنظمات الإرهابية دوراً خطيراً كأدوات في إشعال نار الحروب الأهلية.
تتولى الدول النفطية في الجزيرة العربية والخليج مهمات تمويل وتسليح ورعاية هذه المنظمات وتوفير الغطاء السياسي و "الديني" لها.
بعد ذلك ومن أجل إسباغ "الشرعية" على النظام الإقليمي هذا يجرى توظيف "الإسلام" كغطاء شرعي له. "الإسلام الإخواني" تارةً بزعامة قطر وتركيا، والـ"وهابي" تارةً أخرى بزعامة المملكة العربية السعودية، ومؤخراً "الإسلام" الذي يتكامل تحت رايته الإخوان والوهابية في ظل التحالف الناشئ بين السعودية وقطر وتركيا.
ثمة قوى دولية وإقليمية تقاوم هذا المشروع أبرزها روسيا الاتحادية وإيران، وتتكامل معهما في الداخل العربي سوريا والمقاومة اللبنانية وفصائل من المقاومة الفلسطينية.
إن ما يجب ملاحظته في هذا المجال هو أن القوى العربية المشار إليها والتي تتصدى للمشروع الأميركي – الصهيوني لا تملك بعد رؤوية واضحة لإقامة نظام إقليمي بديل. وإذا نحن بقينا على هذه الحالة فإن الصراع بين القوى الإقليمية والدولية سوف ينتهي إلى عملية تقاسم نفوذ في الساحة العربية، وفق خارطة جيوسياسية لا يمكن التنبؤ بصورتها الآن. وهذه هي المسألة الأهم التي يجب أن يلحظها المشروع السياسي للقوى التقدمية العربية، وأن يلحظ بالتالي الدعوة إلى قيام نظام إقليمي يرتكز أساساً على الدول الآتية: مصر وسوريا والعراق والجزائر وإيران، وتعبئة الرأي العام العربي في مواجهة المشروع الأميركي – الصهيوني من جهة، ومن أجل الدفع لإقامة النظام الإقليمي البديل الذي يجب أن يكون أحد أبرز خياراتنا على الصعيد الاستراتيجي.
ثالثاً: فلسطين.
من هذه الزاوية، زاوية خياراتنا الاستراتيجية في المجالين الدولي والإقليمي، يجب إعادة تصحيح الرؤوية إلى قضية فلسطين بما هي إحدى أهم الركائز التي يقوم عليها المشروع السياسي للقوى التقدمية العربية، وإعادة تحديد خياراتنا فيها.
ثمة حقيقة بسيطة جرى تغييبها على مدى العقود الأربعة أو الخمسة الماضية وهي أن الاستعمار الغربي أنشأ دولة إسرائيل في فلسطين كأداة لفرض التمزق والضعف والتبعية على الأمة العربية، وهذه الحقيقة تؤكد مركزية قضية فلسطين في نضال الأمة العربية من أجل التحرر والوحدة.
بالتلازم مع تغييب هذه الحقيقة ارتفع شعار براق وخبيث هو "استقلال القرار الفلسطيني".
الوقائع التي توالت منذ العام 1970، وهو العام الذي ارتفع فيه بقوة هذا الشعار - وليس صدفة أنه كان العام الذي غاب فيه جمال عبد الناصر وغاب معه المشروع القومي للتحرر العربي - . قلت الوقائع وليس الاجتهادات هي التي تكشف حقيقة هذا الشعار وأهداف الذين رفعوه.
تحت هذا الشعار البراق جرى تخلي النظام الرسمي العربي عن قضية فلسطين، وترك الشعب الفلسطيني وحده يواجه ذلك الحلف الجهنمي حلف الاستعمار والصهيونية العالمية. وبذلك اختل ميزان القوى بشكل مأساوي في هذا الصراع لمصلحة إسرائيل ومن وراءها.
بعد ذلك، وبالتلازم مع هذا الشعار ارتفعت الدعوات إلى "الواقعية"، فدُفعت قضية فلسطين إلى متهات التسوية والمفاوضات مع الكيان الصهيوني، واستؤصل منها جوهرها ولبها واستبدل هدف "السلام" بهدف التحرير.
هل نتحدث عن النتائج التي أسفر عنها هذا المسار الذي جرى تمويهه بشعارات "استقلال القرار الفلسطيني" و "السلام" و "الواقعية السياسية"؟ النتائج الماثلة أمامنا بكل فجاجة ووضوح تغني عن اي حديث.
وبعد...
وظيفة "إسرائيل" لم تتغير، منذ أن "لمعت" الفكرة في ذهن بونابرت في مطلع القرن التاسع عشر. بل أنها اليوم أشد خطراً لأنها لا تستهدف تمزيق العرب وإضعافهم وإخضاعهم لسيطرة الاستعمار وحسب، ولكنها تستهدف هويتهم ووجودهم كأمة.
في المشروع الأميركي "للشرق الأوسط الجديد" تحتل إسرائيل موقع القلب بين تركيا وإثيوبيا، وهي تشكل الركيزة الأساسية في الحلف الثلاثي تركيا – إسرائيل – أثيوبيا الذي يقوم عليه هذا المشروع.
من أجل إفشال هذا المشروع والقضاء عليه يجب محاصرة إسرائيل، محاصرتها بالكامل وشل قدرتها على القيام بوظيفتها ودورها في هذا الحلف، فلا سلام و تفاوض ولا اعتراف ولا تطبيع.
محاصرة إسرائيل بالقضية الفلسطينية، كقضية مقدسة، لا تحتمل المساومات والاجتزاء وأنصاف الحلول.
لا اعتراف بجميع المواثيق والمعاهدات التي أنتجتها مسيرة "السلام" تحت شعار شعار "استقلال القرار الفلسطيني".
وعليه فإن خيارنا الاستراتيجي الواضح والثابت في هذه المسألة هو تحرير فلسطين. وهذه هي نقطة الارتكاز الثالثة في المشروع السياسي للقوى التقدمية العربية.
لذلك ندعو إلى:
أ-وضع ميثاق وطني فلسطيني يؤكد على تحرير فلسطين، وعدم الاعتراف بالكيان الصهيوني فوق أي شبر من أرض فلسطين.
ب-إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بضم كل الفصائل المؤمنة بهذا الميثاق. واستبعاد كل من يدعو إلى التفاوض والاعتراف والتنازل من عضويتها.
ج-مشاركة "الجبهة العربية التقدمية" في منظمة التحرير الجديدة، بحيث تضم المنظمة قوى المقاومة التي تناضل في فلسطين وقوى المقاومة التي تناضل من أجل فلسطين.
*الورقة التي قدمها نائب رئيس "حركة الشعب" إبراهيم الحلبي في "الندوة الدولية حول وحدة القوى التقدمية العربية" في تونس بتاريخ 24 تموز 2015.