Tahawolat

ثقافيا ؟ إنها خلطبيطة معرفية ومعلوماتية  ومواقفيةعبثية،وضعتنا في قعرها حادثة شارلي إيبدو ، اختلط الحابل بالنابل كما يقال ، حتى يخيل للمرء أننا في حالة ليبرالية فريدة ، لا تحدها حدود إلا فيما ندر وتندر، فهناك بعض من الشح المعرفي ، توازيه وفرة كبيرة من المعلومات ، وقدر كاف من المقدسات ، وركود على مستوى المصطلحات ، وكأننا صعقنا بما حصل في غزوة شارلي إيبدو وتفاجأنا الى درجتي الذهول والإستقطاب ، نشرع خطوطا حمراء هنا وهناك ، ونرسم على الرمال ما سوف تذريه الرياح ، والنسمات العليلة أيضا.


تفاجأنا ..مع أن الحادثة متوقعة تماما ، فالسوريون والعراقيون ومراسلي الصحافة الأجانب وضحايا بوكو حرام تتناهشهم سيوف التكفير والعبوات والمفخخات المقدسة، ومع ذلك هرشنا رؤوسنا متصنعين العزاء ، في استعادة نوستالجية لغزوة منهاتن ،حيث أطلق بوش الأبن نداء ، لماذا يكرهوننا ، ومن ليس معنا فهو ضدنا ، وتلقفنا مرة أخرى هذا النداء/الشعارلإنه الأقرب الى قلوبنا وعقولنا وخصوصيتنا ، فها نحن نستعين بالآخر/ الغربي / الحداثي كشاهد إثبات أن العالم لما يزل على فسطاطين ، متفقين مع بوش وبن لادن معا على رغم أنف حداثيتنا المعلنة وتقدميتنا المشتهاة .


وضعتنا شارلي إيبدو أمام استحقاق لم يرد لا في أدبياتنا ولا في ثقافتنا ،إلا لماما دفع ثمنها غاليا أولئك الذين أطلقو نداء النهضة فقمعوا شر قمع ولما يزالون وهم في قبورهم مطاردين على ما اقترفوه من تغريد خارج الفسطاط، هذا الإستحقاق الذي تم العبث به ،مواربة وتزييفا واستثناء على مدى قرن ونصف ، وصل الى ناصية شارلي إيبدو لينطلق خواء مسعورا ( إلا فيما ندر ) فبركة هائلة من الكتابات والمواقف والثرثرة ، تجانب جميعها مواجهة الإستحقاق الحقيقي ، و( وتلغبص) في وحل الكلام ، بناء على حرية لا تجرؤ على ذكرها إلا في هكذا سياقات بعيدة (جغرافيا على الأقل ) ، متئكة على شرعة لا تؤمن بها لا بل تناهضها وتعاديها ،هي الشرعة العالمية لحقوق الإنسان ، فكل مطالبتنا الإنسانية تستند الى هذه الشرعة /البدعة بما فيها مناقشتنا لحادثة شارلي أبيدو المؤسفة.


خليط عجيب من الآراء والكتابات صب معظمها في حالة الضياع المعرفي / الشعاراتي ، حيث ظهرت هذه ( المعظم )، تؤيد الطرفين عبر لفظة ( ولكن ) المتداولة جدا في التداولالثقفافي/ التراثي في أية مسألة حتى ولو كانت عابرة أو مكررة أو ممجوجة ،لذلك قيل الكثير الكثير في الموضوع ، ولم يقل أن فرنسا كجزء من العالم المتقدم ( القوي تحديدا) هي دولة استعمارية وتفعل كل شيىء للمحافظة على مكانتها هذه ، بما في ذلك الإعتداءوالإستغلال ، وهي دولة أي عكس ما هو موجود لدينا ، وغير عنصرية ولا طائفية بل قانونية وديموقراطية داخل حدودها ومع مواطنيها ، ولا تخالف قوانينها دستورها لا بالإستثناء ولا بالإستنفار ، وهي تحترم الحياة الإنسانية في حدود مصالحها هي ، لم تقل هكذا أشياء في هذه المعمعة الكلامية / المواقفية ، قلة من أشار الى هؤلاء القتلة أنهم فرنسيون ،( المعظم ) كتبوا أنهم مسلمون وهم في معركة مع الغرب ، ونصحوا بتجديد الخطاب الديني قاصدين تقنياته ووسائل توصيله لإدراك الإسلام الصحيح ، في مفترق يقود الى متاهة شفاهية تدلق في النار هشيما جديدا، وهكذا أصبح الفرنسيون في حضننا نتحمل وزر جريمتهم لإنهم على نفس ديننا ، وهكذا وعبر محاكمة سريعة على الشاشات وعلى صفحات الجرائد ،تم إعداد تهمة وحكم على شارلي لإن البينة واضحة في الرسوم المسيئة كدليل مادي واضح ، بينما تم تأجيل البحث في في تهمة القتلة ريثما تتم دراسة الأدلة الشرعية والتثبت من صحتها أو غفلتها ، وعند الإشارة ( من القلة طبعا) الى إمكانية مقاضاة شارلي المجلة ، تتم فورا إثارة موضوع المحرقة الذي لا ناقة فيه للمسلمين أو العرب ولا جمل ، فنحن لم نذبح ولم نحرق أحدا لا في الحرب العالمية الثانية ، ولا في تطهير أميركا من هنودها الحمر ولا في هيروشيما ، ومع هذا يمكن للنضال الإحتجاجي والقضائي في فرنسا ( والغرب ) أن يصل الى قوانين واحكام دستورية  تمنع الإساءة الى المعتقدات ، ولكن هكذا نضال كم هو حقيقي وصادق  ، وكم سيصمد ،عندما نرصد اقوال شيوخ الفضائيات ، وكتابات الراسخين في الدين السياسي ؟ هل هم مطالبون وملزمون بذلك أم لهم استثناء ؟


تجبرنا حادثة شارلي أبيدو على التفكير بالمكانة ،فبينما آلاف السوريين والعراقيين يسقطون تحت سكاكين " المؤمنين" ( بوكو حرام قتلت الفي نيجيري في نفس أسبوع حادثة شارلي) وتمر أخبارهم مرور الكرام ، بينما تستنفر الأقلام والشاشات " للبحث" في ملابسات الحادث الفرنسي ، ما يعني أن هناك تراتبية ما يجب ان تعلن ويجب أن تصحح، يجب البحث في اسرارها واسبابها بكل صراحة وشفافية ، وإلا لن تتصحح ،إذ أن مكانة الشعوب تحددها مجتمعاتها قبل دولها ، لإن القوة التي تصنع المكانة بالأساس ،هي قوة الإنتاج المجتمعي الذي يستتبع حيوية فائضة ،قادرة على الإستمرار في تنافس الوجود ، وأخذ مكان مناسب لها، لذلك تبدو المقالات والخطابات التي دبجت في هذه المناسبة وكأنها تبحث عن مكانة لهذه الجماهير التي لا تنتج إلا أقل القليل للمشاركة / التنافس في هذا الوجود الأرضي  ولا تمتلك أية قوة على التنافس، وليس لها بالحقيقة والواقع إلا شرعة حقوق الإنسان التي لا تعتقد ولا تلتزم بها ولا بمواثيقها وعهودها ، كي تحتكم اليها لتدلل على وجودها " المتساوي" مع وجود هؤلاء الأقوياء ، ولكن من قال أن إدعاء التساوي حسب شرعة حقوق الإنسان هذا هو أمر مرضي عنه عندنا ؟! وهنا إحدى أهم المفارقات المضحكة المبكية ، فنحن نرى أنفسنا ( وعلى الرغم جلد الذات ) أرقى بكثير منهم وأرفع حقوقيا ربما لدرجة أننا نتسامح معهم ، أو نصبر عليهم تقية الى حين قوة ، سامحين لهم بالعيش معنا على نفس الكوكبتفضلا منا ، هذا يجب أن يقال ويعلن ،إذ إن ما يقال وما يعلن  عن إختلال المكانة سببه الرجل الأبيض وحده ، غير صحيح دون النظر في أحوالنا نحن ، وفي فكرنا نحن ،لإن الرجل الأبيض يطلب هكذا عداء ، وربما يبدأ به ،فهو خير له ولمصالحه من التنافس الناتج عن حيوية المجتمعات المنتجة ، لذلك لم يناقش المعلقين العرب على هذا الحدث ، الحدث نفسه ، من أين أتى ولماذا وما هو تأثيره الحقيقي ، وهل هكذا رسوم قادرة على هدم الرسالة ، لم يناقشوا شيئا عدا تثبيت التهمة على الرسامين  والمجلة وعلى القوانين الفرنسية ،مؤكدين أنه لولا الرسوم المسيئة لما حصل الذي حصل ،ولكنهم وجميعهم يعرفون أن الحقيقة هي غير ذلك، يعرفون أن هكذا ايديولوجيات مبنية على إلغاء الآخر أي آخر وفي أي وقت  . وهذا أمر لا شرقي ولا غربي ، إنه ثقافة ممارسة على أرض الواقع.


في المقابل يصر هؤلاء المتداخلون بالتعليق على الحدث ،بالقول أننا نتعرض للإزدراء ، من قبل هاتيك المجتمعات أو الدول أو الغرب برمته ، وهو قول وعلى الرغم من تعميميته القتالة فيه الكثير من الصحة، وعلى الرغم من أن رواد عصر النهضة نبهوا اليه ودعوا للعمل على إلغاء أسبابه بالعمل والإنتاج لتبوء مكانة محترمة ليست بحاجة الى الدفاع عنها ، ومع الفارق الواسع بين الحب والكره وبين الإزدراء الذي هوقلةإحترام، ولكن السؤال الأساسي (مع تناسي مؤقتا شرعة حقوق الإنسان) ،هل يستحق ما فعلناه وما أنجزنا خلال حقبة القرن والنصف الماضيين يستحق الإحترام؟ .. فهل لدينا فكرة أو مفاهيم واضحة عن حق وحرية الإعتقاد مثلا ؟، أو حق وحرية التعبير مثالا آخر؟، حتى نرفع الصوت بالعقير والشكوى من ظلم الإزدراء( طبعا متناسين الظلم الإستعماري برمته)؟ هنا بالضبط وقف جل هؤلاء المتداخلين بالتعليق على الحدث ، والقلة القلية ذهبت الى جوهر المسألة طارحة فصل الدين عن السياسة والقضاء كتكثيف حقيقي لجوهر المسألة دون نسيان إدانة الإستعمار والتركيز عليها ، لذلك وبتبسيطية شديدة قرر هؤلاء الكثرة  وللمرة المليون على التوالي أو على حين غرة ، إلباس "الغرب"هوية ثقافية رغما عن أنفه وعن أنف الحقائق ، ليبدأوا  بتثريبه ومحاسبته على أنه خارج عن القيم الإنسانية ، بسبب مخالفته لشرعة حقوق الإنسان التي لا نعتقد بها ولا نمارسها ولا نحترمها ،وهذا في الظاهر الإعلاني لهذه التعليقات ، أما في العمق المموه بأكوام الكلام حول حرية الإعتقاد وحرية التعبير ، فكلنا نعرف أن هؤلاء يرون في الغرب فسطاط كافر وعدائه واجب واستراتيجي (وليس التنافس معه)، وغزوه آت لا محالة ، بدلالة الهوية التي البسناه إياها عنوة من جهة، وبدلالة التراث الذي لديه الحل للتعامل مع هكذا حالات ،لتصبح إدانة القتل في حادثة شارلي إيبدو ، هي إدانة للتوقيت ليس إلا، وهو ما ينطبق على "ضحايا" سوريا والعراق ، وكذلك ضحايا بوكو حرام في نيجيريا .


في مسألة الإزدراء هذه يطنب ويضخم هؤلاء الكثرة في الكلام والبحث وإطلاق المواعظ ، دافنين في طيات الكلام المتراكم ، مسألتين استعماريتين بإمتياز : الأولى هي استحقاقات العصر وهي استحقاقات مفهومية وعملية تحتاج الى جهد وشجاعة وإبداع ، والثانية هي التخلف الأداء المعبر عن الضعف والهوان ، هاتين المسألتين هما ما يريح الإستعمار بأشكاله المختلفة، وهاتين المسألتين ما يعمل هؤلاء الكثرة في هذه المناسبة أو غيرها ، بقصد أو من دونه الى إدامتهما ، عبر تبني تنظيرات هلامية عصابية تضع العربة أمام الحصان ، متناسين أن الإزدراء هو المظهر الأساسي بين القوي والضعيف ،إنتاجيا وإبداعيا .


إن نزع الجنسية الفرنسية عن مرتكبي شارلي إيبدو ، هو جزء بسيط من الهيولى الثقافية التي يسبح فيها هؤلاء ، خصوصا في مجالات حرية التعبير ، التي لا تبدو مسقوفة لديهم كما يحاولون أن يسقفوا حرية التعبير في الغرب تحت ذريعة حرية الإعتقاد ،فلم نرهم ولا مرة يردون على على سيل الشتائم والإتهامات الملقاة على الآخر وبوصفه آخر فقط من قبل علماء أفاضل أو دعاة محترمون على الشاشات او في بطون الأبحاث المنشورة او مسجلة على أحدث الأشرطة أو في السوشل ميديا ، على الرغم من تشابه الحالين في الظاهر على الأقل ؟ فهل سألوا أنفسهم أن الآخر يهان أيضا من حرية تعبيرهم هذه ؟


إننا في مأزق ثقافي حقيقي ، وقعنا فيه منذ القرن التاسع عشر ، ولم يسعفنا فيه لا محمد عبدو ولا أبو الأعلى المودودي ولا سيد قطب ولا عائض القرني ولا محمد عابد الجابري أو محمدعمارة ولا القرضاوي ولا أي من أمثالهم ، إننا نغرق بسلوكياتنا الناتجة عن ثقافتنا التي يحميها هؤلاء بذرائعية تبسيطية لا يمكن تسويقها إلا لأميين معرفيا وحضاريا . ترى هل ابتلعنا الثقب الأسود؟ أم لما نزل سائرون اليه بإبتسامتنا العريضة وأكوام فخرنا التي ينوء بحملها أبطال الفهم العقيم؟.


آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net